أصدر مؤسس الجمهورية الإسلامية الإيرانية، آية الله الخميني، في 14 فبراير/شباط 1989، فتوى أُذيعت عبر راديو طهران، أهدر فيها دم الكاتب البريطاني من أصل هندي، سلمان رشدي، بسبب روايته “آيات شيطانية” التي قيل إنها تحمل الإساءة والسخرية من النبي محمد عليه السلام، وقد عرضت طهران مكافأة قدرها 3 ملايين دولار لمن يقتله، ما اضطر الحكومة البريطانية لوضعه تحت حماية الشرطة وتوارى عن الأنظار.
وفي 12 أغسطس/آب 2022 تعرض الكاتب البريطاني، للطعن خلال وجوده في قاعة بمدينة نيويورك، استعدادًا لإلقاء محاضرة، بعد أن اقتحم شاب مسرح مؤسسة تشوتوكوا (Chautauqua) وبدأ بلكم رشدي وطعنه في أثناء وجوده على خشبة المسرح، وقالت الشرطة إن منفذ الهجوم شاب يبلغ من العمر 24 عامًا، من أصل لبناني، يدعى هادي مطر، من سكان ولاية نيوجيرسي الأمريكية.
33 عامًا مضت على فتوى إهدار دم الكاتب البريطاني، ليواجه اليوم الطعن وبصورة مفاجئة، وسط غموض بشأن دوافع مرتكب الجريمة وخلفيته الأيديولوجية، ما فتح باب التكهنات مجددًا وأثار الكثير من علامات الاستفهام عن توقيت العملية وأهدافها الحقيقية خاصة أن البعض يحاول ربطها بتحركات استخباراتية ودوافع سياسية.
Author Salman Rushdie was attacked at a speaking event in Chautauqua, N.Y., on Friday by a man who stormed the stage and stabbed the writer in the neck, police said.#سلمان_رشدی #SalmanRushdi
pic.twitter.com/PXvwHwy7er— Shilan Chikh Mousa (@SChikhmousa) August 12, 2022
عقدية أم مخابراتية.. كل الاحتمالات واردة
حين تغيب التفاصيل وتنزوي المعلومات الدقيقة وتتوارى الشفافية تصبح الأرض مهيأة لكل الاحتمالات، يتوقف ذلك على رجاحة كل احتمال ومدى تلامسه مع الواقع، استنادًا إلى عدد من المؤشرات التي يمكن ربطها أحيانًا بخلفيات تاريخية محددة، وفي حالة رشدي الذي طواه النسيان لسنوات عدة، فإن دراما عودته فتحت الكثير من السيناريوهات وإن حُصرت في سيناريوهين اثنين.
السيناريو الأول يتعلق بالبعد العقدي، فرغم رفع فتوى إهدار دمه رسميًا عام 1998، فإن استمرارها كان واقعًا معاشًا، فلا تزال مكافأة الظفر برأسه قائمة، إن لم تكن قد ازدادت قيمتها، ما يعني أن قرار الرفع كان سياسيًا في ظل الضغوط التي مورست على الدولة الإيرانية وقتها، ولعل ما يجعل هذا السيناريو قائمًا المعلومات الأولية بشأن هوية مرتكب الحادث، فكونه لبناني الجنسية دون معلومات تفصيلية ربما يزيد من فرضية البعد العقدي، حتى إن كان دافعه الشخصي ماديًا في المقام الأول إلا أن الجهة المحرضة غير ذلك.
أما السيناريو الثاني، فيرجح البعد السياسي المخابراتي، وتقديم دعاية سلبية ضد طهران، ومحاولة استعادة الأحداث التاريخية لإسقاط القناع الإيراني، تضاف إلى صورتها المشوهة دوليًا، من أجل تحقيق أهداف ومكاسب سياسية لدى خصومها، خاصة بعد الخطوات الجيدة التي خطاها مسار المفاوضات بشأن الاتفاق النووي بعد سنوات من التعثر.
هذا التوجه عبر عنه صراحة مستشار فريق التفاوض النووي الإيراني، محمد مرندي، الذي أعرب في تغريدة له على تويتر عن تعجبه من تزامن العملية مع اقتراب إحياء الاتفاق النووي قائلًا: “لن أبكي على كاتب ينشر كراهية لا نهاية لها وازدراء للمسلمين والإسلام. بيدق إمبراطورية يتظاهر بأنه روائي ما بعد الاستعمار. لكن، أليس من الغريب أننا مع اقترابنا من صفقة نووية محتملة، تقدم الولايات المتحدة ادعاءات بشأن ضربة على بولتون.. ثم يحدث هذا”؟ فيما ذيل تغريدته بصور لرشدي وبولتون ومايك بومبيو، وزير الخارجية الأمريكي السابق.
وكانت السلطات الأمريكية قد اتهمت في 10 من الشهر الحاليّ رجلًا إيرانيًا يدعى “شهرام بورصافي” بالتخطيط لاغتيال مستشار الأمن القومي الأمريكي في إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، جون بولتون، وقالت إنه عضو في الحرس الثوري الإيراني ويخطط لاستهداف شخصيات أمريكية.
The man suspected of stabbing Salman Rushdie is named Hadi Matar but he was carrying this fake driver license at the time of his arrest.https://t.co/KoY2h4RI8E pic.twitter.com/zstDVDJnm3
— Fox3 Now (@fox3news) August 12, 2022
كاتب مثير للجدل
كان سلمان، المولود في مومباي في 19 يونيو/حزيران 1947، أحد أبرز الأدباء في الهند، إذ يمتلك مدرسة متطورة في الكتابة تجمع بين الخيال الحالم والواقعية المفرطة، وهو ما دفعه لأن يكون محط أنظار الجميع، خاصة بعد حصول روايته “أطفال منتصف الليل” على جائزة بوكر الأدبية عام 1981.
ورغم تلقيه تعليمه في بريطانيا وحصوله على الماجستير من جامعة كامبريدج، فإنه كان متمسكًا بجذوره الهندية، وكانت بدايته الأولى في عالم الأدب والفكر عام 1975 حين ألف روايته الأولى “Grimus” وقبل ذلك كان يعمل مؤلفًا للإعلانات في لندن ليدخل كواليس الأدب والثقافة والفنون في أوروبا.
ورغم مسيرته الطويلة في عالم الأدب، فإن روايته “آيات شيطانية” الصادرة عام 1988، وهي الرابعة في قائمة أعماله، كانت محطة فارقة في حياته، إذ يبدو أنه حاول اللحاق بركب الشهرة من أوسع الأبواب، ازدراء الإسلام والسخرية من نبيه وكتابه، إذ تضمنت روايته العديد من الفقرات التي اعتبرت مسيئة للإسلام ورموزه، وطعنًا واضحًا في ثوابت الدين، وهو ما وضعه في مرمى الغضب الإسلامي الذي وصل في بعض الأحيان إلى المطالبة برأسه كما حدث في إيران، فضلًا عن العواصم العربية والإسلامية التي هاجمته بشكل غير مسبوق.
في تلك الأثناء استشعرت الحكومة البريطانية القلق على حياة أديبها، خاصة أنه لم يحاول امتصاص غضب المسلمين، فوضعته تحت الحماية الشرطية، فيما انزوى هو الآخر بعيدًا عن الأضواء والإعلام، مختبئًا في أحد الأماكن غير المعروفة، وظل هكذا قرابة عشرة أعوام حتى رُفعت فتوى إهدار دمه رسميًا نهاية الألفية الماضية.
ومع العقد الأول من الألفية الحاليّة عاود رشدي حياته الطبيعية وإن كان بحذر نسبي، فخرج لعالم الرواية والأدب مرة أخرى، دون الزخم الإعلامي المعتاد الذي رافقه عقب نشره رواية “آيات شيطانية”، ومع انتقاله للولايات المتحدة بعد حصوله على جنسيتها استهل نشاطاته الأدبية والفكرية التي تمحورت في الأساس على قضايا ومسائل أدبية بحتة في فنون الكتابة والسرد ومدارسها النقدية، مبتعدًا بشكل كبير عن الملفات المثيرة للجدل خوفًا على حياته.
مضطرب نفسيًا
على عكس الصورة الوردية التي يحاول الداعمون لرشدي رسمها له كأحد رواد التنوير والتحرر في العالم، رغم خلفيته المسلمة، تكشف التسريبات الواردة بشأن حياته الخاصة عن جانب آخر أكثر إظلامًا في شخصيته، يتعلق بمزاجه المتقلب وأنانيته وهوسه الجنسي، وذلك وفق شهادات زوجاته الأربعة اللائي طلقهن جميعًا.
في تصريحاتها التي نشرتها “ديلي ميل” عام 2016 وصفت مطلقة رشدي الرابعة والأخيرة، الممثلة الهندية الأمريكية والموديل بادما لاكشمى، طليقها بأنه “أناني ومهووس جنسيًا” بجانب أنه “طفل مدلل غير آمن وغير حساس ويتطلب الثناء والتغذية والاهتمام المستمر” على حد قولها.
الأمر لم يقتصر على علاقاته بزوجاته فقط، بل تجاوز الوضع هذا الإطار الضيق، بعدما واجه اتهامات عدة بالتحرش والابتزاز من أجل إقامة علاقات جنسية غير مشروعة، أبرزها تلك التي وجهتها له الممثلة الأمريكية، ديفورا روز، حيث قالت إنه حاول تشويه سمعتها بعد رفضها إقامة علاقة معه، مضيفة “نعم عقله مميز لكن تصرفاته صبيانية، وسلوكه بغيض جدًا”.
وخلال العقدين الماضيين انزوت حياة الكاتب البريطاني بين مؤلفاته التي تتأرجح بين الخيال والواقع والمزج بينهما بعيدًا عن القضايا الجدلية الأخرى لا سيما الدينية، وعلاقاته العاطفية الفاشلة بين الحين والآخر، ومن ثم جاء استهدافه في هذا الوقت بعد سنوات النسيان والتهميش، ليفتح معه بورصة التهكنات، إذ لا يوجد سبب مباشر في الوقت الحاليّ للانتقام منه.
وفي الأخير وحتى الكشف عن المخفي في تلك العملية وإزالة النقاب عن كواليسها، الحقيقية وليست المعلنة، يمكن القول إن قراءتها على كل الأوجه مقبولة، وعلى وجهتي العملة وإن تباينت في نسبها، متأرجحة بين وجه الانتصار العقدي من جانب وحرب الاغتيالات بين إيران والغرب، وهي الحرب الممتدة منذ سنوات طويلة، تقودها أجهزة مخابرات دولية، وتنفذها عصابات وكيانات بالوكالة، من جانب آخر.