لم يعد خفيًا أن المقاومة في قطاع غزة المحاصر منذ عام 2006، تمتلك قدرات تمكّنها من قصف تل أبيب، مركز صناعة قرارات الاحتلال السياسية والاقتصادية، بل إنها تمتلك من القدرة ما يمكّنها من جعل جميع مدن الداخل المحتل، على اختلاف بُعدها من القطاع، تحت مرمى رشقات صواريخها.
إلا أن هذا التنوُّع والامتداد في قدرات المقاومة داخل قطاع صغير، جعل من الضرورة لها أن توحّد مسار عملياتها بين فصائلها المختلفة، حيث كل فصيل يجيد القتال يكون له موضع قدم في هجمات الاحتلال العسكرية بتنسيق بين الفصائل الأخرى، وهذا ما تنبّهت إليه كتائب الشهيد عز الدين القسام، الذراع العسكرية لحركة حماس، وسرايا القدس، الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي، في بدايات العدوان العسكري المتكرر للاحتلال على قطاع غزة منذ عام 2008.
نشأة الغرفة المشترَكة
كان هذا التعاون بين كتائب القسام وسرايا القدس الأبجديات الأولى لمرحلة التنسيق بين فصائل المقاومة المختلفة في القطاع، وقد استندوا فيها إلى ما نصّته وثيقة الوفاق الوطني في مايو/ أيار 2006 من “تشكيل جبهة مقاومة موحّدة للمقاومة ضد الاحتلال، وتنسيق عملها، وتشكيل مرجعية سياسية موحّدة لها”.
ومنذ بدايته، كان التنسيق بين الجناحَين العسكريَّين مؤقتًا ينتهي بانتهاء جولة التصعيد، ثم يعود كلّ جناح إلى مساره بشكل منعزل، فكان لا بدَّ من اتساعه مع امتلاك فصائل مقاومة أخرى صواريخ داخل القطاع، سبقها تغوّل الاحتلال في استهدافاته العسكرية ضد الفلسطينيين في القطاع، ويشمل ذلك التجمعات السكنية والأطفال والنساء.
في 23 يوليو/ تموز 2017، مع تصاعد الأحداث وتوترها في المسجد الأقصى، ومحاولة الاحتلال نصب بوابات إلكترونية في باب العامود في مدينة القدس المحتلة، أعلنت فصائل المقاومة الفلسطينية عن تشكيل غرفة عمليات مشتركة لمتابعة الأوضاع في القدس.
لاحقًا، عام 2018، بدأت تترسّخ بشكل رسمي الغرفة المشترَكة لفصائل المقاومة، والتي تضمّ 12 جناحًا عسكريًّا، وهي كتائب الشهيد عز الدين القسام، سرايا القدس، كتائب شهداء الأقصى-لواء العامودي، كتائب الشهيد عبد القادر الحسيني، ألوية الناصر صلاح الدين، كتائب المقاومة الوطنية الفلسطينية، كتائب أبو علي مصطفى، كتائب الشهيد جهاد جبريل، كتائب الأنصار، كتائب المجاهدين، مجموعات الشهيد أيمن جودة، وجيش العاصفة.
وتولّت الغرفة المشتركة تنسيق المهام الميدانية والعمل الإعلامي لفصائل المقاومة تحت جناحها، فعلى المستوى الإعلامي أصدرت الغرفة البيانات المشتركة بشكل موحّد من الفصائل، سواء كانت عن عمليات ميدانية اشتركت فيها الفصائل مجتمعة ضد الاحتلال، أو للإفصاح عن مواقف محددة تجاه تطورات في المستوى السياسي والميداني، ما أعطى الغرفة قوةَ الحضور، باعتبار خطابها جامعًا لمختلف الرؤى النضالية في قطاع غزة، ومرسّخًا لمبدأ رمزية المقاومة.
وبطبيعة الحال، كان الهدف الأول لغرفة العمليات المشتركة هو التنسيق والموافقة على الفعل المسلح للفصائل الفلسطينية، لا سيما في وقت الحروب، حيث لا بدَّ أن تجتمع كل القدرات والإمكانات في صف واحد متناسق، لإحداث أبلغ الضرر لدى الاحتلال، وأخذت على عاتقها تحقيق أوسع قاعدة فصائلية شعبية داعمة للمقاومة المسلحة.
عمليات ميدانية نوعية
على الصعيد العسكري، يتمثّل عمل غرفة العمليات في قيامها بالتخطيط لتنفيذ عمليات عسكرية مشتركة، بشكل يزيد الضغط والتأثير على جيش الاحتلال وأجهزته الأمنية، حيث تعتبر الأجنحة المسلحة أن قتالها المشترَك ضد الاحتلال يحمل بذور تشكيل جيش وطني لمواجهته دون استحواذ فصيل على آخر، بل بتنسيق ميداني عملياتي، لإشراك كافة الفصائل لتنفيذ العمليات المشتركة، لا سيما أن برامجها السياسية متقاربة، ما يجعل من توجهها هذا استراتيجيًّا وليس تكتيكيًّا.
فبعد أشهر من انطلاقتها، تبنّت الغرفة المشتركة استهداف 7 مواقع عسكرية إسرائيلية في غلاف غزة، بعدد من الرشقات الصاروخية منتصف 20 يونيو/ حزيران 2018، وذلك ردًّا على العدوان الإسرائيلي المتواصل في استهداف مواقع المقاومة في قطاع غزة، وترويع أبناء شعبنا الآمنين، لتكون باكورة عمليات تنفّذها الغرفة المشتركة.
وفي الشهر ذاته، أعلنت الغرفة المشتركة مسؤوليتها عن استهداف عدد من المواقع العسكرية الإسرائيلية في غلاف غزة، برشقات صاروخية نتيجة استهداف سيارة مدنية، ادّعى الاحتلال حينها أنها تضمّ نشطاء من مسيرات العودة، وتوالت فيما بعد العمليات العسكرية المشتركة بين فصائل المقاومة في غرفة واحدة، حتى استهداف حافلة للاحتلال في إحدى مستوطنات غلاف غزة في نوفمبر/ تشرين الثاني 2018.
نجحت غرفة العمليات المشتركة في تذويب الخلافات بين الفصائل الفلسطينية، حيث لم يستطع ميدان العمل السياسي فعل ذلك، وركّزت على وحدة ميدان المقاومة تحت راية المقاومة الفلسطينية بعنوانها الأشمل.
في آخر أيام 2020، شهد قطاع غزة، ولمدة يومَين، تنفيذ أكبر مناورة عسكرية لغرفة العمليات المشتركة المسمّاة “الركن الشديد”، وشملت تنفيذ تدريبات برّية وبحرية وجوّية وبالذخيرة الحية، تحت غطاء الطائرات المسيَّرة التي حلقت في أجواء القطاع، وتخلّلها إطلاق صواريخ تجريبية باتجاه البحر، وكانت هذه المناورات هي الأولى من نوعها بهذا الشكل، والتي جمعت كل الأجنحة العسكرية في تدريبات مكثفة، للاستفادة من خبرات بعضها.
أما في حرب مايو/ أيار 2021، أطلقت الغرفة المشتركة أكثر من 300 قذيفة وصاروخ، وصفتها بأنها أكبر ضربة صاروخية في تاريخ الاحتلال الإسرائيلي، “خاصةً لمواقع العدو في تل أبيب وضواحيها، وقد فشلت قيادة العدو، وهي تنظر إلى كيانها وهو يحترق، في توقع استعداد المقاومة ومستوى جهوزيتها للدفاع عن شعبنا ومقدساته، وستبقى المقاومة مستمرةً في الدفاع عن شعبنا وما زال في جعبتها الكثير في حال استمر العدو في عدوانه”.
شكّلت الغرفة المشتركة إشكالية لدى الاحتلال، في أنه بات يواجه جبهةً واحدة لا أجنحة متفرقة يستفرد فيها، وعليه شرع في عدوان جديد، مروّجًا فيه لفكرة الاستفراد بجناح عسكري وحده (الجهاد الإسلامي) هذه المرة، في مساعيه لضرب وحدة الغرفة المشتركة.
إلا أن الصفعة جاءت للاحتلال من خلال استمرار الغرفة المشتركة في عملياتها، وإطلاق رشقات صواريخها، جاعلة الجهاد الإسلامي يتصدر المشهد، مغيّبة حماس عن الواجهة، وذلك وفق تكتيكات الحرب والتصعيد، وحسابات الربح والخسارة.
نجحت غرفة العمليات المشتركة في تذويب الخلافات بين الفصائل الفلسطينية، حيث لم يستطع ميدان العمل السياسي فعل ذلك، وركّزت على وحدة ميدان المقاومة، تحت راية المقاومة الفلسطينية بعنوانها الأشمل، ولعلّ نجاحها الأكبر يكمن في أنها استطاعت أن تثبت للفلسطينيين قبل كل شيء، أن سنوات الانقسام السياسي يمكن أن تُنسى في ميادين المعركة.