ترجمة وتحرير: نون بوست
وانتهى الهجوم الإسرائيلي الأخير على غزة بمقتل 48 فلسطينيًّا بينهم 16 طفلًا؛ حيث زعمت “إسرائيل” أن 15 من هؤلاء الفلسطينيين قتلوا بصواريخ خاطئة أطلقتها حركة الجهاد الإسلامي الفلسطينية، والتي سقطت داخل القطاع، وأن الضربات الجوية الإسرائيلية قتلت 24 من مقاتلي الجهاد الإسلامي و11 من “غير المقاتلين”.
ونقل موقع واي نت الإخباري الإسرائيلي عن مسؤولين بالجيش تفاخرهم بأن نسبة القتلى بين “غير المقاتلين” والمقاتلين كانت “أفضل مما كانت في جميع العمليات السابقة”، ومع ذلك؛ تعترف “إسرائيل” بأنها قتلت ما لا يقل عن 11 شخصًا لا علاقة لهم بأنشطة المسلحين، بما في ذلك طفلة تبلغ من العمر خمس سنوات.
واعترف الجيش بأنه أطلق النار على أشخاص عزّل؛ بحسب ضابطة أجرت مقابلة مع موقع واي نت بعد الهجوم الأخير؛ حيث قالت: “نزل عنصر من حركة الجهاد الإسلامي من موقعه لأنه كان أعزلًا، ولكنني فتحت النار عليه، وعندما سقط، أطلقت النار أكثر”.
يعتقد غالبية الإسرائيليين أن أي أطفال أو أسر قتلوا في غزة خلال العمليات العسكرية الإسرائيلية – والتي يكون الهدف الوحيد منها، بالطبع، هو حفظ الأمن – يُقتلون عن غير قصد، وذلك على عكس المنظمات “الإرهابية”؛ حيث يذهب التفكير إلى أن القوات الإسرائيلية لا تقتل الأبرياء عن علم، وتتيح هذه الآلية للمجتمع الإسرائيلي أن ينسى مشاهد الدم والرعب، وأن يطرد من وعينا مئات الأطفال الذين قتلهم الجيش في غزة على مر السنين.
لكن الواقع أكثر تعقيدًا بكثير؛ حيث تكشف المحادثات مع الإسرائيليين الذين خدموا في وحدات مختلفة من فيلق المخابرات الإسرائيلي خلال الأشهر الماضية أنه خلال عملياته العسكرية، في كثير من الحالات يعرف الجيش قبل الهجوم أنه سيقتل المدنيين العزل، وأن قرار قتلهم ليس خطئًا، بل هو قرار محسوب وواعٍ.
وشهد الجنود السابقون بأن رؤساءهم أخبروهم أنه يسمح للجيش بقتل عددٍ معينٍ من “غير المقاتلين” – أي العائلات والأطفال – أثناء الأنشطة العملياتية؛ وطالما أنه لم يتم تجاوز هذا الحد، فيمكن الموافقة على القتل مسبقًا.
“لقد قتلوا عنصرًا من حماس والصبي الصغير”
دانا – التي استخدمت اسمًل مستعارًا؛ مثل جميع الجنود السابقين الذين تمت مقابلتهم في هذا المقال – هي معلمة روضة أطفال تعيش في شقة مفروشة من الخشب مليئة بكتب الفلسفة في وسط تل أبيب، وخلال خدمتها العسكرية؛ شاركت في عملية اغتيال قُتِلَ فيها طفل يبلغ من العمر خمس سنوات في غزة؛ حيث قالت: “عندما خدمت في قسم غزة، كنا نتبع شخصًا من حماس، لأن [الجيش] كان يعلم أنه يخفي الصواريخ، ولقد اتخذوا قرارًا بالقضاء عليه”.
عملت دانا كضابطة تحليل حركة المرور في غرفة العمليات؛ حيث كانت وظيفتها تأكيد أن الصاروخ أصاب الشخص المناسب، وقالت: “أرسلنا طائرة بدون طيار لمتابعة الرجل لقتله، لكننا رأينا أنه كان مع ابنه، الذي كان صبيًّا كان في الخامسة أو السادسة من عمره، على ما أعتقد”.
وأوضحت دانا: “قبل الاغتيال؛ يجب الرجوع إلى معلومات من مصدرين مختلفين حتى نعلم أننا نقتل الهدف الصحيح، مضيفة: “أخبرت القائد، الذي كان برتبة مقدم، أنني لا أستطيع تحديد الهدف بالكامل، وطلبت عدم تأكيد إطلاق النار، ولكنه قال: لا يهمني، وأكد ذلك، وكان على حق أيضًا، فلقد كان الهدف الصحيح، ولكنهم قتلوا العنصر العسكري الحمساوي والصبي الصغير الذي كان بجانبه”.
عرضتُ علي دانا كوبًا من الماء؛ فيما جاءت رائحة نشارة الخشب من فناء أخشاب قريب، وسألتها: “كيف شعرتِ بعد كل هذا؟”، فأجابت: “كانت لدي آليات دفاع نفسية عندما كنتُ في الجيش”، موضحة أنها كانت في حالة إنكار، وتابعت قائلة: “القادة قالوا إن هذا يتوافق مع القواعد، وبالتالي فهو مسموح به، فلقد كانت لدينا قواعد في الجيش تتعلق بعدد غير المقاتلين المسموح بقتلهم في غزة مع الأهداف المسموح بقتلها”.
وأضافت دانا، التي خدمت في فيلق المخابرات حتى عام 2011: “لماذا هذا الرقم؟ ما زلت لا أعرف. اليوم يبدو الأمر جنونيًّا بالنسبة لي، لكن هناك قواعد ومنطق داخلي توصلوا إليه، مما يسهل القيام بذلك؛ حيث إنه يجعل الأمر على ما يرام”.
حزن الفلسطينيين يتحول لدروس لغة عربية
وردد العديد من المسؤولين الآخرين في فيلق المخابرات الذين تحدثت معهم كلمات دانا؛ حيث إنهم خدموا في نفس المكان خلال الحروب السابقة على غزة في السنوات الأخيرة.
وقال ثلاثة منهم، بمن فيهم دانا، إنه في أعقاب أي قصف إسرائيلي على غزة يُقتل فيه فلسطينيون؛ يُطلب من الجنود مراقبة المحادثات الهاتفية لأفراد الأسرة، لسماع اللحظة التي يخبرون فيها بعضهم البعض أن أحبائهم قد ماتوا؛ حيث أوضحت دانا: “إنها طريقة أخرى للتحقق من القتلى، وطريقة للتأكد من وفاة الشخص الذي أردناه، وكانت هذه وظيفتها بعد مقتل الصبي البالغ من العمر خمس سنوات؛ حيث تقول: “سمعتُ امرأة تقول: “مات؛ الطفل مات”، وهكذا أكدت إتمام المهمة”.
وشهد زيف، الذي أنهى خدمته في وحدة استخبارات سرية للغاية قبل ثلاث سنوات، أن بعض هذه المحادثات تم حفظها واستخدمت لاحقًا لتعليم الجنود اللغة العربية، ويتذكر المرة الأولى التي سمع فيها مثل هذه المحادثة أثناء التدريب؛ حيث يقول إنها كانت لحظة محفورة في أذهان الجنود ووصفها بأنها “مروعة بشكل خاص”.
ويتذكر زيف قائلًا: “أثناء التدريب؛ تعلمنا اللغة العربية من خلال المكالمات الهاتفية من الفلسطينيين، وذات يوم؛ قدم القادة مكالمة من أم أخبرها زوجها عبر الهاتف أن طفلهما قُتل؛ حيث بدأت بالصراخ والبكاء، وكان من الصعب جدًا الاستماع إليها، فلقد كانت تمزق القلب، وكان علينا ترجمة صراخها إلى العبرية، وكنا لا زلنا مجموعة من صغار السن في عمر الثامنة عشرة؛ حيث ترك الجميع الفصل منزعجًا تمامًا”.
وتابع زيف: “لم يكن حتى عملاً سياسيًًا، فقد كان بيننا جناح يميني أصيب بالرعب من ذلك، وأثرت المحادثة في الغالب على الأولاد، أكثر من الفتيات؛ لا أعرف لماذا. وسألتُ القادة لاحقًا عما إذا كان علينا تعلم اللغة العربية من هذه الأنواع من المحادثات، لكن لم يكن لديهم إجابة، فقد كانوا أيضًا صغارًا في السن ويبلغون من العمر 19 عامًا”.
نسخة “برنامج ترومان” في غزة
أنهى آدم، البالغ من العمر 23 عامًا، خدمته في فيلق المخابرات العام الماضي، وذلك بعد ثلاث سنوات في وحدة “سيجنيت” التي أشرفت على غزة؛ حيث قال إن “السيطرة على الحدود واعتماد سكان القطاع على “إسرائيل” يوفر لإسرائيل معلومات استخباراتية متفوقة ويجعل من الممكن تجنيد متعاونين”، وأضاف: “ليس لديهم طريقة للخروج من هناك، كما يعمل المصريون معنا بتعاون كامل”.
وقال جندي آخر، خدم في وحدة تكنولوجيا في فيلق الاستخبارات في عام 2019: “إنك تتحكم في جميع معابرهم؛ وهذا يمنحك الكثير من القوة، وإذا كانت غزة مرتبطة بالضفة الغربية، فإنك تفقد بعضًا من تلك القوة، ولكن اليوم نتحكم في كل ما يدخل ويخرج، سواء جسديًا أو إلكترونيًا أو من حيث الأشخاص، وهذا يسمح بمزيد من أساليب العمل: على سبيل المثال، يتوسل الناس في غزة ليتمكنوا من السفر من أجل الدراسة في الخارج أو زيارة الأقارب خارج القطاع، ويمكن استخدام ذلك لتحويلهم إلى متعاونين”.
وقال آدم: “كان هناك أشخاص لم أتعاطف معهم على الإطلاق؛ فكل كبار أعضاء حماس، فقد كانوا أيديولوجيين للغاية، كما أنكم سمعتم حقًا أنهم يريدون الموت من أجل الوطن، وأنا لم أفهم وطنيتهم هذه، ولهذا السبب كان لدي مبرر لإيذائهم، لكننا جمعنا أيضًا معلومات عن العديد من الأشخاص في المستويات الأدنى، الذين كانوا يقومون بعملهم ببساطة؛ ويذهبون إلى مكاتبهم وأشغالهم ويسألون زوجتهم عما يجب تناوله على العشاء”.
وبحسب آدم، فإن المعلومات الشخصية التي يجمعها الجيش تُستخدم لتجنيد المتعاونين؛ حيث قال: “لا يوجد شيء اسمه الخصوصية، فأنت تعرف كل شيء عن الشخص؛ ما يحبونه، ما صوروه [على هواتفهم]، وما إذا كان لديهم حبيب، وتوجههم الجنسي؛ فكل شيء مكشوف تمامًا، ويمكنك جمع معلومات عن أي شخص تريده، وأنت تعلم أن هؤلاء الناس لا يريدونك أن تعرف هذه الأشياء”.
وقالت شيرا، وهي من جنود فيلق المخابرات، إنها فوجئت بعدد المتعاونين الفلسطينيين الذين عملوا مع الجيش: “أتذكر أن الضباط أروني عدة أشخاص وقالوا هذا متعاون، وهذا أيضًا، وذاك؛ فحماس وفتح تعطينا المعلومات الاستخباراتية بلا نهاية. في مرحلة معينة؛ شعرت كما لو أن الجميع يتعاونون معنا، وكما لو كانت “إسرائيل” هي الموجودة فقط بدون صراع، وأننا كلنا نعيش في نسخة من فيلم “برنامج ترومان”.
المصدر: مجلة +972 الإسرائيلية