أزمات مالية وإنتاجية كبيرة يعيشها القطاع الحكومي لصناعة السكر في السودان، والذي يضمّ 4 مصانع كبرى تحت رعاية وإشراف الشركة السودانية للسكر، بما يهدد مستقبل الصناعة الحيوية في السودان، كما تطال الأزمة أيضًا العاملين والموظفين الذين عجزت الشركة عن توفير مرتباتهم لشهرَين متتاليَين، مع متأخرات مالية تعود إلى بداية العام.
ودخل جميع العاملين والموظفين في المصانع الأربعة، بمن فيهم موظفو الشركة السودانية للسكر، والبالغ عددهم 4 آلاف عامل، في إضراب عن العمل منذ يوم الأحد الماضي، نتيجة عجز الشركة عن صرف مرتبات شهرَي يونيو/ حزيران ويوليو/ تموز الماضيَين، لجميع العاملين بالشركة والمصانع التابعة لها.
وتضم شركة السكر السودانية تحت رعايتها وإشرافها مصنع سكر الجنيد ومصنع سكر عسلاية ومصنع سكر حلفا ومصنع سكر سنار، وتعمل المصانع الأربعة هذه بطاقة إنتاجية مجتمعة تبلغ نحو 450 ألف طن سنويًّا، لتغطي مع شركة سكر كنانة -شركة استثمارية يقدَّر إنتاجها بنحو 400 ألف طن سنويًّا- جزءًا كبيرًا من الاحتياج السنوي للسودان من السكر، والذي يقدَّر بأكثر من 2 مليون طن سنويًّا، ليغطي السودان فجوة الاستهلاك عبر الاستيراد.
ولكن مع الأزمات التي ألمّت بقطاع إنتاج السكر في السودان في السنوات الماضية، تدنّى إنتاج القطاع الحكومي ليبلغ 50 ألف طن فقط عام 2021.
وتأتي أزمة إضراب العاملين بالتزامن مع أزمة إنتاجية وتشغيلية، بسبب مشاكل في الري وقطع الغيار وعجز مالي في إيفاء مستحقات وديون للشركة الحكومية، ما يهدد الموسم الزراعي والإنتاجي المقبل في عدد من مشاريع زراعة قصب السكر في السودان.
ويعتمد الآلاف من المزارعين السودانيين على أرباح نهاية الموسم الزراعي والإنتاجي للسكر كمصدر دخل أساسي، ما يضع آلاف السودانيين تحت تهديد معيشي حقيقي.
شيخ مصانع السكر.. إشكالات جدّية
يبدأ الموسم الزراعي لمحصول قصب السكر في مشروع الجنيد الزراعي، التابع لمصنع سكر الجنيد في ولاية الجزيرة (120 كيلومترًا جنوب العاصمة الخرطوم)، في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني من كل عام، إلا أن الموسم المقبل يواجه تهديدًا حقيقيًّا حيال إمكانية قيامه.
وتبلغ الطاقة الإنتاجية للمصنع المؤسَّس في عام 1962، كأوّل مصنع للسكر في السودان، 60 ألف طن سنويًّا، إلا أن معدلات الإنتاج تدنّت لتبلغ في السنتَين الأخيرتَين نحو 23 ألف طن فقط.
ويغطّي مشروع سكر الجنيد مساحة زراعية قدرها نحو 42 ألف فدان، بنسبة تبلغ نحو 25% من إجمالي المساحة المخصَّصة لزراعة قصب السكر في السودان البالغ قدرها 165 ألف فدان، إلا أن المساحة التي تزرع سنويًّا لا تتعدى 15 ألف فدان في مشروع الجنيد الزراعي المخصَّص لقصب السكر.
رغم تنازُل العاملين عن نصف الحصة المخصصة لهم من السكر، إلا أن الإدارة عجزت عن الإيفاء بالتزاماتها المالية تجاه الموظفين، بل فشلت حتى عن توفير الحصة المنقوصة من السكر.
ويقدَّر عدد المزارعين الذين يملكون حواشات زراعية في المشروع، بنحو 2500 مُزارع، تعتمد الغالبية منهم على أرباح نهاية الموسم كمصدر دخل أساسي بالنسبة إليهم.
ودخل العاملون في المصنع، الذي يُطلق عليه لقب شيخ مصانع السكر السودانية، في إضراب عن العمل، أسوة بزملائهم في مصانع السكر الأخرى، إذ عانوا أيضًا من عدم صرف مرتبات شهرَي يونيو/حزيران ويوليو/ تموز الماضيَين، هذا بالإضافة إلى متأخرات منذ شهر يناير/ كانون الثاني بداية العام.
ويقدَّر عدد الموظفين والعالمين في المصنع بنحو 1000 في شتى القطاعات الإنتاجية والإدارية، جميعهم دخلوا في الإضراب، هذا بالإضافة إلى المئات من العمّال الموسميين الذين يتعاقد معهم المصنع في فترات الموسم الزراعي والإنتاجي.
ويوضِّح مصدر إداري، فضّل عدم ذكر اسمه، لـ”نون بوست” أنهم دخلوا في الإضراب، الذي يهددون بتحويله لعصيان شامل حال تعذّر تنفيذ مطالبهم، أملًا في صرف مرتبات الأشهر الماضية، قائلًا إنه من المستحيل أن يستمرَّ العمل في المصنع حال عدم صرف المرتبات المتأخرة.
وأوضح المصدر الإداري أن العاملين والموظفين، وفي سبيل حل إشكالات المصنع، كانوا قد تنازلوا لصالح المصنع عن نصف حصتهم من السكر المخصص لهم، والبالغة شوال سكّر شهريًّا لكل موظف في المصنع.
وأضاف أنه رغم تنازُل العاملين عن نصف الحصة المخصَّصة لهم من السكر، إلا أن الإدارة عجزت عن الإيفاء بالتزاماتها المالية تجاه الموظفين، بل فشلت حتى عن توفير الحصة المنقوصة من السكر، رغم تنازل الموظفين عن نصيب كبير منها.
وذكر أن المصنع عانى في الأشهر الماضية من انقطاع الكهرباء، جرّاء تأخر المصنع عن دفع فاتورة الاستهلاك، مشيرًا إلى ما دعاها بـ”جهود حثيثة” أفضت إلى إعادة التغذية الكهربائية للمصنع، لكن مع سياسة ترشيدية تقضي بقطع الكهرباء عن المصنع ومدينة الجنيد السكنية 3 ساعات يوميًّا.
ورغم بوادر الحل الجزئي لأزمة الأجور في مصنع سكر الجنيد، عبر أحاديث عن تصديق مرتب شهر يونيو/ حزيران فقط هذا العام -حتى لحظة كتابة هذه السطور لم يتمَّ التنفيذ الفعلي-، إلا أن العاملين بالمصنع ما زالوا يهددون باستمرار إضرابهم، إذ يدفع العاملون بشروط إضافية من أجل تحسين الخدمة في المصنع، هذا بالإضافة إلى المطالبة بصرف مرتب يوليو/ تموز بالإضافة إلى متأخرات أخرى.
ويشكّك المصدر الإداري في إمكانية قيام الموسم المقبل في نوفمبر/ تشرين الثاني القادم، مشيرًا إلى العجز في إدارة العملية الإنتاجية بسبب غياب قطع الغيار لآليات المصنع، منوّهًا إلى أن المصنع سيواجه قريبًا أزمة صرف أرباح المزارعين، التي تعتبر عبئًا أكبر بكثير مقارنة بمستحقات الموظفين والعمال.
وبحسب مسؤول بالشركة السودانية للسكر، الذي تحدث مع “الجزيرة نت” في تقرير أعدّته في يوليو/ تموز هذا العام، فإن هناك خطة إسعافية وضعتها الشركة لا بدَّ من تطبيقها هذا العام -بحسب المسؤول- لتلافي مشكلات العام الحالي، بالإضافة إلى توفير مداخيل الحصاد للموسم المقبل، وأشار المسؤول إلى أن تكلفة الخطة تبلغ 33 مليون يورو.
الهيكل الراتبي الجديد وأزمة الموازنة العامة
إن العاملين في مصانع السكر ليسوا الوحيدين الذين يعانون من أزمة عجز صرف المرتبات في السودان، فالعديد من القطاعات الحكومية تعاني من تأخر وعجز في صرف المرتبات، نسبة إلى تطبيق الهيكل الراتبي الجديد لعام 2022 الذي أقرّته وزارة المالية السودانية، لتلافي آثار التضخم وانخفاض قيمة العملة المحلية وضعف قوتها الشرائية.
حيث يعاني أيضًا أطباء الامتياز من تأخر صرف المرتبات منذ 8 أشهر، هذا مع إضراب يعمّ معظم العاملين في الجامعات الحكومية، عقب تطبيق زيادة في مرتبات الأساتذة الجامعيين اُستثني منها العاملون في القطاعات الإدارية في الجامعات والكوادر المساعدة.
كما انتظم العمال والموظفون بوزارة الإنتاج والموارد الاقتصادية بولاية النيل الأبيض، في إضراب عن العمل منذ يوم الثلاثاء الأسبوع الماضي، للأسباب ذاتها التي تمثلت في المطالبة بتطبيق الهيكل الراتبي الجديد للعام 2022 وصرف المتأخرات.
وأقرّت وزارة المالية والتخطيط الاقتصادي زيادة في الحد الأدنى للمرتبات 3 أضعاف ما كانت عليه عام 2021، ورغم أن وزير المالية، جبريل إبراهيم، توقّع أن ثمة عثرات قد تواجه تطبيق الهيكل الراتبي الجديد في شهر يناير/ كانون الثاني، واعدًا بمعالجتها في شهر فبراير/ شباط، إلا أن الأزمة صاحبت التطبيق للهيكل الراتبي الجديد حتى الربع الأخير من العام الجاري.
وبحسب منصة “بيم ريبورتس” السودانية، المتخصصة في التقارير الاستقصائية والبحث المعلوماتي، فقد فقدت الموازنة المالية العامة للسودان لعام 2022 منحًا خارجية تقدَّر بـ 840 ألفًا و578 جنيهًا سودانيًّا، أي ما يقارب 1.5 مليار دولار، نتيجة إيقاف منح ومساعدات دولية بسبب استيلاء العسكريين على الحكم في السودان، ما رفضه عدد من الدول المانحة والصديقة للسودان.