شهدت الجولة الأخيرة من المحادثات النووية بين إيران والقوى الكبرى، في فيينا يوم 8 أغسطس/ آب 2022، والتي انطلقت بعد تعثُّر المحادثات غير المباشرة بين إيران والولايات المتحدة، التي استضافتها العاصمة القطرية الدوحة بداية الشهر الماضي؛ توصُّلَ الأطراف إلى مسودة الصيغة النهائية للاتفاق النووي، بالشكل الذي عرضه مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، جوزيف بوريل.
ورغم تأكيد الولايات المتحدة على أن الاتفاق النووي بهذه الصيغة يمكن التوافق عليه، إلا أن رئيس الوفد التفاوضي الإيراني، علي باقري كني، أشار إلى أن هذه الصيغة تحتاج إلى مزيد من المراجعة والدراسة من قبل المسؤولين في طهران، قبل إصدار أي قرار سياسي بالموافقة عليها.
إيران، وردًّا على انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، حققت طفرات كبيرة في نسب تخصيب اليورانيوم، كما أنها زادت من عدد أجهزة الطرد المركزي.
يمكن القول إن مسودة الصيغة النهائية، ورغم أنها أظهرت حزمًا أوروبيًّا وأمريكيًّا في رفض الكثير من المطالبات الإيرانية السابقة، والتي يأتي في مقدّمتها طلب إخراج الحرس الثوري بالكامل من لائحة المنظمات الإرهابية الأجنبية، إلا أنه يظهر من جهة أخرى تراخٍ دولي في موضوع إعادة ربط إيران بالنظام المالي العالمي، وتحديدًا نظام “سويفت” الذي تستخدمه إيران في تمويل عمليات إرسال الأموال إلى حلفائها في المنطقة.
وليس هذا فحسب، بل يعكس ذلك توجهًا أمريكيًّا بالأساس للتوصل لأي صفقة تجعل إيران تتصرف وفق ما موجود في هذا الاتفاق، دون مراعاة للجوانب الأخرى، المتمثلة بالإجراءات الإيرانية التي اعتمدتها بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، في مايو/ أيار 2018.
فممّا لا شكّ فيه أن إيران، وردًّا على انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، حققت طفرات كبيرة في نسب تخصيب اليورانيوم، كما أنها زادت من عدد أجهزة الطرد المركزي، بل تجاوزت الحد الذي كان مقررًا في اتفاق عام 2015، هذا إلى جانب توسيع قاعدة الصواريخ الباليستية والطائرات المسيَّرة.
إذ يبدو أن إدارة الرئيس الأمريكي، جو بايدن، بدأت تفكّر في احتواء هذه التطورات عبر المبادرات السياسية والتحالفات الإقليمية والترتيبات الأمنية، دون السعي غير المجدي لترجمتها على شكل بنود في أي اتفاق نووي يجري توقيعه مع إيران.
حيث تدرك الإدارة الأمريكية أن الإصرار الإيراني على ترك هذه الجوانب خارج الاتفاق النووي، كونها أصلًا ليست جزءًا منه، يجب أن يقابله إصرار أمريكي على المواجهة خارج حدود الاتفاق النووي، وقد يفسّر هذا زيارة بايدن الأخيرة للمنطقة.
إيران بحاجة إلى بديل مُقنع
إن عدم إظهار الجانب الإيراني أي ردود أفعال عكسية على الرفض الغربي لمطلب إخراج الحرس الثوري من لائحة المنظمات الإرهابية الأجنبية، يشير إلى رغبة إيرانية بأن يكون البديل سخيًّا، نظرًا إلى ما تواجهه إيران اليوم من تحديات اقتصادية واجتماعية.
حيث تطمح أن يكون المقابل لتخلّيها عن هذا المطلب، الإفراج عن مئات المليارات من الأرصدة الإيرانية المجمَّدة في البنوك الخارجية، والسماح لها بتصدير الطاقة، والوصول للأسواق العالمية، إلى جانب رفع كامل للعقوبات عن قطاعات البنوك والصناعة والمواصلات، وهي كلها أمور تعكس اهتمامًا إيرانيًّا واضحًا بالبُعد الاقتصادي للاتفاق، نظرًا إلى التحديدات الداخلية التي تواجهها حكومة الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي.
وفي السياق ذاته، أكّد وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، في محادثات هاتفية مع بوريل، أن “الاتفاق النهائي يجب أن يضمن حقوق الشعب الإيراني ومصالحه”، وأشاد بجهود بوريل لتسهيل التوصل إلى الاتفاق، قائلًا: “الاتفاق النهائي يجب أن يوفر حقوق الشعب الإيراني ومصالحه، وأن يضمن الإلغاء المستدام والمؤثر للحظر”.
وفي مقابل ذلك، رحّب ميخائيل أوليانوف، الممثل الروسي في المنظمات الدولية، بالمسودة الأخيرة، إذ يتّضح من تصريحات ممثلي روسيا وإيران، أن طهران، بدعم من روسيا، تصرُّ على موقفها، وتتوقع أن تقوم واشنطن بخطوات مقابلة، إذ إن لم ترَ طهران استعداد واشنطن لحلٍّ وسط، فلن يكون هناك عودة إلى الصفقة النووية، حيث لن تتمكّن الإدارة الأمريكية الحالية، على ما يبدو، من استعادة الاتفاقية بثمن بخس.
إجمالًا، يمكن القول إن فرص موافقة إيران على المسودة الأخيرة للاتفاق النووي تبدو مرشحة، خصوصًا أنها بدأت تدرك أهمية تجاوز مشاكل الداخل وتأجيل الحديث عن استحقاقات الخارج.
كما أتى تركيز الإعلام الحكومي الإيراني على طلب الضمانات من الإدارة الأمريكية، ليعكس خشية إيرانية من تملُّص الإدارة الأمريكية من أي التزامات في حال موافقة طهران على الصيغة النهائية.
ورغم تعهُّد الجانب الأمريكي عبر المنسق الأوروبي للمحادثات النووية، إنريكي مورا، أثناء اجتماعاته مع كبير المفاوضين الإيرانيين، علي باقري كني، خلال الجولة الأخيرة من المحادثات، بأن الولايات المتحدة تضمن عدم تأثر الشركات الأجنبية المستثمرة في إيران بأي عقوبات قد تعاد تسميتها على إيران في حال الانسحاب من الاتفاق النووي، إلا أن إيران تريد أن يكون هذا التعهُّد عبارة عن وثيقة ملزمة قانونًا، كأن يكون عبر موافقة الكونغرس الأمريكي عليه، أو عبر معاهدة ثنائية.
كما أظهرت العديد من الأصوات في الداخل الإيراني انتقادات واضحة لسلوك الوفد التفاوضي الإيراني، والتي ترى ضرورة أن تحقق إيران اتفاقًا شاملًا يعكس ضرورات الأمة الإيرانية، لا أن يركز المسؤولون الإيرانيون على الجانب الاقتصادي للاتفاق، وبالتالي يتحول الاتفاق النووي إلى اتفاق اقتصادي، ما قد يجعل المسؤولين الإيرانين يفكرون بإمكانية التنازل عن الحقوق الوطنية في سبيل رفع العقوبات، ما قد يهدد الدور الإقليمي لإيران.
وعلى هذا الأساس، تثير هذه الجوانب المتعددة مزيدًا من الضغوط على المفاوض الإيراني في كيفية بلورة اتفاق نووي، يوازن ما بين ضرورات الداخل وتحديات الخارج، ولعلّ هذا ما دفع كني والوفد المرافق له العودة إلى طهران، لتدارُس بنود المسودة الأخيرة مع المرشد الأعلى الإيراني، علي خامنئي.
إجمالًا، يمكن القول إن فرص موافقة إيران على المسودة الأخيرة للاتفاق النووي تبدو مرشحة، خصوصًا أنها بدأت تدرك أهمية تجاوز مشاكل الداخل وتأجيل الحديث عن استحقاقات الخارج، فتركيز وفدها التفاوضي على الجوانب الاقتصادية، والإغراءات التي قدمتها الولايات المتحدة وأوروبا في هذا السياق، قد يدفعان إيران إلى الموافقة عليها.
لكنها من جهة أخرى، قد تجبر إيران على إيجاد استراتيجية جديدة لإدارة نفوذها الإقليمي، فتخلّيها عن مطلب رفع الحرس الثوري من لائحة المنظمات الإرهابية الأجنبية، سيجعل حلفاءها في العراق ولبنان واليمن وسوريا أمام واقع إقليمي جديد، لن تكون إيران فيه مندفعة كما في الفترة الماضية.