السيارات الفارهة تجول وتصول في شوارعها التي تمتلئ بالمتسولين، من أطفال وكبار سن ومعوّقين، والحفلات الصاخبة الباذخة تكاد تعلو أصوات قرقرة الجوع في أسوأ مدينة للعيش في العالم، هكذا تبدو الحياة المتناقضة في العاصمة السورية دمشق.
وبين هاتين الطبقتَين تختفي الطبقة الوسطى، فإما ثراء فاحش وإما فقر مدقع، وهو ما يضع البلاد في مأزق مجتمعي يفصل فيه جدار المال الناس عن بعضهم، فيما يصرّ نظام الأسد على أن البلاد -التي أكلتها حربه على شعبه- بخير وعلى أحسن ما يرام، ولأجل ذلك يستقطب العديد من مشاهير اليوتيوب ومؤثري شبكات التواصل ليشاركوه رواية “بلد الأمان”.
في سبيل إعداد هذا التقرير، تواصلنا مع 7 سوريين يعيشون في مناطق سيطرة النظام، بالخصوص دمشق وحماة وحمص، للوقوف على حياة الناس وظروفهم الحالية، والأزمات الأساسية التي يواجهونها.
طابور
كان أكثر ما يلفت الانتباه بحديث الشاب صالح أبو الوفا (29 عامًا)، قوله: “الموت أفضل من العيش في هذه البلاد الخربة”، ويضيف: “كنت مرة اقرأ عن أن الناس في الغرب يرفعون القضايا على آبائهم لأنهم اختاروا لهم أسماء لا تعجبهم، لو أمكن لي لرفعت قضية ضد أبي وأمي لأنهما أنجباني في هذا البلد”، يضحك ساخرًا، ولم يستطع أبو الوفا إكمال تعليمه في فرع الجغرافيا بكلية الآداب بدمشق، وذلك لمساعدة أبيه وأمه في مواجهة الأوضاع الصعبة.
والد صالح لم يرضَ لابنه الهجرة والرحيل إلى خارج سوريا، فهو ابنه الذكر الوحيد، مع 4 بنات، 2 منهما في ألمانيا مع عائلتَيهما، وهنا يقول الابن خلال حديثه لـ”نون بوست”: “لولا أختَي اللتين في الخارج لكانت أحوالنا في الويل، إذ ترسلان لنا كل 3 شهور مبلغًا نعين به أنفسنا إلى جانب عملي أنا في إصلاح السيارات”.
وتشكّل التحويلات المالية التي يرسلها سوريو الخارج لأهاليهم وأقاربهم في الداخل شريان حياتهم واقتصادهم، حيث تقدِّر بعض الدراسات أن حجم التحويلات السنوية إلى سوريا يبلغ نحو 1.62 مليار دولار، وتبلغ التحويلات اليومية إلى سوريا نحو 5.4 ملايين دولار، وتشير تقارير إلى أن نسبة السوريين المقيمين داخل البلاد ويعتمدون في معيشتهم على الحوالات الخارجية تقدَّر بـ 70%، ويبلغ متوسط مبالغ الحوالات التي تصل إلى الأسرة 200 يورو شهريًّا.
وعن آماله وأحلامه، يقول صالح المقيم في منطقة الحلبوني في العاصمة دمشق، إنها “ماتت ولم يعد يشعر بهذه الكلمات منذ زمن بعيد”، عدا عن ذلك يبتعد صالح عن وسائل التواصل الاجتماعي خاصة تطبيق إنستغرام، لأن ذلك يصيبه بالتوتر، “اليوم يستعرض ميسورو الحال أنفسهم على إنستغرام، وعندما أتصفّح أرى أنني لا أملك ما يملكونه فأصاب بالتوتر، خاصة أن بعضهم لا يملك الأشياء التي يستعرضها”.
لا تخلو أيام الشاب صالح من المعاناة مع طوابير الغاز والخبز وباقي السلع، ومن وجع التعامُل مع “البطاقة الذكية”، لافتًا إلى أن وقته في السنوات الخمسة الماضية “ذهب بين تأمين المياه للخزّان وجلب جرة الغاز وشراء الخبز، بالإضافة إلى العمل، أنا أقطع من نومي لأجل هذه الأشياء، كيف يعيش الشاب خارج سوريا؟”.
وبالوقوف قليلًا عند ما يُسمّى بالبطاقة الذكية، فهي عبارة عن بطاقة بدأ النظام بفرضها على السكان في دمشق منذ عام 2017 لاستلام الوقود، وبعد ذلك عمّم الفكرة على جميع مناطق سيطرته، كانت هذه الخطوة المفاجئة بداية مشوار طويل لمعاناة السوريين مع هذه البطاقات، إذ ترتبط البطاقة الذكية بالرقم الوطني للشخص، ومع مرور الأيام لم تعد هذه البطاقة للوقود فحسب، إنما أصبحت لاستلام جرّات الغاز ومن ثم الخبز وبعض السلع الرئيسية كالأرز والشاي والسكّر.
باتت هذه البطاقة بحدّ ذاتها إحدى المعضلات التي تعقّد حياة السوريين، حيث صارت مدخلًا للابتزاز من قبل المسؤولين عنها، حيث يحتاج استخراجها اليوم إلى تقديم رشاوى من قبل المواطنين، عدا عن انتظار أوقات طويلة من أجل الفوز بها، كما أن هذه البطاقة فتحت بابًا لعناصر النظام من أجل استغلال الناس، حيث يأتي العسكري يعرض على المواطن أن يستلم له المواد التموينية دون طابور، مقابل أخذ قسم من هذه البضائع أو مبلغ مالي.
عتمة
أما عن الكهرباء، فأصبحت سلعة نادرة، إذ تعيش البلاد أزمة خانقة، ويعاني السكان من أزمة مستمرة لم يضع النظام لها حلًّا، فمؤخرًا زادت ساعات قطع التيار الكهربائي، وباتت العوائل اليوم تعتمد على ألواح الطاقة الشمسية والبطاريات لإضاءة وتشغيل بعض الأجهزة الخفيفة.
ولا يوجد جدول واضح يبيّن أوقات القطع ومدّته في كل منطقة، لكن تقديريًّا تعاني المحافظات السورية من انقطاع التيار الكهربائي لأكثر من 22 ساعة في اليوم، بمعدّل 11 ساعة قطع مقابل ساعة وصل واحدة، وفي بعض المناطق تكون 8 ساعات قطع ونصف ساعة وصل، وفي معظم الأحيان قد لا تتجاوز ساعات الوصل على مدار كامل اليوم الساعة الواحدة مقسّمة على نصفَي ساعة.
وفي هذا السياق، يشير أسامة دراج (43 عامًا) إلى أن الكهرباء في بلدته الكسوة في ريف دمشق الغربي لا تأتي إلا ساعة في الصباح ومثلها ليلًا، ولذلك يعتمد على ألواح الطاقة الشمسية التي تغذّي بيته بالإنارة، ويعتمد بها على شحن بعض الأجهزة الإلكترونية.
وغيّر أسامة مهنته من العمل كمعلّم كهرباء إلى العمل في مجال الطاقة الشمسية، وذلك منذ 6 سنوات، وفي حديثه لـ”نون بوست” يقول إن ألواح الطاقة باتت السبيل الرئيسي للخروج من أزمة الكهرباء في البلاد، “لكن أسعار هذه الألواح مرتفعة، ومن أجل مد بيت كامل بالكهرباء يحتاج المرء لمبالغ باهظة”.
يوضّح أسامة أن “العوائل ميسورة الحال تضع منظومة طاقة كاملة تكون قدرتها التشغيلية عالية، إذ إنها تشغّل الأجهزة الكهربائية في المنزل، وتصل تكلفتها إلى 13 مليون ليرة سورية، أي ما يقارب 3 آلاف دولار”، لافتًا إلى أن “بعض العوائل تضع دارة صغيرة مع لوح طاقة شمسية واحد أو لوحين بقيمة 300 دولار تقريبًا للإنارة وبعض الاستخدامات الخفيفة، أما من لا يستطيع تركيب ألواح الطاقة الشمسية فإنه يعتمد على البطاريات التي يشحنها في الوقت الذي تأتي فيه الكهرباء، وهذا الأمر معاناة بحد ذاته لأن البطاريات الموجودة في الأسواق رديئة وتحتاج تبديلًا كل عدة أشهر، وهو مصروف إضافي يثقل كاهل العوائل”.
وكشفَ وزير الكهرباء في حكومة النظام السوري، غسان الزامل، عن احتمالية تعرُّض مناطق سيطرة النظام لحالة “تعتيم عام”، مشيرًا إلى أن “التعتيم يعدّ من أسوأ الحالات التي تتعرض لها المنظومة الكهربائية”، لكنه في الوقت ذاته لفت إلى أن واقع الكهرباء في البلاد “سيشهد تحسنًا خلال الفترة القادمة، لكن مع إعادة تأهيل وتجهيز المحطات التي تحتاج فترة زمنية طويلة”، وقال إن وزارته “تسعى لأن تكون هناك 12 ساعة تغذية من أصل 24 ساعة، للوصول على الأقل خلال العام القادم لقِيَم توليدية جيدة”، مضيفًا أنه “في حال انتهاء سيطرة “قسد” على شرق الفرات، ستتحسّن الكهرباء تلقائيًّا دون الحاجة لأي وقت”.
لا وقود
تعطِّل أزمة الوقود مصالح الناس وتعيق تحركهم لكسب قوت يومهم، ويمثّل نقص المحروقات واحدة من أكبر أزمات السوريين اليوم، حيث يشير أبو طارق (40 عامًا) إلى أن عمله مرتبط بسيارته، لأنه يعمل في إصلاح أعطال البيوت وترميم الأثاث وطلاء الجدران، ويقول لـ”نون بوست”: “عملي جيد على عكس البعض، وأيضًا مدخولي لا بأس به، أستطيع من خلاله أن ألبّي حاجات عائلتي، هذا الكلام في الأيام التي أستطيع مد سيارتي بالبنزين من محطة الوقود”، مشيرًا إلى أنه في كثير من الأيام لا يجد وقودًا، ما يجعله عاطلًا عن العمل لمدة 10 أيام متتالية.
مؤخرًا، رفعت حكومة النظام سعر البنزين بنسبة 127%، إذ ارتفع سعر اللتر المدعوم من 1100 ليرة إلى 2500 ليرة، وهذه المرة الثالثة التي يرفع فيها النظام أسعار المحروقات خلال هذه السنة، وكان آخرها زيادة سعر لتر البنزين المدعوم في شهر مايو/ أيار الماضي من 750 ليرة إلى 1100 ليرة، وقالت وزارة التجارة الداخلية إن قرار رفع سعر البنزين يأتي “بهدف تقليل الخسائر الهائلة في موازنة النفط، وضمان عدم انقطاع المادة أو قلة توافرها”، كما رفعت الوزارة سعر البنزين غير المدعوم من 3500 ليرة إلى 4000 ليرة مقابل اللتر الواحد.
يقول أبو طارق، وهو من مدينة زملكا في الغوطة الشرقية، لـ”نون بوست”: “رفع الأسعار الأخير للوقود سيؤثر على دخلي، وبهذه الحالة سأزيد مصاريف سيارتي من خلال اقتطاع جزء من مصاريف المنزل، وهذا الأمر مخيف”، مشيرًا إلى أن عائلته لم تشهد استقرارًا ماديًّا منذ سنوات، ما يدفع أخوته في الخارج إلى أن يرسلوا له كل شهرَين أو ثلاثة حوالة يسند بها مصروف عائلته.
أزمات فوق أزمات
لا يقتصر الأمر على ما سبق من أزمات، وإن كانت هي الأكبر والتي ترهق حياة الناس يوميًّا، حيث تجرّ هذه المشاكل خلفها طابورًا من الأزمات التي تساهم في إضعاف الإنسان السوري من شتى المناحي، فمثلًا باتت الطوابير على شراء الخبز مادة للتندُّر والسخرية من بعض السوريين في الخارج، ومع أن انقطاع الخبز هو أزمة كبيرة، إلا أن وجود ثقافة الطابور باتت مشكلة خلقها نظام الأسد لإذلال السوريين بشكل غير مباشر كعقاب على انتفاضتهم ضده، ومن جانب آخر بالفعل يوجد شحّ في المواد بسبب العقوبات الخارجية المفروضة على البلاد بسبب بقاء الأسد.
باتت أبسط الأمور تشكّل معضلة كبرى بالنسبة إلى المواطن، فمثلًا بات الاستمتاع بحمّام ساخن في أيام الشتاء حلمًا، لانقطاع الكهرباء أو الوقود أو المياه، لذلك بات السوريون يتوجهون إلى حمّامات السوق لتجاوز الأزمة، خاصة في الشتاء.
وعلى ذكر الشتاء، تكمن المعاناة الأكبر في كيفية تأمين وسائل التدفئة، إذ إن السوريين يعتمدون إما على مدافئ كهربائية وإما صوبات المازوت، أما الكهرباء تحدّثنا عن انقطاعها المتواصل، وكذلك الوقود إن وُجد فسيكون ثمنه مرتفعًا ويتطلّب صبر أيوب للوقوف في الطابور، وفي السياق ذاته فإن الجسم يحتاج إلى طعام يتناسب مع هذا الفصل مثل الحلويات وغيرها، لكن هذه لم تعد من الأولويات وسط رحلة البحث عن وجبة طعام أساسية، والحال صيفًا كحال الشتاء، فما السبيل مع آب اللهاب؟ المكيّف؟ كيف نشغله! بطاقة الرياح؟
ويضاف إلى ما سبق أيضًا مشكلة التنقل، إذ يتزاحم الناس على المواقف المخصَّصة، منتظرين على أمل الفوز بمقعد في باص النقل العام أو الميكروباص، وفي حال وجد الواحد مكانًا بعد انتظار لساعات، فإنه سيعاني إلى حين الوصول إلى وجهته بسبب الازدحام داخل وسيلة النقل، إذ إن الميكروباص في سوريا مخصَّص لنقل 12 راكبًا وليس 20 أو يزيد، بل بلغ الأمر في أيام الأزمات الشديدة أن يصعد ركاب إضافيون على سطح الحافلة، وإن أراد الإنسان طلب تاكسي فلا بدَّ له أن ينتظر وقتًا طويلًا أو يدفع مبلغًا طائلًا لسائق التاكسي، الذي يتعامل مع الزبون على أساس أنه مضطر ويطلب منه الدفع كما يريد.
1%
تقلّصت الطبقة الوسطى في سوريا إلى النصف تقريبًا بحسب تقرير للأمم المتحدة صدر عام 2014، فمن 56.5% عام 2007 إلى 26% عام 2014، حيث كانت تتقلص بنسبة 9% سنويًّا، أما اليوم فلا يوجد إحصاءات رسمية، لكن خبراء يذكرون أن نسبة أصحاب الحالة المتوسطة في البلاد أمست 1% فقط من إجمالي المتواجدين في سوريا.
وهنا ننقل ما قاله الاقتصادي السوري الدكتور أسامة قاضي، بخصوص هذا الموضوع: “يوجد انزياح كارثي في طبقات المجتمع السوري، الذي بات بتقديري اليوم 60% منه تقريبًا ضمن الطبقة الفقيرة، و25% الطبقة المدقعة الفقر التي تتضور جوعًا، وأقل من 10% أدنى موقع في الطبقة الوسطى، و5% من الميسورين”.
تشير الإحصاءات إلى أن معدل الفقر في سوريا بلغ 90% بين عامَي 2020 و2021، وتعاني نحو 8.3% من الأسر من انعدام شديد بالأمن الغذائي، و47.2% يعانون من انعدام متوسط، في حين يتمتّع نحو 39.4% بأمن غذائي مقبول، لكنهم معرّضون لانعدامه مع أي صدمة تتعلق بارتفاع الأسعار، وتقول الأمم المتحدة إن عدد المحتاجين إلى المساعدة في سوريا بلغ 14.6 مليونًا عام 2021 بزيادة 1.2 مليون عن عام 2020، ويُقدَّر من يعيشون في فقر مدقع بنحو الثلثَين من بين 18 مليون شخص يعيشون في سوريا حاليًّا.
دراسة للأمم المتحدة نُشرت عام 2010 تخلص إلى أن 5.3 ملايين شخص في سوريا كانوا يعانون من الفقر، وتوضّح دراسات أخرى أن 1% منهم كانوا تحت خط الفقر، ويذكر أن معدلات الفقر في سوريا عام 2007 كانت 33.2%، وفق خط الفقر الوطني، بعد أن سجّلت 14.26% عام 1997 و11.39% عام 2004، أي أن نحو 6.7 ملايين سوري كانوا يعيشون تحت خط الفقر عام 2007.
مع انعدام الطبقة الوسطى زادت حدة التباعُد بين الطبقتَين الغنية والفقيرة في سوريا، فعلى سبيل المثال يصل فارق الدخل إلى ملايين الليرات، إذ يحقق البعض من عمله في القطاع الخاص دخلًا يصل في بعض الأحيان إلى 10 آلاف دولار، في حين أن متوسط الرواتب في الوظائف الحكومية يقلّ عن 40 دولارًا.
يرى أسامة قاضي أن انعدام الطبقة الوسطى ستكون “انعكاساته خطيرة على مستقبل سوريا، حتى بعد الحل السياسي الذي لا يبدو أنه قريب، ضمن التقسيم الواقعي لمناطق النفوذ الثلاثة في سوريا الروسي والأمريكي والتركي، بانتظار التقسيم الذي يبدو أن الدول ستتأخر بالإعلان عنه، وهي تطالب بـ”وحدة” الأراضي السورية والمقصود بها أن سوريا موحدة شرط “بقاء مناطق النفوذ””.
توجهنا بالسؤال عن هذا الأمر إلى الطبيب ليث أبو عزام (42 عامًا)، العامل في أحد مشافي دمشق، وقال: “لا أظن أن موظفًا حكوميًّا اليوم يعيش من راتبه، وإلا فإنه حتمًا سيجوع وربما يفقد حياته لو اعتمد على هذا المعاش، وأظن أن غالب هؤلاء الموظفين إما يعتمدون على وظائف إضافية في القطاع الخاص وإما على الحوالات الخارجية التي تصلهم من بلدان المهجر”.
ويضرب الطبيب المثل بنفسه: “أنا راتبي في المشفى الحكومي 500 ألف ليرة ولدي 4 أولاد وزوجتي، هل أستطيع بهذا الراتب إعالة نفسي وأهلي؟ بالطبع لا، ما ييسّر عليّ الأمر أنني أعمل في مشفى خاص ليلًا، وأتقاضى معاشًا يتناسب مع ما تقتضيه معيشتي”.
أما عن حالة الطبقية، فيشير إلى أن “هذا الأمر من مخلفات الحروب.. خاصة أن السنوات ما بين 2012 و2018 استفاد بعض الأغنياء من الحرب، حيث عمل الكثيرون بتجارة السلاح وبيع المواد إلى المناطق المحاصرة بأبهظ الأثمان، ليحققوا أرباحًا خيالية، وهذا الأمر على مرأى ومسمع من المسؤولين، ما ساهم بتشكيل طبقة استطاعت أن تعزل نفسها عن حالة الفقر المتفشية”، ويلفت الطبيب أبو عزام إلى أن هذه الطبقة هي من تحرك البلد حاليًّا، بالإضافة إلى الحوالات الخارجية للناس الفقيرة.
وفقًا للطبيب، فإن الفقر ينهش الناس في الداخل شبابًا وكبارًا في ظل استعصاء الأزمات وما من حلول قريبة، ما يجعل الأمر يزداد تعقيدًا يومًا بعد يوم، والفقراء -وفقه- يبحثون عن الأطباء المشهورين بمساعدة الناس، ولا يذهبون إلى المشافي الحكومية لأنك في حال دخلت ذلك المشفى سيتعيّن عليك جلب الدواء اللازم والأدوات مثل الحُقَن والمحاليل، وعليك أن تجري التحاليل خارج المشفى لأن كل ذلك غير متوفر في هذه المؤسسات، أما الأغنياء فلا يبالون بهذه الأمور أبدًا.
في السياق ذاته أيضًا، تجيبنا الطالبة في جامعة البعث، لبنى عبد الغني، عن الوضع المزري والتفاوت الطبقي حيث وصل الأمر إلى الجامعات، وتصف لبنى الحال في مدينتها وجامعتها قائلة: “على طاولة أحد المطاعم في الأحياء التي لم يطلها الدمار، قد ترى سفرة عشاء بكلفة تقارب مليون ليرة سورية، وبالدخول إلى قلب المدينة المدمَّر ستجد من لا يجد كفاف يومه”.
وتضيف: “السواد الأعظم من سكان مدينتي حمص كانوا يصنَّفون ضمن الطبقة الوسطى، لكن الأحوال الاقتصادية الحالية ضعضعت هذه الطبقة لينقسم أهل المدينة بين فئتَين: غنى فاحش وفقر مدقع، فئتان بتفاوت هائل بشكل يجعل المتأمل في تفاصيله يكاد يفقد صوابه”.
تضيف لبنى: “تبدو مظاهر هذا التفاوت جلية في المناسبات الاجتماعية التي لا تخلو الحياة اليومية منها، يبذخ الأغنياء هنا أيما بذخ، ويدفعون مبالغ طائلة لإقامة حفلات الزفاف الضخمة، ومبالغ أخرى مجنونة لتزيين غرف المواليد في المشافي الراقية الخاصة، مظاهر ترف جنونية تراها أينما التفتَّ، في المقابل على الفقير أن يفكر ألف مرة قبل الإقدام على خطوة الزواج، فالفقراء لا يحصلون على أساسيات الحياة وأقل الخدمات بسهولة، وقد يضطرون أحيانًا للتنازل عنها”.
وحسب مشاهدات لبنى خلال حياتها الجامعية، “يتعثر كثير من الطلبة دراسيًّا بسبب العوز المادي، فازدياد أسعار المقررات الدراسية والكتب والمحاضرات الورقية لا يصدَّق، قد تظنون أن بإمكانهم استبدالها بالنسخ الإلكترونية، ماذا لو قلت لكم إن بعضهم ليس لديه رفاهية امتلاك الحواسيب المحمولة أو الهواتف الذكية؟ هذه ليست مبالغة على الإطلاق، بل واقع مشاهَد وحالات مرصودة”.
أما على الضفة الأخرى، “يُقدَّم كل شيء للطلبة الشباب من أبناء الأثرياء على طبق من ذهب، يمكنك أن تميّز هذه الفئة في كل دفعة دراسية، السيارات والألبسة الفاخرة والمقاهي والنزه والنوادي الرياضية مع الحميات الغذائية عالية البروتين والتكلفة أيضًا، كل ذلك ترقبه أعين الطلبة الأدنى ماديًّا، بإرادة منهم أو دون، فالحال أصعب من أن يخفى”.
صورة
يصوِّر النظام السوري البلاد ويعرضها بعيون تلك الطبقة الغنية وفي أحيائهم، ومن أجل ذلك يتعاقد مع بعض مشاهير منصات التواصل الاجتماعي لزيارة البلاد من أجل تحسين صورته، ورسم صورة في الخارج أن البلاد صارت في مأمن، وفي هذا الصدد ذكرت صحيفة “واشنطن بوست” أن “نظام الرئيس السوري بشار الأسد حاول بعد سقوط مدينة حلب قبل 6 سنوات، تجنيد صحفيين دوليين للمساعدة في تلميع صورته، لكن جهوده باءت بالإخفاق، وخرج بدرس من تلك التجربة مفاده أنه طالما أن العالم ينظر إلى سوريا من منظور سياسي، فإن النظام لن يحصل على التغطية الإعلامية المرغوبة”.
وبعد إخفاقه في تلك التجربة، عمد النظام السوري إلى تجنيد مستخدمي اليوتيوب والمؤثرين في مواقع التواصل الاجتماعي لتلميع صورته، إذ يعتبر معظم المؤثرين الذين يركّزون على الأسفار أن مجالهم لا علاقة له بالسياسة، ويهتم جمهورهم بشكل أساسي بالمشاهد والأصوات والنكهات، والمحتوى الذي ينتجونه مبهج في عمومه.
ويشير التقرير إلى أن “معظم المؤثرين الذين ينشرون مقاطع فيديو من سوريا يبدون غير مبالين بالفظائع التي حدثت في البلد، لكن بعضهم يشعر بالذنب، ويترجمون ذلك من خلال بعض التعليقات الصادرة عنهم، من قبيل نفي وجود أجندة سياسية وراء مقاطع الفيديو التي ينشرونها”.
ولعلنا هنا أيضًا لا نتحدث عن المشاهير الذين يأتون من الخارج، بل عن السوريين الذين باتوا ينشرون يومياتهم من دمشق وحمص وحلب، حتى يظنّ الرائي أن هذه البلاد لم ترَ بؤسًا أو عايشت حربًا ضروسًا، وبرصد بعض وسائل التواصل تجد الكثير من الصور والمقاطع الدالة على ذلك.
لكن المنظمات الدولية، وعلى رأسها الأمم المتحدة، ما زالت تصدر البيانات التي تؤكد فيها أن سوريا ما زالت غير آمنة، كما أشارت منظمة العفو الدولية إلى أن النظام السوري اعتقل بعض السوريين الذين عادوا إلى البلاد وأخضعهم للتعذيب، وتقول المنظمة: “لا مأمن للاجئين العائدين في أي مكان في سوريا، وفضلًا عن ذلك، فإن ثمة خطر حقيقي في أن يتعرض اللاجئون الذين رحلوا عن سوريا منذ بدء الصراع للاضطهاد لدى عودتهم، بسبب ما تنسبه السلطات إليهم من الآراء السياسية، أو بهدف معاقبتهم على فرارهم من البلاد وحسب”.