ظهر حزب العدالة والتنمية من رحم فشل تجربة حزب الرفاه بقيادة الأب التاريخي للحركة الإسلامية في تركيا نجم الدين أربكان بعد أن أقصاه الجيش عن الحكم وأغلق حزبه ومنعه من ممارسة العمل السياسي بعد انقلاب 28 فبراير/شباط 1997، ليكون هذا الانقلاب نهاية أربكان وولادة أردوغان الذي خاض برفقة شباب حركة الرؤية الوطنية “Milli Görüş” صراعًا مع قيادة الحزب التقليدية خسروا خلالها انتخابات حزب الفضيلة الذي جرى تأسيسه بعد إغلاق الرفاه 1998، لتقطع الخسارة آخر روابط هذه الفئة مع حزب المؤسس أربكان، وتؤسس لحزب العدالة والتنمية الذي أعلن عنه في أغسطس/آب من العام 2001.
امتدت تجربة حزب العدالة والتنمية لأكثر من عقدين، ترك خلالها الحزب أثرًا واضحًا على الحياة السياسية والاقتصادية في تركيا، مؤسسًا لحقبة جديدة من تاريخ الجمهورية، انتشل فيها الحزب تركيا من عقد التسعينيات المظلم لعقود من النمو الاقتصادي والتوسع السياسي.
لم يكن حزب العدالة والتنمية نفسه بعيدًا عن عملية التغيير التي امتدت لبنيته التنظيمية وتنظيره السياسي وتحالفاته الحزبية، وصولًا إلى موقعه في الحياة السياسية التركية كحزب حاكم. يسعى المقال إلى تناول التغيرات التي مر بها الحزب خلال السنوات الماضية.
تركيا في عهد العدالة والتنمية.. عقود من التغيير
واجه حزب العدالة والتنمية عند تأسيسه أربع مشاكل أساسية: الأولى الأزمة الاقتصادية وارتفاع معدلات التضخم، الثانية أزمة النظام السياسي التركي وسيطرة الوصاية البيروقراطية بشقيها المدني والعسكري وفساد نخبه، والثالثة الأزمة الكردية وسنوات الحرب الطويلة ما بين حزب العمال الكردستاني والدولة التركية، وأخيرًا الأزمة الهوياتية وتهميش شرائح واسعة من المجتمع التركي وإقصائه من المجال العام.
بدأ الحزب بنشاط وكفاءة ملحوظة في تفكيك الأزمات السابقة، مستفيدًا من الظرف الدولي بشقيه السياسي والاقتصادي، وارتكز إلى برامج الإصلاح الاقتصادي في إعادة هيكلة الاقتصاد التركي، مستفيدًا من تدفق الاستثمارات المباشرة التي ارتفعت من 982 مليون دولار عام 2000 لتصل إلى 22.047 مليار دولار عام 2007، فحققت قطاعات مهمة كالصادرات تقدمًا ملحوظًا، مرتفعة من 36.1 مليار دولار عام 2002 لتصل إلى 225.291 مليار دولار عام 2021.
انعكست التطورات الاقتصادية على المستوى المعيشي للمواطنين الأتراك فارتفع نصيب الفرد من الناتج المحلي للدخل سنويًا من 3.907 دولار عام 1999 إلى 10.438 دولار عام 2008، فتوسعت الطبقة الوسطى التركية، وتقلصت الطبقات الفقيرة والمعدومة وانخفضت مستويات التضخم من 54.92% عام 1999 لتصل إلى 6.5% عام 2009.
خلال الفترة من 1984 إلى العام 2020 قتل على يد عناصر تنظيم حزب العمال ما يقارب 8124 عنصر أمن تركي إلى جوار 5700 مدني
منحت النجاحات الاقتصادية للحزب الشرعية الشعبية لتحقيق اختراق في ملف إصلاح النظام السياسي متسلحًا برغبة تركيا بالانضمام إلى الاتحاد الأوروبي وضرورة ملاءمة معايير كوبنهاجن للدول المرشحة لنيل عضوية الاتحاد الأوروبي، واتجهت إصلاحات الحزب إلى معالجة الخلل الواضح في العلاقات ما بين المستوى السياسي والبيروقراطي بشقيه المدني والعسكري، عبر تعزيز نفوذ وسلطة الجانب المدني في عملية اتخاذ القرار، فأعيد تعريف دور مجلس الأمن القومي ومجلس الشورى العسكري عبر مسيرة من القرارات والتعديلات الدستورية بدأت مع العام 2003.
منذ عام 1984 وتركيا في حرب دموية مع حزب العمال الكردستاني، فخلال الفترة من 1984 إلى العام 2020 قتل على يد عناصر تنظيم حزب العمال ما يقارب 8124 عنصر أمن تركي إلى جوار 4700 مدني، فيما حيدت قوى الأمن التركي أكثر من 43 ألف عنصر من التنظيم.
اعتمدت الحكومات السابقة على الخيار الأمني والعسكري في مواجهة تمرد عناصر حزب العمال، مهملة المقاربات الأخرى في معالجة الأزمة، وهذا ما سعى الحزب إلى تجنبه، متبنيًا مقاربات اقتصادية وثقافية لحل الأزمة الكردية التي فرق بينها وبين مكافحة إرهاب حزب العمال الكردستاني، فبعد أسابيع من تولي حزب العدالة والتنمية السلطة رفع حالة الطوارئ بعد 24 عامًا من فرضها على المناطق الشرقية والجنوبية الشرقية التي تضم مدنًا ذات غالبية كردية كديار بكر وفان وهكاري، لتشهد ارتفاعًا في الاستثمارات الحكومية، لتصل خلال الـ13 عامًا من حكم العدالة والتنمية إلى 105.4 مليار ليرة أي ربع ما جرى إنفاقه الذي بلغ 462.791 مليار ليرة.
كما اتخذت الحكومة عددًا من الخطوات في مجال الحريات الثقافية للأكراد والأقليات الأخرى كفتح قناة ناطقة باللغة الكردية وقسم خاص بآدابها في إحدى الجامعات، ووصلت ذروة سياسات الحكومة الانفتاحية على الأزمة الكردية بمحادثات السلام مع حزب العمال الكردستاني ووقف إطلاق النار عام 2014، إلا أن متغيرات سياسية لاحقة فجرت المسار من جديد وأعادت الأزمة الكردية إلى نقطة الصفر مرة أخرى.
عانت الفئات المحافظة في المجتمع التركي لسنوات طويلة من سياسات النظام العلماني والتضييق على الممارس بحق هويتها المحافظة، حالة التهميش امتدت إلى البعد الاقتصادي عبر حرمان هذه الفئات من الترقي الطبقي والإبقاء عليها كفئات دنيا في مجتمعات المدينة، والبعد الثقافي عبر حرمانها من حقها في ممارسة نشاطها العام دون تقييد على معتقداتهم وطريقة معاشهم، وبرزت في هذا الإطار قضية ارتداء الحجاب كمعبر عن هوية هذه الشريحة، فتمكنت إصلاحات حزب العدالة والتنمية في السياسة والاقتصاد من تحقيق الارتقاء الطبقي اللازم لهذه الفئات، وحل القضايا الهوياتية المرتبطة بموقع الدين ورموزه وعلى رأسها الحجاب في الحياة العامة.
أفرزت التغيرات السابقة واقعًا جديدًا على المستوى السياسي والاقتصادي والاجتماعي، استفاد منه الحزب في تشكيل كتلة تصويتية مكنته من الاحتفاظ بالسلطة طيلة العقدين الماضيين، لكنها في ذات الوقت وضعت بذور تحديات جديدة ستواجه الحزب لاحقًا، وتحديدًا لدى الأجيال الجديدة التي لم تعش أو تواجه هذه الإشكاليات.
الديمقراطية المحافظة
دخل مؤسسو حزب العدالة والتنمية السياسة محملين بثقل وعبء نشاطهم السابق في حركة “الملي جروش”، وفي وقت طرح فيه سؤال الإسلام والديمقراطية بصورة قوية، أدرك قادة العدالة والتنمية أن تحقيق البقاء بداية وحكم النظام السياسي التركي لاحقًا لا يمكن أن يمر دون تقديم إجابات قادرة على الحفاظ على كتلتهم الصلبة من مصوتي الحركة الإسلامية بداية، ومراعاة اعتبارات قوى الوصاية المدنية والعسكرية، في ظل ظرف دولي تحولت فيه الحركات الإسلامية إلى العدو الأول لأقوى دول العالم، فتمكن قادة العدالة والتنمية بذكاء من تقديم طرح راعى جميع الاعتبارات السابقة، بل وساهم في توفير أرضية اجتمعت عليها عدد من التيارات الفكرية والسياسية التركية.
قام طرح “الديمقراطية المحافظة” على إعادة تعريف عدد من المفاهيم كالعلمانية التي رأى فيها وقوف الدولة موقفًا محايدًا من القضايا الدينية دون أن تتدخل في معتقدات الناس وأنماط حياتهم الخاصة، ورأى في المحافظة تمكين المواطنين الأتراك من أداء معتقداتهم الدينية والخاصة دون أن تكون محط تدخل من الدولة ومؤسساتها، وكثف تصريح أردوغان في ذلك الوقت هذه المعادلة قائلًا إنه شخص مسلم لكنه رئيس وزراء دولة علمانية.
نجح حزب العدالة والتنمية في جمع جمهور من المثقفين والمنظرين الأتراك من مختلف التيارات الفكرية وعلى رأسهم التيار الليبرالي خلف طروحاته وأفكاره التي استخدمها في مواجهة أطروحات الوصاية من البيروقراطية المدنية والعسكرية، ليتجاوز طرح الديمقراطية المحافظة خانة الأفكار المجردة إلى تيار سياسي جمع تحت ظلاله بقايا يمين الوسط وأجزاء من التيار الليبرالي والقومي والأهم الناخبين الأكراد الذين رأوا فيه طرحًا يمكن له تحقيق أكبر قدر ممكن من التعايش المبني على الهوية الإسلامية للأكراد وما توفره الديمقراطية من حقوق مواطنة.
بعد صدام حزب العدالة والتنمية مع جماعة فتح الله غولان وتحالفه مع حزب الحركة القومية لاحقًا، أخذ خطاب الحزب منحًا آخر، تقلصت فيه المكونات الليبرالية المتصالحة مع الغرب وخطابه، وازدادت جرعة الخطاب المحافظ، قيميًا وسياسيًا، خاصة مع افتراق المجموعات الليبرالية عن الحزب كالشخصيات الليبرالية من الفنانين والكتاب التي دعمت استفتاء 2010 وعرفت باسم “نعم، ولكنه بحاجة إلى المزيد”.
ظهرت التغيرات السابقة بشكل واضح في القضية الكردية وتعامل حزب العدالة والتنمية مع القضايا الاجتماعية، فبعد تفجر الأزمة الكردية مع انهيار عملية السلام مع حزب العمال الكردستاني عام 2015 وتصاعد المواجهات العسكرية في مدن الجنوب الشرقي والشرق، تراجع حزب العدالة والتنمية عن خطابه المنفتح تجاه المسألة الكردية لصالح خطاب أكثر شدة وأقرب لحزب الحركة القومية، فلم تعد كلمة “كردستان” مقبولة في الخطاب السياسي، بل إن الدعاية الانتخابية للحزب في الانتخابات المحلية ارتكزت على كونها “قضية وجود للدولة”.
على المستوى الاجتماعي والثقافي، ذهب الحزب إلى مجموعة من الخطوات كان من الصعب عليه أن يتخذها في المراحل التي سبقت عام 2016، كإعادة أيا صوفيا إلى هيئته الأولى كمسجد، والانسحاب من اتفاقية إسطنبول، بالإضافة إلى تصاعد خطاب وسلوك الدولة تجاه قضايا كالمثلية، وازدادت هذه الإجراءات مع ظهور أحزاب محافظة أخرى انشقت عن حزب العدالة والتنمية، رغبة منه في تحصين الشرائح المحافظة ومنع تمدد هذه الأحزاب إليه.
ندرك بمجرد الاستماع إلى تنظيرات وخطاب قادة حزب العدالة والتنمية قبل عام 2011 واليوم، المدى الذي تحول فيه الخطاب السياسي لحزب العدالة والتنمية، لا يؤشر ذلك بالضرورة إلى تغير سلبي، بل يرجع في قسم كبير منه إلى تغير وتبدل الحياة السياسية، فمقولات الديمقراطية المحافظة أدت دورها في مواجهة أطروحات الوصاية، ومكنت مجتمع المحافظين من أخذ موقعه الطبيعي في بنية المجتمع التركي، ووفرت الأرضية لسياسات منفتحة على المسألة الكردية.
مع تفجر الأوضاع في سوريا 2011، وعودة التهديد الكردي مجددًا 2015، ومحاولتي الانقلاب القضائي 2013 والعسكري 2016 بدأ حزب العدالة والتنمية بالتنظير إلى تحديات جديدة تواجهها تركيا تركزت على الحفاظ على سيادة القرار السياسي وحمايته من التدخلات الخارجية وصيانة الأمن القومي التركي، فأصبحت الصناعات العسكرية والطائرات دون طيار النموذج الأهم لإصلاحات الحزب بدلًا من التعديلات الدستورية والإصلاحات الاقتصادية.
من القيادة الجماعية إلى قيادة الرئيس
شارك في تأسيس حزب العدالة والتنمية ما يقرب من 124 عضوًا، على رأسهم رجب طيب أردوغان وإلى جواره عبد الله غول وبولنت أرينتش وعبد اللطيف شنار وعلي باباجان ولاحقًا أحمد داوود أوغلو، وعمل الحزب في مراحله الأولى تحت إطار الجماعي، محاولًا تجاوز آفة الأحزاب التركية الأخرى المرهونة لقرار الفرد الواحد، والمرتبط وجودها ونشاطها بشخص مؤسسها وزعيمها، كما هو الحال مع أحزاب يمين الوسط كحزب الوطن الأم الذي أسسه تورغوت أوزال وتراجع بعد وفاته إلى أن اندثر بعد انتخابات 2002، نفس المصير لاقاه حزب الطريق القويم بعد تراجع وانسحاب زعيمه سليمان ديميريل من العمل السياسي.
اعتمد حزب العدالة والتنمية على مؤسسات تنظيمية وفعالية حزبية قوية مكنته من تحقيق انتشار واسع وقاعدة حزبية هي الأعرض بين الأحزاب التركية، قادت رموز الحزب ملفات السياسة في تركيا بانسجام تام، فرئاسة الوزراء تولاها أردوغان، وتولى عبد الله غول الخارجية ولاحقًا أحمد داوود أوغلو، فيما أدار علي باباجان الملف الاقتصادي وترأس بولنت أرينتش البرلمان.
بدأت هذه التركيبة بالتفكك لاحقًا، بعد الصراع الخفي بين أردوغان وعبد الله غول، الذي انتهى بتصفية الأعضاء المحسوبين على غول وابتعاده عن المشهد السياسي بعد انتهاء ولايته في رئاسة الجمهورية عام 2014.
استقال أردوغان من رئاسة الحزب وانتقل إلى رئاسة الجمهورية وتولى أحمد داوود أوغلو رئاسة الوزراء ورئاسة الحزب، لم يمكث أكثر من سنة ونصف ليستقل هو الآخر من رئاسة الوزراء والحزب بعد خلافات مع أردوغان، وبانتقال تركيا إلى النظام الرئاسي 2017، فرض الرئيس أردوغان هيمنته على الحزب والسلطة بعد أن سمحت التعديلات بالجمع بين رئاسة الحزب والدولة، ليذوب الحزب في شخصية الرئيس.
تنوعت مصائر رفاق رحلة تأسيس حزب العدالة والتنمية، فما زال عبد الله غول بعيدًا عن العمل السياسي النشط، فيما تولى بولنت أرينتش منصبًا في المجلس الاستشاري الأعلى لرئيس الجمهورية واستقال منه لاحقًا، وأسس أحمد داوود أوغلو حزب المستقبل في شهر ديسمبر/كانون الأول 2019، وتلاه علي باباجان بتأسيس حزب الديمقراطية والتقدم “الدواء” في مارس/آذار 2020.
في الختام.. 2023 من الرؤية إلى المصير
بعد 21 عامًا يترقب حزب العدالة والتنمية لأول مرة في تاريخه انتخابات قد تزيحه لأول مرة عن السلطة التنفيذية في البلاد منذ أن فاز في انتخابات نوفمبر/تشرين الثاني 2002. خلال هذه الفترة خاض الحزب 14 استحقاقًا انتخابيًا منها 6 انتخابات عامة وانتخابات رئاسية واحدة و4 انتخابات محلية و3 استفتاءات عامة، نجح الحزب بالفوز في جميعها.
أراد حزب العدالة والتنمية من ربط رؤيته لتركيا بالذكرى المئوية الأولى للجمهورية التركية، تأسيس واقع جديد يعيد فيه تشكيل أسس السياسة والاقتصاد والاجتماع في الجمهورية التركية، وبدلًا من ذلك تحول العام 2023 إلى استحقاق انتخابي مصيري.
احتل الاقتصاد موقعًا أساسيًا من رؤية 2023، لكنه اليوم يعد أحد أهم الأسباب التي قد تؤدي إلى تراجع الحزب ورئيسه في الانتخابات المقبلة، إلى جانب أجيال جديدة من الأتراك لم يعد يعنيها ما تصدر حزب العدالة لمعالجته من إشكاليات، فلم يعد وجود الحجاب في الحياة العامة إشكاليًا، كما لم تعد الفئات المهاجرة المحافظة إلى المدن مهمشة، في المقابل يقف الحزب اليوم أمام تبعات الأزمة الاقتصادية من إشكاليات اجتماعية جديدة على رأسها قضية اللاجئين.
ما زال حزب العدالة والتنمية الحزب الأكبر في تركيا، فأقل نسبة يحصلها الحزب في استطلاعات الرأي لا تقل في أسوأها عن 30% من أصوات الناخبين، وما زال الرئيس أردوغان المرشح الأبرز والأهم في الانتخابات الرئاسية المقبلة، لكن الأكيد أن قدرة الحزب على بناء كتلة من مختلف التوجهات الأيديولوجية والسياسية كما كان سابقًا قد تراجعت لصالح تحالف مع جزء من الكتلة القومية ممثلة بحزب الحركة القومية.
ترك تحالفه السابق أثرًا على خطاب الحزب وسلوكه، وتحديدًا في الملف الإصلاحات السياسية والانفتاح على الأصوات الكردية التي عاقبت الحزب في الانتخابات المحلية عام 2019 عندما صوت جزء منها إلى أكرم إمام أوغلو وامتنع الجزء الآخر عن التصويت.