تحدث أبو محمد الجولاني زعيم “هيئة تحرير الشام”، خلال اجتماع بمناسبة عيد الأضحى مع وجهاء ومدنيين وممثلي حكومة الإنقاذ التي توصف بذراع الهيئة المدنية في المنطقة، عن عدة مواضيع أبرزها: التحول من فكرة العسكرة والأمننة إلى بناء “مجتمع وكيان إسلامي سني يحافظ على هوية وتراث الشعب السوري، ويتناسب مع طبيعة الشعب وتاريخه” بحسب تعبيره.
تأتي أهمية هذا الخطاب كونه يترافق زمنيًا مع تغيرات تشهدها الساحة السياسية والميدانية السورية، كنتيجة لانعكاسات الأزمة الأوكرانية وتطورات الوضع الإقليمي، في ظل عزم تركيا شن عملية عسكرية ضد قوات سوريا الديمقراطية “قسد”، والحديث عن تأثر محتمل على خريطة الصراع في إدلب بعد الرفض الإيراني الروسي للعملية التركية، ما فتح الباب أمام التساؤل عن مستقبل هيئة تحرير الشام في ضوء الخطاب الجولاني الجديد وبوادر بناء تفاهم ومقاربة جديدة بين الفواعل الدولية المنخرطة في الشأن السوري، وتحديدًا تركيا وروسيا.
“الكيان السني” جولة في مسارات التحول وبراغماتية الخطاب
يثبت خطاب الجولاني (بشأن ضرورة بناء كيان سني في المناطق المحررة) مرة أخرى أن التقلبات والتحولات التي أحدثتها وتحدثها الهيئة على بنيتها الفكرية والتنظيمية خلال سنوات نشاطها وفاعليتها في سوريا، التي لامست أحيانًا قضايا أسياسية وجوهرية قام عليها التنظيم في مرحلة من المراحل لتحسين مظهرها الخارجي والانعتاق من لباس الجهادية المعولمة والشعارات العابرة للحدود والتوجه نحو فصيل محلي معتدل ثوري، مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بتقلبات الهيئة المصلحية المرحلية الضيقة، التي تأتي في سياق خدمة أهداف سياسية تكتيكية تنم عن براغماتية وانتهازية قائدها أبو محمد الجولاني دون أي مراعاة للمبادئ.
فعند تمحيص مسار هذه التحولات والتقلبات نرى أنها جاءت في سياق متغيرات محلية/إقليمية فرضت على الجولاني التلون بحسب ما تقتضيه المرحلة، بدءًا بإعلانه بيعة تنظيم القاعدة ردًا على إعلان البغدادي الوصاية على جبهة النصرة، مرورًا بانقلابه على المشروع القاعدي وتحوله من جبهة النصرة إلى تنظيم جبهة فتح الشام، وصولًا إلى الحديث عن خطاب محلي قُطري وذلك مع الإعلان عن هيئة تحرير الشام، وتبني مفردات وأدبيات الثورة السورية وإزاحة القيادات المتشددة والأجنبية تباعًا عن المراكز القيادية داخل صفوفها وتفكيك وتحجيم باقي التنظيمات الجهادية الأكثر تشددًا، وتأسيس حكومة الإنقاذ في محاولة لإعادة التموضع في سياق البحث عن الشرعية والقبول الدولي من خلال فرض وجودها ونفوذها كفاعل أساسي محلي سوري.
فكرة مشروع “الكيان السني” كانت حاضرة في خطاب الجولاني قبل التحول عن جبهة فتح الشام وتشكيل هيئة تحرير الشام
ولا ينفصل حديث الجولاني الأخير (بشأن دواعي التحول إلى بناء كيان سني) عن محاولاته إعادة التموضع في إطار البحث عن مشروعية سياسية تبقي تنظيمه داخل معادلة التفاعلات الدولية والإقليمية والمحلية المتعلقة بالشأن السوري وتثبيت موطئ قدم في أي حل سياسي مستقبلي محتمل أو تمتين سيطرته كسلطة أمر واقع في مناطق إدلب على أقل تقدير.
هذا إلى جانب الرسائل المباشرة وغير المباشرة التي يرسلها الجولاني ضمن خطاباته أو تقلباته الموجهة في الغالب إلى جهات خارجية لتلميع صورته أمام القوى الدولية والإقليمية الفاعلة في الملف السوري، وبعد فشله إلى الآن في انتزاع اعتراف سياسي دولي أو إقليمي ونزع تهمة تصنيف الهيئة بالإرهاب دوليًا، فضلًا عن فشله في التقرب من الحواضن الشعبية ونسج روابط معها يرتكز عليها لتحقيق طموحاته، وفشل مشروع هيئة تحرير الشام عمومًا في تقديم رؤية تتوافق مع هوية المجتمع السوري وتطلعاته طوال مسيرتها، كل ذلك دفع الجولاني فيما يبدو إلى سلوك مسار موازٍ في البحث عن مشروعية سياسية داخلية لدى المجتمع السني عبر الحديث عن مظلومية السنة والادعاء تمثيلهم والدفاع عن حقوقهم.
فضلًا عن حضور إشكالية انتهازية الجولاني وبراغماتيته وتنقله السريع بين المشروعات المتناقضة ضمن تصريحه الأخير، ففكرة مشروع “الكيان السني” كانت حاضرة في خطاب الجولاني قبل التحول عن جبهة فتح الشام وتشكيل هيئة تحرير الشام، فقد دعا خلال مقابلة تليفزيونية مع قناة الجزيرة عام 2016 إلى “توحيد الفصائل العسكرية وإنشاء كيان موحد يمثل أهل السنة ويدافع عنهم عسكريًا وسياسيًا أمام المشروع الرافضي” (في إشارة إلى إيران وحلفائها).
في تشابه واضح لخطابه الأخير (بعد 6 سنوات تقريبًا) الذي عرف فيه مشروعه في المناطق الخاضعة لسيطرته في إدلب بأنه “لم يعد مشروع ثورة ضد ظلم وطغيان فقط، وإنما تحول إلى بناء كيان سني”، معللًا ذلك بأن “أهل السنة باتوا معرضين لخطر وجودي في سوريا، رغم أغلبيتهم وكثرة عددهم بسبب سياسة التهجير واستبدال الهوية السنية بهوية أخرى، من خلال تجنيس النظام عدد كبير من الإيرانيين واللبنانيين من الطائفة الشيعية”.
هل تثمر هذه التحولات في إحداث خرق؟
تبدو التحولات المتكررة التي تجريها هيئة تحرير الشام على مستوى الخطاب السياسي أو من خلال التغييرات التكتيكية التي يحدثها الجولاني على مواقفه السياسية وتصرفاته الميدانية، تشي بحالة التخبط والضعف الذي يعيشه التنظيم، ويعبر عن تخوف حقيقي حيال مستقبل الهيئة، وذلك بعد مجمل التطورات التي شهدتها مناطق شمال غرب سوريا، فالخسائر العسكرية التي منيت بها الهيئة وتقلص مساحات نفوذها في إدلب وخضوعها لاتفاقيات دولية وإقليمية أثرت عليها بشكل مباشر بعد أن باتت تعمل تحت سقف التفاهمات التركية – الروسية التي لا يبدو أنها تفاهمات نهائية ومؤقتة، مع تخوف فعلي من تعرضها لعملية عسكرية أو ضغوطات قد تنهي التنظيم بشكل كامل.
لم تنجح الهيئة في كسر التعنت الدولي في مسألة تصنيفها ضمن لوائح الإرهاب
من جهة أخرى، وعلى الرغم من جملة التحولات والتقلبات التي أحدثتها الهيئة على منظومتها التنظيمية والفكرية، لم تكن يومًا هذه التغييرات موجهة إلى الداخل السوري، ولم تسع الهيئة إلى إثبات مصداقية تحولاتها وسلوكها تجاه مبادئ الثورة السورية والشعب السوري، ولم تبد رغبة حقيقية في بناء مؤسسة إدارية تشاركية مع المؤسسات والقوى الثورية والمدنية الأخرى، بل أصرت على عقلية الاستئثار بالسلطة واحتكار الحكم ورفض الاعتراف بالآخر، مقابل إبداء مرونة في التعامل مع القوى الإقليمية والدولية الفاعلة، ما وسع الهوة بينها وبين المكونات الشعبية والثورية، وقطع أواصر الثقة مع هذه الفئات في ظل عدم اهتمام الهيئة بالتراجع عن سلسلة الانتهاكات والاعتداءات التي مارستها على القوى الثورية والمدنية طيلة سنوات نشاطها.
الأمر الذي شكل اعتقادًا بأن هذه المراجعات والتغييرات التي أحدثتها وتحدثها الهيئة قد تتراجع عنها إذا اقتضت مصلحتها الشخصية ذلك أو أجبرتها الضغوطات الدولية والإقليمية على التماهي معها، لأنها لم تنطلق أصلًا من حاجات الشعب السوري ومبادئ ثورته ومفاهيمها، وهو ما بدأنا نلتمسه مع عودة الخطاب الجديد للجولاني في إحياء مشروع “الكيان السني” بعد تبنيه شعارات ومفاهيم الثورة السورية.
لم تنجح الهيئة في كسر التعنت الدولي في مسألة تصنيفها ضمن لوائح الإرهاب التي لا يبدو أن القوى الدولية، وتحديدًا الدول الغربية والولايات المتحدة، في وارد إعطاء الهيئة شرعية دولية أو رفع اسمها عن قوائم الإرهاب في المدى القريب، لأسباب عديدة متعلقة بمواقف تلك الدول وأجندتها تجاه الملف السوري، ولا يبدو أن محاولاتها في إحداث خرق بمواقف هذه القوى، سينبني عليه تغيير جذري بمواقف الفواعل الدولية على المدى القريب ضمن المعطيات السياسية الحاليّة.
وبالتالي، في ظل غياب الشرعية السياسية الداخلية، المستمدة عادة من الحواضن الشعبية والشرعية الدولية، تواجه الهيئة عددًا من العقبات والمهددات، ليبقى مستقبل الهيئة مرتبطًا بالتفاهمات بين القوى الدولية والإقليمية المنخرطة وبمدى تحقيق هذا التنظيم مصالح بعض القوى أو بما يمثله من كونه ورقة يستثمرها البعض – مثل روسيا – كشماعة لاستمرار القضم العسكري للمناطق تحت ذريعة “محاربة الإرهاب” والضغط على الضامن التركي في مسار المحادثات والمفاوضات بين الجانبين.
تأثير العملية العسكرية التركية المحتملة
لطالما كان وجود هيئة تحرير الشام ذريعة روسية تستثمرها موسكو لنقض الاتفاقيات والتفاهمات التي تبرمها مع تركيا وتنفيذ عمليات عسكرية في محافظة إدلب لاستعادة السيطرة عليها، رغم انتشار عدد من النقاط التركية وفق اتفاق خفض التصعيد، وقد حرصت روسيا في معظم التفاهمات التي خطتها مع تركيا من اتفاق خفض التصعيد 2017 ثم سوتشي 2018 على استثناء هيئة تحرير الشام من الاتفاق، ليشكل هذا الاستثناء شماعة روسية تقضم من خلالها مناطق ومدن الشمال السوري.
وفي متابعة لنفس الديناميكية سارعت روسيا خلال مسار المحادثات بين الطرفين في قمتي طهران وسوتشي بابتزاز تركيا في ملف هيئة تحرير الشام وتذكيرها بالتزاماتها بشأن “القضاء على الإرهاب” في إدلب، وسط الحديث عن احتمالية تفكك هيئة تحرير الشام كأحد مخرجات التفاهم التركي الروسي أو شن قوات النظام بدعم روسي عملية عسكرية على إدلب بتفاهم مع تركيا مقابل التغاضي الروسي عن العملية التركية ضد قوات “قسد” في تل رفعت ومنبج.
وهو ما ترافق مع تلميح الجولاني بعملية عسكرية قريبة ضد قوات النظام في إدلب، معتبرًا أن “الظروف الدولية والمحلية والإقليمية تدفع باتجاه أن هناك فرصة كبيرة ستأتي على المنطقة للتحرير العسكري”، الذي يمكن اعتباره استثمارًا من الجولاني في التحركات التركية والإيهام بأن الهيئة جزء من العملية العسكرية المرتقبة.
في المقابل، يمكن القول بأن خطة استكمال مشروع “المنطقة الآمنة” التي تنوي تركيا إنشاءها بعمق 30 كيلومترًا ضمن جهودها لإعادة مليون لاجئ سوري منها إلى تلك المناطق، تعتبر هدفًا أساسيًا ودافعًا رئيسيًا لتحريك تركيا ملف العملية العسكرية شمال غرب سوريا، فضلًا عن دوافع أمنية وسياسية وداخلية تدفعها لشن عمليتها العسكرية ضد قوات “قسد” وانتزاع مناطق جديدة منها، رغم المعارضة الدولية والإقليمية، وتحديدًا المعارضة الروسية والإيرانية لهذه العملية.
وعليه، فإن خيار فسح تركيا المجال أمام روسيا ونظام الأسد لتحقيق تقدم ما جنوب إدلب، مقابل تفاهم معين تحصل فيه تركيا على ضوء أخضر روسي لعمليتها العسكرية أو السماح بدخول قوات النظام لمناطق جديدة في إدلب، لا يبدو خيارًا واردًا حتى الآن، رغم الضغوطات الروسية الإيرانية على تركيا، لما قد يسببه ذلك من موجات نزوح جديدة على الحدود التركية، وبالتالي، تعقد ملف أزمة اللاجئيين وتهدم أركان”المنطقة الآمنة” قبل إنشائها، التي تعتبرها أنقرة هدفًا أساسيًا لإستراتيجيتها المرحلية في سوريا مع قرب الانتخابات الرئاسية لعام 2023 التي تحظى فيها قضية اللاجئيين والمهاجرين بأهمية بالغة ضمن التجاذبات السياسية للأحزاب التركية.
يبدو من الصعوبة بمكان الحديث عن حل هيئة تحرير الشام نفسها أو الاندماج الشامل مع فصائل الجيش الوطني
وبهذا فإن احتمالية شمول إدلب في التفاهمات الروسية التركية حيال العملية العسكرية التركية يبدو أمرًا مستبعدًا، في ظل توجه تركيا لربط عمليتها العسكرية بتطورات الوضع في أوكرانيا نظرًا لامتلاكها أوراق قوة جديدة على الساحة الدولية نتيجة دورها الفاعل في الأزمة الأوكرانية، وبالتالي، لا يبدو أن تأثيرًا عسكريًا جذريًا سينعكس على هيئة تحرير الشام مع تطورات المشهد السياسي والميداني في سوريا.
فضلًا عن أن عملية تفكيك هيئة تحرير الشام عسكريًا (في حال وجود هكذا خيار) تبدو مكلفة وخطيرة لتركيا، لما قد تسببه من انفلات أمني وموجات نزوح ولجوء أخرى، إضافة إلى عدم ثقة تركيا بنوايا روسيا وجديتها في إيقاف الهجمات في حال تفكيك الهيئة، لا سيما أن روسيا لا تفرق عادة بين معارضة معتدلة وغير معتدلة، وتصر على إنهاء وجود الهيئة بشكل كامل من إدلب في محاولة لإحراج تركيا، وهو ما شدد عليه وزير الخارجية الروسي في مؤتمر صحفي سابق موضحًا “ضرورة عزل الإرهابيين، خصوصًا تحرير الشام مهما حاولوا تغيير لباسهم”.
ويبدو من الصعوبة بمكان الحديث أيضًا في المدى القريب عن حل هيئة تحرير الشام نفسها أو الاندماج الشامل مع فصائل الجيش الوطني نظرًا إلى ما أسلفنا الحديث عنه في ثنايا التقرير من عدم استعداد الهيئة للتنازل عن قضايا الأمن والعسكرة ولا حتى عن الأمور التنظيمية والإدارية لصالح أي جهة منافسة، مدنية كانت أو عسكرية.
يبقى مشروع هيئة تحرير الشام رهين التفاهمات الدولية والإقليمية وبعيدًا عن تحصيل شرعية شعبية داخلية أو دولية خارجية يرتكز عليها، لتستمر جهود الجولاني “العبثية” في اللعب على الهوامش المتاحة بحثًا عن البقاء عبر التلون بخطابات ومشاريع متناقضة من محاولة الالتصاق بشعارات الثورة أو الإعلان عن “كيان سني” في سوريا.