مع بداية العام الدراسي، اضطر الأربعيني سيف ناصر – أب لخمسة أطفال – إلى التقشف وخفض الإنفاق الأسري، بغية تأمين شراء المستلزمات المدرسية وتوفير تكاليف التعليم لأطفاله على غرار الاف المواطنين الذين يكافحون لاستمرار تعليم أطفالهم في اليمن.
يعمل ناصر بالأجر اليومي في العاصمة صنعاء، ويعيش ظروفًا معيشيةً قاسيةً، لكنه ما زال يكافح لاستمرار تعليم اثنين من أطفاله رغم العبء المالي وتدهورالعملية التعليمية في المدارس الحكومية بمختلف المحافظات اليمنية الواقعة تحت سيطرة جماعة الحوثي المدعومة من إيران ومناطق سيطرة الحكومة المدعومة من السعودية والإمارات.
تسببت الحرب في اليمن بتدمير البنية التحتية والاقتصاد الوطني ولم تكن العملية التعليمية بعيدة عن تأثيرات الحرب التي تعصف بالبلاد منذ سبع سنوات، فقد تراجعت ووصلت إلى أدنى مستوى لها في تاريخ اليمن، خصوصًا مع استمرار انقطاع الرواتب الحكومية منذ عام 2016.
ووفقاً لمؤشر دافوس الخاص بترتيب الدول العربية في جودة التعليم بها لعام 2021 كان اليمن خارج التصنيف نتيجة تدهور العملية التعليمية خلال سنوات الحرب، وبحسب الصليب الأحمر فإن 3 ملايين طفل غير قادرين على الذهاب إلى المدرسة، بينهم 1.8 مليون بحاجة إلى مساعدة تعليمية عاجلة.
يقول الصحافي المتخصص في الشؤون الاقتصادية وفيق صالح لنون بوست: “الحرب المستعرة في البلاد للعام الثامن على التوالي، خلفت أضرارًا فادحةً على مختلف مجالات الحياة في اليمن، ومنها العملية التعليمية التي تضررت بشكل بالغ، من ناحية تراجع مستوى التعليم وتسرب التلاميذ من المدارس وغياب الاهتمام والرعاية الرسمية بالمدارس الحكومية”.
عام مُثقل بالهموم
بعد ثماني سنوات من الحرب والدمار الذي أودى بحياة أكثر من 370 ألف شخص، ما زال آلاف الآباء في اليمن يكافحون في سبيل استمرار تعليم أطفالهم، وسط ظروف معيشية متدنية ضاعفت حدتها ارتفاع أسعار المستلزمات المدرسية ورسوم التعليم في المدارس الأهلية في بلد صُنف ضمن أسوأ أماكن العيش في العالم ويشهد أسوأ أزمة إنسانية في العالم، حيث تشير أحدث التقديرات إلى أن نحو 50 ألف شخص يعيشون حاليًّا في ظروف تشبه المجاعة، إذ يشتد الجوع في المناطق المتضررة من الصراع، ويحتاج ما يقرب من 21 مليون شخص، أي أكثر من 66% من إجمالي عدد السكان، إلى مساعدات إنسانية وحماية.
شهدت الأوضاع الاقتصادية تدهورًا غير مسبوق في مناطق سيطرة الحكومة خلال السنوات الماضية بفعل انهيار الريال اليمني الذي وصل إلى أدنى مستوى له
يقول ناصر إن تكاليف تعليم طفليه الاثنين اللذين يواصلان تعليمهما في إحدى المدارس الحكومية، أثقلت كاهلة، فيشكو من ارتفاع رسوم التسجيل الدراسية لهذا العام والرسوم المجتمعية التي فرضتها وزارة التربية والتعليم في حكومة الحوثي غير المعترف بها على الطلاب في مناطق سيطرتها.
وخلال العامين الماضيين تمكنت بعض المدارس الحكومية في صنعاء وذمار وإب، من تقديم الخدمات التعليمية للطلاب والطالبات بجهود ذاتية من خلال دعم الأهالي والسكان التي تتم من خلال دفع الطلاب والطالبات لمبلغ مالي شهريًا إلى إدارة المدرسة وكل مدرسة تعتني بنفسها حيث تصرف كل تلك المبالغ في الرواتب الشهرية للموظفين والعاملين بها.
يدفع ناصر للمدرسة التي يتعلم بها طفلاه نحو 24 ألف ريال في السنة الدراسية كاملة، أي ما يعادل نحو 45 دولارًا أمريكيًا عوضًا عن المستلزمات الأخرى مثل الزي المدرسي وشراء المناهج وغيرها من الخدمات التي يحتاجون إليها خلال تعليمهم.
بالنسبة لناصر فإن هذا المبلغ يمثل عبئًا ماليًا كبيرًا عليه بالنظر إلى حقيقة دخله المتدني، فهو اضطر إلى تخفيض تكاليف الإنفاق ليتمكن من تعليم أطفاله، لكنه – بحسب قوله لنون بوست – يخشى ضياع مستقبلهم نتيجة تدهور التعليم بفعل استمرار الحرب.
تكاليف باهظة
تمامًا مثل ناصر يشكو منير الدبعي – 50 عامًا وأب لثمانية أطفال – من عدم قدرته على تحمل تكاليف تعليم أطفاله بسبب ظروفه المعيشية القاسية التي يمر بها على غرار ملايين اليمنيين، يعمل الدبعي سائق حافلة في مدينة تعز جنوب غرب اليمن ويكافح من أجل تأمين الغذاء لأفراد عائلته، في حين أنه يكافح أيضًا لتعليم ثلاثة من أطفاله الذين يواصلون تعليمهم في إحدى المدراس الحكومية بالمدينة المحاصرة منذ سبع سنوات.
يقول الدبعي لنون بوست إنه أنفق في شراء المستلزمات الدراسية لأطفاله أكثر من 100 ألف ريال، أي ما يعادل نحو 100 دولار أمريكي، بسعر صرف الدولار في مناطق سيطرة الحكومة المعترف بها دوليًا.
وشهدت الأوضاع الاقتصادية تدهورًا غير مسبوق في مناطق سيطرة الحكومة خلال السنوات الماضية بفعل انهيار الريال اليمني الذي وصل إلى أدنى مستوى له، إذ تخطى حاجز الألف للدولار الواحد، وانعكس سلبًا على حياة المواطنين وفاقم من معاناتهم اليومية وسط غياب تام لدور سلطات الحكومة بتلك المناطق”.
من وجهة نظر الصحافي صالح فإن في مثل هذه الأوضاع التي تحيط بالتعليم في اليمن، لا سيما في المناطق الواقعة تحت سيطرة الحوثيين، نجد أنه من الطبيعي، أن يتسرب التلاميذ من المدارس وتتراجع جودة ومستوى التعليم إلى مستويات متدنية.
وأوضح صالح لنون بوست أن “تدهور الأوضاع المعيشية وتوقف الرواتب والخدمات الأساسية وتراجع القدرة الشرائية للمواطنين، أصبحت مسألة إلحاق أولياء الأمور أولادهم بالمدارس، همًا يؤرقهم ويقض مضاجعهم، نتيجة عدم قدرتهم على توفير الاحتياجات اللازمة من الزي المدرسي والكتب والرسوم المالية وغيرها من الخدمات التعليمية”.
تأثير أزمة الرواتب
يعيش أكثر من نصف مليون موظف حكومي في العاصمة اليمنية صنعاء ومناطق سيطرة الحوثيين، دون رواتب منذ سبتمبر/أيلول 2016، بعد إعلان الحكومة المعترف بها دوليًا نقل البنك المركزي من صنعاء إلى مدينة عدن جنوب اليمن.
وكان لقرار نقل البنك المركزي إلى عدن تبعات كارثية على حياة الموظفين الحكوميين الذين توقفت رواتبهم (مصدر دخلهم الوحيد الذي يعتمدون عليه في تأمين احتياجاتهم الأساسية)، وذلك بدوره انعكس سلبًا على سير التعليم، إذ توقفت غالبية المدارس الحكومية عن تقديم الخدمات التعليمية للطلاب في مناطق سيطرة الحوثيين شمال اليمن.
توحش المدراس الأهلية في مضاعفة رسوم التعليم خلال السنوات الماضية، مستغلين إقبال أولياء أمور الطلاب الميسورين على تعليم أطفالهم فيها نتيجة تردي التعليم في المدارس الحكومية
وخلال السنوات الماضية تفاقمت معاناة المعلمين نتيجة استمرار انقطاع رواتبهم، إذ هاجر العديد منهم إلى مناطق سيطرة الحكومة المعترف بها دوليًا في مأرب وشبوة ومناطق أخرى، وبعضهم خرج إلى أسواق العمل بحثًا عن العمل لتوفير لقمة العيش لأفراد عائلته.
اضطر إبراهيم محمد (45 عامًا) موظف حكومي في التربية والتعليم بصنعاء إلى الخروج لأسواق العمل بحثًا عن العمل لتوفير لقمة العيش لأفراد عائلته بعد انقطاع راتبه الحكومي على غرار مئات آلاف الموظفين الحكوميين المنقطعة رواتبهم في مناطق سيطرة الحوثيين منذ سبتمبر/أيلول 2016 وحتى اللحظة.
محمد واحد من بين المعلمين الذين كانوا يسابقون شروق الشمس في الذهاب إلى المدرسة لأداء واجبه في تعليم الأطفال أيام صرف الرواتب الحكومية، قبل اندلاع الحرب في اليمن.
يقول محمد لنون بوست: “لم يعد بإمكاننا الذهاب إلى المدراس، كيف لنا أن نذهب ونحن نشاهد أطفالنا وهم لا يجدون قوت يومهم، بدلًا من الذهاب إلى المدرسة بلا مقابل أذهب إلى أسواق العمل لتأمين الغذاء لأطفالي”.
يوافقه في الرأي الصحافي صالح قائلًا: “اضطر العديد من المعلمين إلى البحث عن فرص عمل أخرى، تمكنهم من توفير لقمة العيش لأسرهم والبقاء على قيد الحياة، في ظل توقف رواتبهم للعام السادس على التوالي”، وبحسب صالح “توقف رواتب المعلمين انعكس بشكل مباشر على تراجع مستوى العملية التعليمية في المناطق الواقعة تحت سيطرة جماعة الحوثي المدعومة من إيران”.
بدائل مُكلفة
بات التعليم الأهلي مرهقًا اقتصاديًا للكثير من المواطنين، فبعض المدراس رفعت رسوم التسجيل للعام الدراسي إلى نحو 170 ألف ريال يمني، أي ما يعادل نحو 300 دولار أمريكي بسعر صرف الدولار في صنعاء.
لا خيار أمام ناصر والدبعي إلا تعليم أطفالهما في المدارس الحكومية فهي بحسب ناصر “ملاذهم الوحيد رغم تدني مستوى التعليم فيها”، مؤكدًا أن ظروفهم المعيشية القاسية لا تسمح لهم بتعليم أطفالهم في المدارس الخاصة.
يشير ناصر إلى توحش المدراس الأهلية في مضاعفة رسوم التعليم خلال السنوات الماضية، مستغلين إقبال أولياء أمور الطلاب الميسورين على تعليم أطفالهم فيها نتيجة تردي التعليم في المدارس الحكومية”.
ويختتم ناصر حديثه قائلًا: “حتى المدارس الأهلية لم يعد التعليم فيها كما كان سابقًا، فهي تفتقر إلى الكوادر التعليمية المتخصصة، وتبحث عن كوادر دون تأهيل، لتدفع لهم رواتب زهيدة مع بقاء الحرب فنحن أمام أجيال بلا تعليم”.