لم تهنأ الحكومة المالية والحركات المتمردة طويلًا بما خرج به اجتماع الأسبوع الماضي الذي جدد فيه الطرفان الالتزام بتنفيذ اتفاق الجزائر 2015، وذلك بعد أن رفعت تنظيمات مسلحة عملياتها في محاولة لتقويض هذا الاتفاق، رغم تعهد السلطات في بماكو بإدماج أكثر من 20 ألف مقاتل في صفوف الجيش الوطني، وهو ما يجعل مهمة الحكومة المؤقتة في البلاد صعبة، بالنظر إلى أنها مطالبة بإثبات أن قرارها بطرد القوات الفرنسية والغربية من البلاد كان صائبًا.
وبعد جفاء امتد لأشهر مع الأمم المتحدة، استطاعت الحكومة المؤقتة في مالي أن تحصل على إشادات من الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش الذي ثمن مخرجات الاجتماع الأخير بين أطراف النزاع في مالي.
26 ألف مقاتل
احتضنت العاصمة بماكو الأسبوع الماضي على مدار خمسة أيام أشغال الدورة الثانية للاجتماع رفيع المستوى للأطراف في اتفاق السلم والمصالحة في مالي، الذي جمع الأطراف الموقعة على الاتفاق المنبثق عن مسار الجزائر 2015، وأعطى جرعة أمل لإنهاء حالة الاحتقان بالبلاد التي تعاني من عدم الاستقرار وعمليات عنف منذ أكثر من عقد.
وقال رئيس الوزراء المالي تشوغويل مايغا في حفل الختام بحضور مسؤولي الحركات والوساطة الدولية إن السلطة المؤقتة في البلاد لن تدخر أي جهد لتنفيذ جانبها من الالتزامات في إطار اتفاق السلم.
تكمن أهمية مخرجات اجتماع الأسبوع الماضي في أنه وسع قائمة المتمردين المعنيين بالإدماج في الجيش إلى 26 ألف عنصر من المقاتلين القدامى على دفعتين قبل نهاية سنة 2024، واستحداث وتفعيل لجنة مختصة تتكفل بالأعمال الخاصة بالإطارات المدنية السامية والعسكريين التابعين للحركات الموقعة، وإطلاق الحكومة إصلاحات سياسية ومؤسساتية غير مرتبطة بالتعديل الدستوري.
وتضمن مسار الجزائر 2015 إنهاء حالة الحرب بين الحكومة وحركات متمردة، وبالخصوص في شمال البلاد غير بعيد عن الحدود مع الجزائر وموريتانيا، لكن الاقتتال انتقل في السنوات الأخيرة إلى منطقة الحدود الثلاثة بين مالي وبوركينافاسو والنيجر.
ونص اتفاق الجزائر أيضًا على وضع لجان فنية تهتم بنزع كل أشكال التسليح وبسط سيطرة الجيش وإدراج عناصر الحركات المسلحة في الجيش المالي والشرطة المحلية ومكافحة الإرهاب، إضافة إلى اتخاذ تدابير التنمية والرعاية الاجتماعية لمناطق الشمال، لكن الكثير من هذه البنود لم تنفذ، وبالخصوص ما تعلق بنزع كل أشكال التسليح.
ومسار الجزائر هو اتفاقية لتحقيق الأهداف السابقة الذكر بين الحكومة المالية وست حركات متمردة هي: الحركة الوطنية لتحرير أزواد والمجلس الأعلى لوحدة أزواد وحركة أزواد العربية وحركة أزواد العربية المنشقة وتنسيقية شعب أزواد وتنسيقية الحركات والجبهات الوطنية للمقاومة، واستثنيت وقتها التنظيمات المرتبطة بتنظيم القاعدة، إلا أن الوضع ازداد تعقيدًا الآن بظهور حركات وتنظيمات جديدة وضعف وزن حركات أخرى، إضافة إلى ظهور جماعات مسلحة مرتبطة بتنظيم داعش.
ولم تستبعد أوساط سياسية في مالي خلال الأشهر الماضية إمكانية توسيع الاتفاقية لتضم مقاتلين ينتمون إلى تنظيمات مسلحة لم توقع مسار الجزائر، بهدف تنفيذ مصالحة وطنية تنهي حالة العنف التي تعيشها البلاد.
ترحيب
في منتصف يوليو/تموز الماضي، أعلنت وزارة الخارجية في مالي تعليق جميع عمليات تناوب كتائب الجنود والشرطيين التابعة لبعثة الأمم المتحدة في مالي “مينوسما”، بما في ذلك تلك التي كانت مقررة أو تم الإعلان عنها، وهو ما اعتبر دليلًا آخر على التوتر القائم بين المنظمة الأممية بدعم من دول غربية في مقدمتها فرنسا بشأن تسوية العملية السياسية في بماكو وموقفها من وجود القوات الأجنبية.
وصبت كل التصريحات في خانة توتر العلاقات أكثر فأكثر بين الرئاسة المؤقتة في بماكو والأمم المتحدة، خاصة بعد اعتقال وطرد 49 جنديًا من ساحل العاج وصفتهم باماكو بـ”المرتزقة” واتهمتهم بأن لديهم “هدفًا كارثيًا” وهو “كسر ديناميكية إعادة تأسيس دولة مالي”، في حين قالت السلطات في كوت ديفوار إن نشر هؤلاء الجنود في مالي كعناصر دعم وطنية، هو إجراء للأمم المتحدة يسمح لكتائب مهمات حفظ السلام بالاستعانة بجهات خارجية للحصول على الدعم اللوجستي.
كما أمر المجلس العسكري الحاكم في مالي في 20 يوليو/تموز المنصرم بطرد المتحدث باسم بعثة الأمم المتحدة “مينوسما” أوليفييه سالغادو، متهمًا إياه بنشر معلومات مغرضة وغير مقبولة على شبكة تويتر بخصوص قضية الجنود الإيفواريين.
واستمر هذا التوتر قائمًا حتى اجتماع الأسبوع الماضي الذي لقي تثمينًا دوليًا، فقد رحب الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش ورئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي موسى فقي محمد، بالاجتماع، وجاء في بيان مشترك للأمم المتحدة والاتحاد الإفريقي أن “الأمين العام للأمم المتحدة ورئيس مفوضية الاتحاد الإفريقي يرحبان بالاختتام الناجح للاجتماع رفيع المستوى بشان بعض جوانب اتفاق السلم والمصالحة في مالي المنبثق عن مسار الجزائر”.
وأضاف البيان أن غوتيريش وفقي “يقران بأهمية توافق الآراء الذي توصلت إليه الأطراف بشأن دمج 26 ألف من المقاتلين القدامى في القوات المسلحة والدفاع وغيرها من أجهزة الدولة وكذلك بشان الإصلاحات المؤسساتية غير المتعلقة بالتعديل الدستوري”.
ويعطي الرضا الأممي والإفريقي الحكومة المؤقتة في مالي دافعًا لتنفيذ أجندتها نحو الانتقال الديمقراطي وإنهاء فترة ما بعد الانقلاب، كما أن هذا الترحيب الأممي قد يقلل من العزلة والضغوط الدولية المسلطة عليها حاليًّا من عدة أطراف قارية أبرزها مجموعة “إيكواس” ودولية ممثلة في الاتحاد الأوروبي المتآزر مع فرنسا بعد إصدار مالي قرارًا يقضي بضرورة خروج القوات الفرنسية لأنها تحولت من قوات مساعدة وإسناد إلى جيش احتلال للأراضي المالية.
بدورها، رحبت الجزائر التي تقود الوساطة الدولية في مالي بما خرج به اجتماع الأسبوع الماضي، وأكد بيان للخارجية الجزائرية تسجيلها “بارتياح” انعقاد الاجتماع الثاني رفيع المستوى لاتخاذ القرارات من 1 إلى 5 أغسطس/آب بباماكو بمشاركة الحكومة المالية وجميع الحركات الموقعة على هذا الاتفاق.
وتدرك مالي ضرورة استمرار دعم الجار الشمالي “الجزائر” التي تترأس الوساطة الدولية، خاصة أن الخارجية الجزائرية طالبت في يوليو/تموز الماضي بضرورة تطبيق “اتفاق السلم والمصالحة في مالي المنبثق عن مسار الجزائر (مايو/أيار 2015)، داعية الأطراف الموقعة بجميع مكوناتها إلى تجديد التزامها والبقاء متحدين لرفع جميع التحديات معًا”.
وفور اختتام اجتماع الأسبوع الماضي، سارعت مالي إلى إرسال وزير خارجيتها عبدولاي ديوب إلى الجزائر، حيث ثمن الالتزام الشخصي للرئيس عبد المجيد تبون، لصالح السلم والاستقرار في مالي، مجددًا تقدير بلده “للتضامن الفعّال المعبّر عنه في كل وقت من الجزائر”.
وقال ديوب: “لقد أسعدتنا بشكل خاص التصريحات القوية التي أدلى بها الرئيس تبون، الذي جدد تمسك الجزائر بوحدة وسلامة مالي الترابية، وضرورة أن تمضي الأطراف المالية بسرعة أكبر وبشكل أعمق في تنفيذ اتفاق السلم والمصالحة المنبثق عن مسار الجزائر الذي يخدم أولًا مصالح الماليين”.
وجاء تصريح الوزير المالي عقب تأويلات اعتبرت أن تصريح الرئيس عبد المجيد تبون في مقابلته التليفزيونية الأخيرة يحمل انزعاجًا وغضبًا من الإدارة السياسية الحاكمة في مالي، فقد قال تبون: “مالي ستبقى قابعة في مشاكلها بما أنه لا يتم تطبيق اتفاق الجزائر”، مؤكدًا أن بلاده لن تسمح لأي أحد بأن يمس بالوحدة الشعبية والترابية لمالي، غير أن مصادر جزائرية أكدت أن التاويلات التي بنيت من تصريح تبون تقف وراءها أطراف تزعجها الوساطة الجزائرية في بماكو.
إرهاب مفتعل؟
لم تدم فرحة الماليين طويلًا بالاتفاق على تطبيق مسار الجزائر، فبعد يومين من ذلك، قُتل 17 جنديًا على الأقل و4 مدنيين بالإضافة إلى إصابة 22 آخرين في هجوم جديد في بلدة تيسيت التي تضم معسكرًا للجيش في المنطقة المعروفة بالمثلث الحدودي بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو.
أهم ما جاء في بيان الجيش المالي قوله: “عمليات التحليق غير المشروعة وغير المنسقة التي رصدتها القوات المسلحة المالية تؤكد فرضية أن الإرهابيين استفادوا من خبرات خارجية ومن دعم كبير”
وأعلن الجيش المالي في بيان مساء الإثنين فقدان 9 جنود آخرين، مشيرًا إلى أن “الحصيلة مؤقتة ومرشحة للارتفاع”، كما قتل 7 مهاجمين حسب الجيش المالي الذي قال “يرجّح أنهم تابعون لتنظيم داعش في الصحراء الكبرى”، مشيرًا إلى أن الهجوم كان منسقًا ومجهزًا بشكل جيد، وأضاف البيان أن المسلحين كانوا مدعومين بمسيّرات ومدفعية ومتفجرات وسيارات مفخخة.
وتشهد بلدة تيسيت اشتباكات وهجمات في كثير من الأحيان، حيث تقع في منطقة شاسعة غير خاضعة لسيطرة الدولة على الجانب المالي من المثلث الحدودي، وتقول تقارير إن المثلث الحدودي هدف مفضل لجماعتين إرهابيين مسلحتين تنشطان فيه هما: تنظيم داعش في الصحراء الكبرى وجماعة نصرة الإسلام والمسلمين التابعة لتنظيم القاعدة، كما تنشط جماعات مسلحة أخرى بمنطقة الساحل التي تمتد جنوب الصحراء الكبرى من المحيط الأطلسي إلى البحر الأحمر.
لكن أهم ما جاء في بيان الجيش المالي قوله: “عمليات التحليق غير المشروعة وغير المنسقة التي رصدتها القوات المسلحة المالية تؤكد فرضية أن الإرهابيين استفادوا من خبرات خارجية ومن دعم كبير”، ويتطابق هذا التصريح مع موقف الرئيس الجزائري الذي قال في آخر مقابلة تليفزيونية: “الإرهاب في مالي موجود فعلًا، غير أن جزءًا منه مفتعل لأسباب إستراتيجية عند دول أخرى تغذيه”، وأضاف تبون “كلما نحاول لم شمل الأشقاء في دولة من الدول، هناك من يتدخل (…) هناك جهات تحسد الجزائر على دورها وتحاول حرمانها من القيام بدورها الإستراتيجي والطبيعي”.
وفي شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي، اتّهمَ رئيس الحكومة الانتقالية في مالي شوغيل مايغا فرنسا بتدريب “جماعات إرهابية” تنشط في بلاده، وأن حكومته تملك أدلة على ذلك، وقال مايغا، في تصريحات لوكالة “ريا نوفوستي” الروسية، إن “الإرهابيين” الموجودين حاليًّا في مالي جاؤوا إلى البلاد من ليبيا، وأن القوات الفرنسية أنشأت جيشًا في كيدال (شمالي مالي) وسلّمته إلى حركة تشكلت من “أنصار الدين” المتعاونة مع تنظيم القاعدة.
وكشف مايغا أنه لا يمكن للحكومة المالية الوصول إلى كيدال حاليًّا، كونها منطقة معزولة تسيطر عليها فرنسا، ولديها مجموعات مسلحة هناك درّبها ضبّاط فرنسيون، وشهدت مالي في عدة مرات احتجاجات تنادي برحيل القوات الفرنسية من البلاد، كونها قوات احتلال.
وإذا كانت مكافحة الإرهاب تتعلق بمحاربة الفكر المتشدد وتنمية المناطق التي تعرف انتشارًا للجماعات المسلحة، فإن الأهم من ذلك هو الحصول على العتاد العسكري اللازم لتضييق الخناق على تنظيمات تتلقى دعمًا دوليًا غير متناه، وهو الأمر الذي لم تقدمه فرنسا لبماكو مطلقًا منذ تدخلها العسكري في يناير/كانون الثاني 2012 بحجة محاربة الإرهاب، وهو الوتر الذي تعمل عليه اليوم روسيا التي أصبحت الداعم العسكري الغربي الأول لمالي، وسلمتها الثلاثاء الماضي معدات عسكرية جديدة، من ضمنها خمس طائرات ومروحية عسكرية.
وأشاد وزير الدفاع المالي ساديو كامارا قائلًا: “نحن نعزز قدراتنا الاستطلاعية والهجومية بطائرات L39 المقاتلة وسوخوي 25، التي أضيفت إلى طائرات من طراز “سوبر توكانو” وطائرات أخرى مستخدمة بالفعل، بالإضافة إلى مروحيات هجومية من طراز MI24P، التي تضاف إلى طائرات MI 35 وMI24 التي تم تسليمها”.
وفي انتظار ما ستقدمه الترسانة العسكرية الجديدة لمالي في الحد من نشاط التنظيمات الإرهابية، يبقى إنهاء الأزمة السياسية وتنفيذ بنود مسار الجزائر أفضل طريقة لنزع أي مشروعية عن كل عمل مسلح وتجنب أي تدخل أجنبي، وحماية البلاد من نهب ثرواتها الطبيعية التي جعلتها محل صراع دولي لا ينتهي.