ترجمة وتحرير: نون بوست
تغير كل ما فهمته عن سنة 1967 تمامًَا – وهي السنة التي بدأت فيها “إسرائيل” احتلالها للضفة الغربية وقطاع غزة – وذلك يرجع لجدي من جانب أمي، الذي وُلِدَ خلال الانتداب البريطاني في فلسطين، وكان عمره 19 عامًا عندما تم دمج بلدتنا، التي كان اسمها الطيرة، في “الدولة اليهودية” المكونة حديثًا في أعقاب نكبة 1948، بعد أن فر مئات الآلاف من الفلسطينيين أو طردوا من قبل القوات الصهيونية ومنعوا من العودة إلى ديارهم.
وعلى الرغم من منحه الجنسية الإسرائيلية؛ فقد تعرض هو و150,000 من الفلسطينيين، الذين أصبح يطلق عليهم اسم “عرب إسرائيل”، لحكومة عسكرية قيدت حركتهم، وصادرت ممتلكاتهم، وقمعت أنشطتهم السياسية. ولمدة تقارب العقدين، وحتى سنة 1966، كان جدي محاصرًا في قفص بني على أرض وطنه.
بعد انتصار “إسرائيل” في “حرب الأيام الستة” في حزيران/يونيو 1967؛ تمت محاكاة وتوسيع نطاق النظام العسكري الذي حكم بقبضة من حديد ليشمل الأراضي المحتلة حديثًا، لكن هذا التحول الرهيب في التاريخ جلب أيضًا نعمة غير متوقعة لجدي، فلأول مرة منذ سنوات؛ كان بإمكانه السفر بحرية ليس فقط إلى المجتمعات الفلسطينية داخل “إسرائيل”، ولكن أيضًا إلى المجتمعات في الضفة الغربية وغزة، التي انقطعت سابقًا بموجب حدود هدنة سنة 1949، المعروفة باسم الخط الأخضر. وأتذكر كيف ذكر زيارته الأولى منذ سنوات إلى طولكرم، وهي مدينة في شمال الضفة الغربية؛ حيث وجد مدرسته البريطانية السابقة لا تزال قائمة، كما قام لاحقًا بالعمل بإرشاد الطلاب والمجموعات عبر الأراضي كمؤرخ ومعلم، ساردًا تاريخ الأرض، وعمل على بناء العلاقات التعليمية مع زملائه الفلسطينيين.
كانت “حرب الأيام الستة” أو “النكسة” حدثًا كارثيًا للشعب الفلسطيني. ومع ذلك من المفارقات أنه ربما كان أحد أهم شرايين حياتهم، ففي محاولة الحركة الصهيونية بلوغ هدف “إسرائيل الكبرى” في عام 1967، أعادت فعليًّا إلي فلسطين وحدتها الإقليمية، وبرغم أن هذا الغزو تم باسم السيادة اليهودية، فقد فتح عن غير قصد مساحات وفرصًا جديدة للفلسطينيين على جانبي الخط الأخضر لتنمية هويتهم الوطنية، وإعادة بناء النسيج الاجتماعي، ومقاومة الطاغية المشترك بينهم، وتراجعت وازدهرت هذه الروابط على مر السنين ولكن بقيت قوتها تتراكم بشكل واضح؛ حتى في مواجهة المحاولات الإسرائيلية لتفتيت الفلسطينيين من خلال نظام متعدد المستويات من القوانين والسياسات والأوضاع.
شوهدت نتيجة هذه الظاهرة على نطاق واسع خلال الانتفاضة الفلسطينية في أيار/مايو 2021، والتي وصفها الكثيرون بانتفاضة الوحدة، فقد كان القمع الإسرائيلي خلال تلك الأسابيع – بين الطائرات المقاتلة فوق سماء رفح والحراسة الشعبية في شوارع يافا – وحشيًًا ومروعًا، لكن المقاومة الشعبية التي أثيرت كانت معدية وملهمة، فقد أدت وحدة الاحتشاد والنطاق الجغرافي للعنف إلى تحطيم الفكرة المضللة التي يتبناها الكثيرون في الخارج أن الصراع متركز بطريقة ما على الخط الأخضر، لقد اختفى هذا الوهم بالفعل بالنسبة للفلسطينيين منذ فترة طويلة، ولكن حتى أكثر النشطاء حماسة لا يسعهم إلا أن الذهول أمام ما حدث خلال تلك الأسابيع؛ وما قد ينذر به.
إعادة توحيد فلسطين
في العقدين التاليين للنكبة؛ تم تقسيم الأرض التي شكلت فلسطين تاريخيًّا بين “الدولة الإسرائيلية” الناشئة والأردن ومصر، وبين التشرد في مخيمات اللاجئين والمعاملة كمواطنين من الدرجة الثانية تحت الحكم الأجنبي، ووجد الفلسطينيون أنفسهم مقطوعين عن بعضهم البعض بحدود مصطنعة رسمها الملوك والمستعمرون، وعلى الرغم من استمرار مختلف الأنشطة القومية، فإن الصدمات والخسائر الناجمة عن هذا السلب من الملكية قد تركت الكثير من المواطنين في حالة من الضعف والإحباط.
لكن في غضون أيام في صيف 1967؛ وجد الفلسطينيون الذين بقوا بين النهر والبحر أنفسهم فجأة في نظام واحد. والخط الأخضر؛ الذي كان ذات يوم أرضًا محرمة يحرسها القناصة، أصبح منطقة سهلة الاختراق تراخي الجنود الإسرائيليون في حراستها، مما سهل على الكثيرين عبورها، وأصبحت ثكنات الجيش والطرق وغيرها من البنية التحتية الإسرائيلية سمات دائمة للمشهد في المنطقة المحتلة، وامتدت المستوطنات الإسرائيلية التي ترعاها الحكومة إلى ما هو أبعد من خطوط الهدنة، وابتلعت الأراضي والموارد الفلسطينية، فيما قدم السياسيون والزعماء الدينيون الإسرائيليون – مبتهجين بانتصارهم – تعهدات قوية بعدم التخلي عن غنائمهم، أو على الأقل جبل الهيكل في البلدة القديمة في القدس، واستغرق تشكيل “واقع الدولة الواحدة” عقودًا، لكنه ولد من اللحظة التي وطأت فيها أقدام الجنود الإسرائيليين ساحل غزة ووادي الأردن قبل 55 سنة.
المفارقة في هذا التحول الزلزالي أن “إسرائيل”، غارقة في غطرستها وشهوتها للسيطرة على الأرض، أعادت توحيد ما يقرب من نصف الشعب الفلسطيني، ولم يكن هذا مقصودا أبدًا، فقد قام الجيش بطرد أكثر من 300,000 فلسطيني خلال حرب 67، وفي الأسابيع والسنوات التي تلت ذلك، حاول المسؤولون الإسرائيليون بشتي الطرق ترحيل المزيد من الفلسطينيين، لا سيما من القدس الشرقية. ومع ذلك؛ عندما أصبح النقل الكلي للسكان مستحيلًا بسبب التدقيق الدولي، وأصبحت محاصرة السكان أسلوب عمل “إسرائيل”؛ واستغل الفلسطينيون ذلك.
قام المواطنون الفلسطينيون في الدولة، بمن فيهم جدي، باستغلال هوياتهم ولوحات ترخيصهم الإسرائيلية، ليتمكنوا من السفر عبر الأراضي وإعادة التواصل بإخوانهم للمرة الأولى منذ النكبة، فكانوا يزورون أفراد أسرهم الذين تم حبسهم بسبب خطوط الهدنة، وعبروا كل يوم من أجل البقالة والدراسة والتجارة والتنظيم السياسي وغيرها، وعمل آلاف العمال من المناطق الحدودية وعاشوا – بتصاريح أو بدونها – داخل “إسرائيل”، وتزوج أناس من كلا الجانبين وكونوا عائلات، وحتى في حالة التفاوت بين المواطنين والسكان عديمي الجنسية، لم تعد مدن غزة مثل خان يونس ومراكز الضفة الغربية مثل جنين بعيدة المنال بالنسبة لأولئك الذين يعيشون في الناصرة أو اللد، عاد الشعور بأنها مناطق مجاورة، تمامًا كما كانوا قبل سنة 1948.
لعبت الروابط الاجتماعية المتجددة – التي تطورت في نفس الوقت الذي أعاد فيه الفلسطينيون في المنفى بقيادة منظمة التحرير الفلسطينية إحياء حركة التحرير من خلال الكفاح المسلح، والمشاركة المجتمعية، والمناصرة العالمية – دورًا رئيسيًا في تجديد الهوية الوطنية الفلسطينية في ظل هزيمة 1967، وأصبحت تيارات المقاومة الجديدة ذات طبيعة جماعية وعابرة للحدود بشكل متزايد، بخلاف الأنشطة السياسية السابقة، التي كانت متفرقة إلى حد كبير ومحصورة داخل حدود الدولة.
في آذار/30 مارس سنة 1976، نظم الفلسطينيون في “إسرائيل” إضرابًا عامًا ومظاهرات حاشدة ضد خطط الحكومة لمصادرة مساحات شاسعة من أراضي الجليل؛ كما انضم الفلسطينيون في الأراضي المحتلة وفي المنفى إلى ما سيصبح يوم الأرض؛ والذي يتم الاحتفال به كل عام منذ ذلك الحين.
وفي كانون الأول/ديسمبر سنة 1987؛ قاد الفلسطينيون في المناطق المحتلة الانتفاضة الأولى الشهيرة، والتي انتشرت في جميع أنحاء العالم من خلال صور شبان يرشقون الدبابات الإسرائيلية بالحجارة، وقد دعم المواطنون الفلسطينيون “في إسرائيل” أيضًا هذه المظاهرات وشاركوا فيها، وفي أيلول/ سبتمبر سنة 2000، عندما دخل أرييل شارون حرم المسجد الأقصى برفقة مئات من ضباط الشرطة الإسرائيلية في استفزاز صارخ ضد مفاوضات السلام، سار الفلسطينيون على جانبي الخط الأخضر بالآلاف ضد سياسات “إسرائيل”، قبل أن يستهلك قمع الدولة والتفجيرات الانتحارية الانتفاضة.
وقد تجلى هذا التنسيق عبر الخط الأخضر من خلال وسائل أخرى، ففي التسعينيات؛ عزز ازدهار المجتمع المدني، من النقابات العمالية إلى المراكز القانونية، دعوات الفلسطينيين الجماعية من أجل حقوقهم الوطنية والمدنية بموجب القانون الدولي، كما سمحت تقنيات الاتصالات الجديدة، وتحديدًا الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي للفلسطينيين بتبادل الأخبار والأفكار في العالم الافتراضي دون عوائق جغرافياتهم المنفصلة، ووضعت المبادرات الشعبية مثل حركة مقاطعة إسرائيل، ومؤخرًا حركة طالعات النسوية، نماذج جديدة للتنظيم السياسي متحديةً التفرقة، فالشعب الفلسطيني اليوم أكثر ارتباطًا من أي وقت مضى على الرغم من شتاتهم المادي.
تزامن المقاومة
أُهمل هذا النبض المشترك عبر الخط الأخضر بشكل كبير لسنوات في فهم العالم للوعي الوطني الفلسطيني، والسبب الرئيسي في ذلك هو أن الكثير من السرديات السياسية للفلسطينيين تمت إعادة كتابتها بشكل جذري لتلائم روح ما يسمى بـ”عملية السلام”، والسعي إلى حل الدولتين؛ وهي المرحلة التي تم التحريض عليها في أواخر الثمانينيات وبلغت ذروتها في اتفاقيات أوسلو سنة 1993، التي لا تزال سارية المفعول حتى اليوم.
فوفقًا لصيغة أوسلو، لا يرتبط الفلسطينيون بمصير سياسي مشترك بالرغم من كونهم يشكلون مجموعة وطنية واحدة، بدلاً من ذلك، ستُبنى دولة وطنية لأولئك الذين يعيشون في الأراضي المحتلة، مستثنى منها الكتل الاستيطانية الكبرى، وستبقى خاضعة لتفضيلات “إسرائيل” الأمنية والاقتصادية. في هذه الأثناء؛ وسيتعين على أولئك الذين في الداخل الإسرائيلي الاستسلام لمواطنة الأقلية داخل “دولة يهودية وديمقراطية”، مما يلزمهم بنوع من أنواع مواطنة الدرجة الثانية؛ وبالنسبة للاجئين فإما أن تتم إعادتهم إلى الدولة الفلسطينية المستقبلية وإما أن يجنّسوا في الدول العربية المضيفة لهم. بالنسبة للمجتمع الدولي، كان يبدو هذا الترتيب وكأنه حل عادل للصراع طويل الأمد؛ ولكن من الناحية العملية كان ذلك شرعنة لمعظم التعديات الاستعمارية الصهيونية، ومحاولة لتقطيع أوصال فلسطين بشكل نهائي.
على الرغم من أن السياسات الإسرائيلية هي التي قادت هذا التشرذم؛ إلا أن إذعان القادة الفلسطينيين لعب دورًا حاسمًا في استيعاب الانقسامات، ففي سنة 1988، قررت منظمة التحرير الفلسطينية، مدفوعة من رئيسها ياسر عرفات، الاعتراف ب”إسرائيل” وقبول حدود ما قبل سنة 1967 كمخطط لدولة فلسطينية، وكانت هذه الخطوة التي قسمت الحركة الوطنية بعمق منذ ذلك الحين؛ سببًا في تقليص النضال الفلسطيني من تحرير كل الأرض إلى مشروع إقامة دولة محصورة في أقل من ربع أراضيهم التاريخية. في الوقت نفسه؛ أصبحت الأحزاب السياسية العربية والمجتمع المدني في “إسرائيل” أكثر حزمًا بشأن الهوية الفلسطينية في حقبة أوسلو، واستمروا في جعل جنسيتهم الإسرائيلية محور نضالهم، معززين لغة “المساواة” و”حقوق الأقليات” ضمن ترتيب الدولتين. وفي هذه الأثناء؛ تم استبعاد اللاجئين فعليًا من إطار عمل أوسلو، وأصبحوا مسألة مستعصية سيتم التعامل معها في مرحلة لاحقة (تتراجع بلا حدود).
كان هذا التشرذم واضحًا بشكل خاص في السرديات المتعلقة بالمرحلة الأولى من الانتفاضة الثانية. فعلى الرغم من أن الفلسطينيين في “إسرائيل” نزلوا إلى الشوارع جنبًا إلى جنب مع أولئك الموجودين في الأراضي المحتلة في أواخر سنة 2000، إلا أن التقارير التاريخية تميل إلى فصلهم عن بعضهم البعض؛ أي أنه بدلاً من النظر إلى الاحتجاجات الشعبية على جانبي الخط الأخضر كجزء من مقاومة مشتركة، غالبًا ما صاغها القادة والمثقفون الفلسطينيون في “إسرائيل” كظواهر متوازية لكنها مستقلة. فعندما قتل قناصة الشرطة 13 فلسطينيًا خلال مظاهرات داخل “إسرائيل” – 12 مواطنًا وأحد سكان غزة – اعتُبرت جرائم القتل صادمة بشكل خاص لأنها استهدفت فلسطينيي الداخل وكأنهم لا يختلفون عن الفلسطينيين الذي تحتل “إسرائيل” أراضيهم. ومع أن البعض برر هذا التأطير باعتباره خطوة استراتيجية، إلا أنه أبعد المواطنين الفلسطينيين في “إسرائيل” في نهاية المطاف عن الحركة الوطنية الأوسع، وحصر مطالبهم بالعدالة في حدود الدولة الإسرائيلية بدلاً من الترويج لتفسير شامل للاحتجاجات على أنها انتفاضة واحدة من النهر إلى البحر.
إن هذا الإرث من التشرذم الذي لا يزال حياً في العديد من قطاعات المجتمع الفلسطيني، هو الذي جعل أحداث أيار/ مايو سنة 2021 مدهشة وقوية للغاية. كانت انتفاضة الوحدة، التي قادها إلى حد كبير الشباب الذين ولدوا خلال حقبة أوسلو أو بعدها، بتيسير من وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها من التقنيات التي لم تكن موجودة قبل عقدين من الزمن، بمثابة تصحيح تاريخي من قبل المجتمع الفلسطيني لأخطاء قادتهم، وتصفية حساب مع الأفكار السياسية المعيبة التي أضعفت وقسّمت حركتهم الوطنية. لم تكن هذه المرة الأولى في العقد الماضي التي تكسر فيها الاحتجاجات الحاجز النفسي للخط الأخضر – فخطة برافر سنة 2013 في النقب، وحرب غزة سنة 2014، ومسيرة العودة الكبرى سنة 2018، شهدت أيضًا إجراءات مشتركة – ولكن حجم هذه الجهود لا يقارن بجهود انتفاضة السنة الماضية.
ما بدأ في ذلك الشهر كحشد بين نزاعين في القدس – حول عنف الشرطة والقيود المفروضة على باب العامود ومجمع الأقصى خلال شهر رمضان ومحاولة طرد العائلات الفلسطينية في حي الشيخ جراح – تحوّل بسرعة إلى مظاهرات في جميع أنحاء المجتمعات الفلسطينية، من حيفا وأم الفحم داخل “إسرائيل” إلى حدود لبنان والأردن. وقوبلت الانتفاضة بهجمات عسكرية إسرائيلية ووحشية من الشرطة وحشود أهلية تطوق البلدات والأحياء الفلسطينية مثيرة الرعب فيها، ومع تزامن العنف الإسرائيلي بين النهر والبحر لإعادة الفلسطينيين إلى أقفاصهم أظهرت المقاومة الفلسطينية أنها متزامنة هي الأخرى.
كانت الهجمات المسلحة التي شنتها الجماعات المسلحة وأعمال العنف التي ارتكبتها بعض الحشود الفلسطينية في “إسرائيل” جزءًا من هذا التمرد الشامل. كما أن حماس، التي لطالما ركّزت ترسانتها العسكرية على تخفيف الحصار الإسرائيلي المصري على غزة منذ استيلاء الحزب الإسلامي على القطاع في سنة 2007، فاجأت الكثيرين عندما أطلقت آلاف الصواريخ ردًا على الاعتداءات الإسرائيلية على القدس. وفي حين اعتبر بعض الفلسطينيين هذا الأمر مكمّلا للاحتجاجات الشعبية، رآه البعض الآخر تحديًا مشروعًا لعنف النظام الإسرائيلي اللامحدود في المدينة. وحتى بعد القصف الإسرائيلي العنيف لغزة الذي أسفر عن مقتل 260 شخصًا وإصابة أكثر من 2200 في 11 يومًا، أصبح الاعتقاد السائد أن الكفاح المسلح قد نجح في فرض ثمن على خطط دولة الاحتلال للقدس بطريقة تحول دون إمكانية انتشار العصيان المدني لوحده.
لم تنته الانتفاضة بوقف إطلاق النار في غزة، فبعد شهر من مقتل الناشط نزار بنات على يد قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية، نزل الفلسطينيون في الضفة الغربية إلى الشوارع موجهين غضبهم نحو الرئيس محمود عباس ودور حكومته الاستبدادية معتبرين إياه مقاولًا من الباطن بالنسبة للاحتلال الإسرائيلي. وفي أيلول/ سبتمبر، هرب ستة معتقلين سياسيين فلسطينيين من سجن جلبوع سيئ السمعة – في ملحمة درامية استحوذت على خيال المجتمع الفلسطيني – قبل أن يُلقى القبض عليهم بعد أيام قليلة.
على الرغم من أن الحدثين يبدوان منفصلين، إلا أن كلاهما كان في كثير من النواحي استمرارا لانتفاضة الوحدة، حيث نُقلت شعلة المقاومة من القدس إلى غزة ومن حيفا إلى رام الله ومن الشوارع إلى زنزانات السجون – مما يعرض الطرق العديدة التي تحكم بها “إسرائيل” الفلسطينيين. ومع أن تأثيرهم المادي كان ضئيلا، إلا أن معنوياتهم كانت عالية.
تحذيرات كنفاني
في مقال شهير نُشر في سنة 1972، بيّن الكاتب والمفكر الفلسطيني غسان كنفاني العوامل التي أدت إلى تلاشي الثورة الكبرى في 1936-1939 خلال الانتداب البريطاني، التي اعتُبرت من أكثر الحركات الجماهيرية أهمية في فلسطين. حدّد كنفاني ثلاثة تهديدات قوّضت التطلعات الوطنية الفلسطينية في ذلك الوقت وبعده: وهي القيادة “الرجعية” المحلية التي استولت على الانتفاضة الشعبية؛ وأنظمة الدول العربية المجاورة التي سعت إلى كبح الثورة من أجل مصالحها الجيوسياسية؛ والحركة الصهيونية التي طورت برنامجها للاستعمار الإقليمي والاقتصادي بمساعدة القوة الإمبريالية البريطانية.
بحلول الوقت الذي قُمع فيه التمرد بعنف، كتب كنفاني أن الحركة الفلسطينية “قد تم ترويضها بشكل جيد: لقد باتت مكسورة ومبعثرة، وأضعِفت قاعدتها، وأصبح نسيجها الاجتماعي مهترئا ومتفككًا”. وخلص إلى أن آثار هذا الدمار واستمرار التهديدات الثلاثة كانت محورية في عجز الفلسطينيين عن مقاومة النكبة بعد عقد من الزمن.
لا يزال تشخيص كنفاني من نواح عديدة ينطبق على الوضع الحالي للنضال الفلسطيني مثلما كان قبل قرن تقريبا. وفي حين لم يتبقى من منظمة التحرير الفلسطينية سوى بقايا رمزية، عززت الفصائل المتنافسة المهيمنة وبالتحديد فتح وحماس قبضتها على المجتمع الفلسطيني واضطلعت بدور منفذين محليين لما يسمى “الوضع الراهن”. كما استمرت الأحزاب السياسية العربية في إسرائيل، التي انفصلت بمرارة عن قائمتها الموحدة/ المشتركة السنة الماضية (مع انضمام ممثل الحركة الإسلامية “راعم” إلى الائتلاف الحاكم الإسرائيلي)، في ربط برامجها من أجل تمرير التشريعات في كنيست التيار اليميني.
على خطى مصر والأردن، تخلّى حكام الإمارات العربية المتحدة والبحرين والمغرب والسودان عن “معايير السلام” التي وضعتها جامعة الدول العربية سنة 2002، وقاموا بتطبيع بدلا من ذلك العلاقات مع إسرائيل. ومن المتوقع أن تكون الدول العربية الأخرى – بما في ذلك المملكة العربية السعودية التي زارها الرئيس الأمريكي جو بايدن مباشرة بعد “إسرائيل” في تموز/ يوليو- التالية في التطبيع. ومن جانبها، استمرت الحركة الصهيونية، بفضل الدعم غير المقيد للقوة الأمريكية ورضوخ الدول الأوروبية، في تحقيق أكثر طموحاتها جموحا مع تمتعها بحصانة تجعلها تفلت من العقاب.
إلى جانب هذه التهديدات طويلة الأمد، حدثت العديد من الانقسامات داخل المجتمع الفلسطيني وقد كانت جلية حتى في انتفاضة أيار/ مايو. وقد أدى التجزؤ الجغرافي – ولا سيما العزلة الكاملة لقطاع غزة – إلى إعاقة العديد من الروابط المادية والاجتماعية التي كانت قائمة في التسعينيات. ولا تزال الهياكل الأبوية والمواقف المعادية للمرأة تعيق وتقوض مشاركة المرأة وقيادتها في الحياة السياسية، على الرغم من تكثيف الحركات النسوية كفاحها ضد هذا الأمر.
كما أدى صعود الطبقة الوسطى الفلسطينية، إلى جانب التحسن العام في المعايير الاجتماعية والاقتصادية مقارنة بالأجيال السابقة، إلى جعل الكثيرين أكثر حذرًا من المخاطرة بوضعهم المالي غير المستقر. وبعد أن هدأت الجلبة الناتجة عن شهر أيار/ مايو، كانت للصراعات المحلية اليومية حول الوظائف والجريمة والإسكان الأسبقية على المشروع الوطني. وحتى مع كل هتافات الوحدة، عجز الفلسطينيون إلى حد الآن في إيجاد طريقة للحفاظ على وحدة حركة المقاومة.
لعل ما يزيد من تفاقم هذا الأمر أن الشعب الفلسطيني لم يعد يعرف الطريق الذي يسلكه حتى مع الوعي المتجدد ووضوح القمع. ويقع تفسير “التحرير” من خلال عدسات متعددة ومتضاربة في بعض الأحيان: هل لا يزال الفلسطينيون يريدون دولة مستقلة خاصة بهم؟ هل يمكنهم تصور الحياة في دولة ثنائية القومية إلى جانب اليهود الإسرائيليين؟ هل تتطلب العدالة الاسترداد الكامل للأراضي والممتلكات المسروقة، أم أنه سيتعين عليهم تقديم تنازلات؟ كيف يمكننا منع حرب جماعية أخرى، أم أنه لا مفر من الحرب؟
لا يمكن إنكار حقيقة أن الاختلافات حقيقية للغاية، لكن العديد من النشطاء يميلون إلى الامتناع عن التطرق إلى هذه الأسئلة. ودون الإجماع حول رؤية سياسية معينة، ودون فهم ما يعنيه “إنهاء الاستعمار”، قد يؤدي الفشل في الإجابة على هذه الأسئلة إلى مزيد من الاقتتال والاضطراب بدلا من التقدم الجماعي والحرية.
إن النقاشات حول ما يجب أن تصبح عليه فلسطين-“إسرائيل” لا يجب أن تشتت انتباهنا عن الاعتراف بماهية الواقع الحالي: نظام فصل عنصري قوي بين النهر والبحر تقوده أيديولوجية استيطانية استعمارية معقدة في تصميمها ولكن هدفها بسيط. وتعلمنا مراجعة سريعة لنضالات مماثلة ضد الاستعمار من فيتنام إلى جنوب إفريقيا أن مقاومة مثل هذه الأنظمة لا تكون مباشرة أبدًا؛ وكما هو الحال مع قضاياهم، فإن النضال غالبا ما يكون فوضويا، وقبيحًا، وحتى عنيفًا. ولكن عنف حملات المقاومة لا يضاهي وحشية الأنظمة التي يقاتلون ضدها. وهذا هو الشرط القمعي الذي يحاول جميع الفلسطينيين تفكيكه عن طريق محو الخط الأخضر الذي يعد خطوة حيوية نحوه. لقد فعلت الصهيونية الكثير لهدم هذا الخط بسبب رؤيتها المتعصبة. والآن، يجب على الفلسطينيين أن يتّحِدوا لاستبدال تلك الرؤية برؤية أسمى.
المصدر: ذا نيشن