ترجمة حفصة جودة
هذا الأسبوع، في عملية أُطلق عليها “الفجر الصادق”، أمطر الاحتلال الإسرائيلي قطاع غزة المحاصر بوابل من القنابل مرة أخرى، قتلت أيام القصف الثلاث 44 فلسطينيًا على الأقل بينهم 15 طفلًا، وجرحت المئات.
وكأن 15 عامًا من الحصار ليسوا كافيين، يتعرض القطاع الساحلي عامًا تلو الآخر إلى عمليات مروعة يُقتل فيها الآلاف ويُصاب فيها مئات الآلاف وتُدمر البنية التحتية الأساسية بالكامل.
في 2012، تنبأت الأمم المتحدة بأن غزة لن تصبح صالحة للمعيشة في 2020، بالعديد من القياسات كان هذا التنبؤ صحيحًا، ومع ذلك ما زال أكثر من مليوني فلسطيني يعيشون هناك، أغلبهم لا يعيشون فيها باختيارهم، فقد قدرّت الاستطلاعات الأخيرة أن نحو 40% من سكان غزة يفضلون الرحيل لو تمكنوا من ذلك.
ليس مفاجئًا أن الكثيرين منهم لا يرون مستقبلًا لهم في غزة، لم تكن الحياة سهلة على الفلسطينيين في غزة منذ سنوات، لكن مع كل حرب وكل عملية وكل هجوم إسرائيلي، تزداد الظروف صعوبة أكثر فأكثر.
تتنبأ وزارة الصحة في غزة الآن بأن الخدمات الصحية – التي عانت كثيرًا بسبب الحصار – سوف تتوقف قريبًا عن العمل تمامًا بسبب انقطاع الكهرباء وانتهاء وقود المولدات، في الحقيقة، بالإضافة إلى القصف الأخير، أغلق الاحتلال الإسرائيلي كل معابر غزة ومنع دخول الوقود وبعض البضائع الأساسية الأخرى.
حالة لا نهائية من الصدمة
رغم أن القصف على غزة توقف مساء الأحد بعد هدنة بوساطة مصرية بين الاحتلال الإسرائيلي وجماعة الجهاد الإسلامي الفلسطينية، فإن آثار العدوان الإسرائيلي ستستمر فترة طويلة بعد انتهائه، مثل كل العمليات الإسرائيلية السابقة.
الصدمة التي يعانيها سكان غزة لم تبدأ الأسبوع الماضي ولا العام الماضي ولا حتى في 2006 عندما بدأ الاحتلال الإسرائيلي فرض حصاره على القطاع لاختياره حكومة لا تعجبه
يحاول سكان غزة باستمرار التعافي من القصف السابق بينما يخشون التالي، ولا سبيل للتعافي من بعض الإصابات – النفسية والجسدية – التي أصابتهم.
في الواقع، تحاول العديد من المنظمات الدولية غير الحكومية ووكالات الأمم المتحدة توثيق أزمة الصحة النفسية التي لا تنتهي في غزة، ومع ذلك فالعديد من المنهجيات والنظريات التي يستخدمونها غير ملائمة تمامًا.
فكما قالت الدكتورة سماح جبر رئيس وحدة الصحة النفسية بوزارة الصحة الفلسطينية، إن هذا يرجع إلى أن المنظمات والوكالات تحاول فهم ومعالجة الأزمة باستخدام المفاهيم الغربية التي لا يمكن تطبيقها على أرض الواقع في غزة.
فمثلًا، مفهوم اضطراب ما بعد الصدمة “PTSD” لا يمكن تطبيقه على تجربة الفلسطينيين، لأن الصدمة التي يعانون منها بسبب الواقع الاستعماري الاستيطاني متكررة ومتواصلة ومستمرة، وهذه الحالة المستمرة من الضغط والصدمة تتجاوز أجيالًا في غزة وفي فلسطين بشكل أوسع.
في الحقيقة، الصدمة التي يعانيها سكان غزة لم تبدأ الأسبوع الماضي ولا العام الماضي ولا حتى في 2006 عندما بدأ الاحتلال الإسرائيلي فرض حصاره على القطاع لاختياره حكومة لا تعجبه، بدأ الأمر منذ عقود عندما وضعت الحركة الصهيونية فلسطين نصب أعينها لأول مرة كأرض تقيم عليها مشروعها الاستعماري الاستيطاني.
هذا المشروع هو السبب في نزع ملكية الشعب الفلسطيني بشكل مستمر وهائل، وهو ما سبب هذا السجن الكبير المفتوح المسمى غزة اليوم، في الواقع، فسكان غزة الذين يتجاوز عددهم مليوني مواطن، 1.4 مليون منهم لاجئين من جميع أنحاء فلسطين المستعمرة.
الواقع يقول إنه دون تغير حقيقي في المشهد السياسي العالمي، فإن الاحتلال الإسرائيلي سيواصل قصف وقتل الفلسطينيين دون عقاب
لهذا السبب أطلق الفلسطينيون في غزة عام 2018 “مسيرة العودة الكبرى” حيث تظاهر عشرات الآلاف عند الجدار الإسرائيلي يطالبون بحق العودة إلى أراضيهم الأصلية، قتل القناصة الإسرائيليون مئات الفلسطينيين في هذا اليوم وجُرح عدد أكبر.
نعلم أننا لسنا أوكرانيا
في هذه الحالة المستمرة من الصدمة بعد العدوان المدمر الأخير على غزة، يفعل المجتمع الدولى مرة أخرى ما يجيده دائمًا: توفير الإفلات الكامل من العقاب للاحتلال الإسرائيلي.
أصدر عدد لا يُحصى من السياسيين والدبلوماسيين بيانات تعبر عن قلقهم من تصاعد العنف ويدعون إلى الحد من التوتر والهدوء، ويحرصون على عدم تصوير “إسرائيل” كسبب في معاناة الفلسطينيين، كما لو أن علاء القادوم ذا الخمس سنوات، أو الشقيقين أحمد ومؤمن النيرب ذوي الخمس وإحدى عشر عامًا، قد ماتوا ببساطة في ظروف طبيعية وليس بسبب القصف الإسرائيلي، كما لو أن الاحتلال الإسرائيلي لم يقتل ويصب ويصدم الفلسطينيين دون عقاب منذ عقود.
أما بقية المجتمع الدولي لا يزعج نفسه بإخفاء دعمه غير المشروط للعنف الإسرائيلي، فوزيرة الخارجية البريطانية ليز تروس مثلًا، أصدرت بيانًا بعد بداية عملية الفجر الصادق دعمًا لـ”إسرائيل” دون أن تذكر قتل عشرات الفلسطينيين.
وقالت “المملكة المتحدة تقف مع “إسرائيل” ومع حقها في الدفاع عن نفسها”، هذا الرأي لم يكن بالطبع مفاجئًا، نظرًا لدعم المملكة المتحدة المتناسق الصلب للاحتلال الإسرائيلي منذ تأسيسه، وليس مفاجئًا أيضًا لأن المملكة المتحدة تدعم الاحتلال الإسرائيلي بالمعدات العسكرية لقصف غزة.
الفلسطينيون ليسوا ساذجين، نعلم أننا لسنا أوكرانيا، ونعلم أننا لن نحصل على نفس الدعم الذي تدفق على الأوكرانيين، لن يدافع أحد عن حقنا لمقاومة قوات الاحتلال، ولن تنشر وسائل الإعلام الدولية صورًا لتمجيد شهدائنا، ولن يأتي نجوم البوب وممثلو هوليوود ورؤساء الوزراء لزيارة العائلات وسط الحطام في غزة.
الواقع يقول إنه دون تغير حقيقي في المشهد السياسي العالمي، فإن الاحتلال الإسرائيلي سيواصل قصف وقتل الفلسطينيين دون عقاب.
المصدر: الجزيرة الإنجليزية