يعد العراق من البلدان المتأخرة جدًا في النظام المالي العالمي وتحديدًا النظام المصرفي، فخدمات الدفع والتحويل الإلكتروني وكل الآليات التي تتعلق ببطاقات الائتمان والصرافات الآلية دخلت البلاد في عهد حكومة نوري المالكي الثانية عندما أصدر مكتب رئيس الوزراء في حينها نظام خدمات الدفع الإلكتروني للأموال في شهر أبريل/نيسان 2004، فجاء في 31 مادة قانونية تنظم آلية العمل وشروطه.
ما أهداف النظام؟
سعت الحكومة العراقية من خلال إصدار نظام دفع الأموال الإلكتروني إلى الحد من التعامل النقدي بفئات الأوراق المالية مع تخفيف الضغط على المصارف الحكومية والخاصة في استلام وإيداع الأموال ونقلها، فضلًا عن أن النظام وبعد الثورة المعلوماتية بات ضرورة من أجل التعامل مع الأسواق العالمية والشراء عبر المنصات الإلكترونية، إضافة إلى ضرورة الحد من السرقات التي دائمًا ما تكون مصاحبة لنقل فئات الأموال النقدية.
يقول الخبير المالي محمد الحمداني في حديثه لـ”نون بوست” إن الواقع الحاليّ في العراق أفرغ نظام دفع الأموال الإلكتروني من محتواه لأسباب عديدة، فالهدف الحكومي كان الحد من التعامل بالنقود الورقية، غير أن الوقع يشير إلى أن جميع العراقيين الموظفين والمتقاعدين والمسجلين لدى الرعاية الاجتماعية يعمدون إلى سحب أموالهم من البطاقات الإلكترونية بعد ساعات فقط على دخولها النظام الإلكتروني، ثم تستخدم الأموال في البيع والشراء بالنقد ولنسبة تزيد على 99% من التعاملات داخل الأراضي العراقية.
ويتابع الحمداني أن المشكلة الأخرى تتمثل في أن الدولة نجحت في تخفيف الضغط على المصارف الحكومية والخاصة من خلال القضاء على طوابير الموظفين والمتقاعدين أمام المصارف، إلا أن هؤلاء يتحملون مشكلة أكبر وتتمثل بالرسوم المالية التي تقتطعها الشركات في كل عملية سحب للأموال وفي كل عملية تجديد للبطاقة الإلكترونية سواء كانت من نوع “كي كارد” أم “ماستر كادر” أم “سويتج” ضمن آلية لا يعرف المواطن العراقي قانونيتها، ما أدى إلى جملة من الفساد المالي والإداري.
حجم الأموال المتداولة
بحسب الموقع الرسمي للبنك المركزي العراقي، فإن عدد شركات الدفع الإلكتروني في العراق هو 16 شركة تأسست منذ عام 2014 وحتى الآن، وتتولى تقديم الخدمات المالية لقرابة 6.5 مليون عراقي بين موظفين ومتقاعدين وذوي الرعاية الاجتماعية.
جميع الحكومات المتعاقبة منذ عام 2003 لم تعمل جديًا لانتشال النظام المصرفي من واقعه بما أدى إلى عمليات غسيل أموال لا حصر لها وفقدان الدولة العراقية مئات مليارات الدولارات دون معرفة الدولة أو الجهة التي ذهبت إليها تلك الأموال
أما عن حجم الأموال التي تتكفل هذه الشركات بإنفاقها فيبلغ قرابة 40 مليار دولار سنويًا، وهو ما يشكل قرابة 50% من ميزانية العراق السنوية التي تذهب إلى رواتب للموظفين والمتقاعدين.
من جهته يرى الخبير الاقتصادي أنمار العبيدي في حديثه لـ”نون بوست” أن المشكلة في العراق تكمن في بدائية النظام المصرفي في البلاد وعدم تحديثه، إذ لا يزال قرابة 95% من العراقيين لا يمتلكون حسابات مصرفية خاصة بهم، وهو ما يعد أزمة في إدارة الأموال في البلاد بما يشكل عائقًا كبيرًا أمام التصدي لعمليات غسيل الأموال وتمويل الإرهاب.
ويتابع العبيدي أن جميع الحكومات المتعاقبة منذ عام 2003 لم تعمل جديًا لانتشال النظام المصرفي من واقعه، ما تسبب في انتشار عمليات غسيل أموال لا حصر لها وفقدان الدولة العراقية مئات مليارات الدولارات دون معرفة الدولة أو الجهة التي ذهبت إليها تلك الأموال، لافتًا إلى أن العراق وفي حال تحديثه للنظام المصرفي وفق ما معمول به عالميًا، فلا حاجة لشركات الدفع الإلكتروني، ما يعني أن كل موظف سيكون لديه حساب مصرفي ويستطيع من خلاله استلام مرتبه سواء من القطاع العام أم الخاص وهو ما معمول به في غالبية دول العالم ومنها الدول العربية مثل الأردن ودول الخليج وغيرها.
مخاطر جمة
لا تقف مشكلات شركات الدفع الإلكتروني عند حد معين، إذ وبحسب الخبير في مجال تقنية وأمن المعلومات محمد فاضل فإن العراق يعد ساحة معلوماتية مفتوحة المصدر لجميع سكان العالم، فالعراق يعد واحدًا من أكثر البلدان التي تفتقر للأمن الإلكتروني، وبذلك تكون جميع بيانات العراقيين الموثقة لدى المصارف والشركات والوزارات الحكومية عرضة للسرقة وهو ما حصل فعليًا خلال العامين الأخيرين من خلال برامج الفدية.
وعن المخاطر الأمنية التي تكتنف عمل شركات الدفع الإلكتروني، يكشف فاضل في حديثه لـ”نون بوست” عن أن هذه الشركات لديها جميع المعلومات الأساسية عن الموظفين والمتقاعدين المتعاملين معها بما يشمل الهويات الشخصية والتواقيع والصور والجهة التي يعملون لديها، وفي ظل افتقار هذه الشركات لنظام أمن المعلومات، فإن بيانات العملاء عرضة للسرقة في أي وقت.
ويستدل فاضل على الخرق الأمني المعلوماتي للعراق بما حصل عام 2017 عندما سرقت بيانات ملايين العراقيين نتيجة اختراق شركة آسيا سيل للاتصالات، فضلًا عن السرقات الرقمية لبيانات حساسة عن منتسبي وزارة الداخلية والأجهزة الأمنية الأخرى، متسائلًا عن قدرات شركات الدفع الإلكتروني على حماية بيانات عملائها في وقت لم تفلح فيه شركات عملاقة مثل آسيا سيل ووزارة أمنية كالداخلية في حماية أمنها الرقمي.
شبهات الفساد.. قصة بوابة عشتار
كثيرة هي علامات الاستفهام والاتهامات التي يوجهها كثير من المحللين الماليين لعمل شركات الصرافة والمصارف الأهلية وشركات الدفع الإلكتروني، إلا أن ما انتشر في وسائل الإعلام مؤخرًا عن شركة بوابة عشتار للدفع المالي الإلكتروني واستحصالها قرارًا قضائيًا بتغريم مصرف الرافدين مبلغ 600 مليون دولار أثار حفيظة الرأي العام ليتم الكشف بعدها عن أرقام صادمة وسط صمت حكومي وضبابية في موقف الادعاء العام العراقي.
في 6 أغسطس/آب الحاليّ حكم القضاء العراقي لصالح شركة بوابة عشتار بإلزام مصرف الرافدين الحكومي بدفع مبلغ 600 مليون دولار لصالح الشركة كشرط جزائي نتيجة عدم التزام المصرف الحكومي بالعقد المبرم بينهما.
وكانت شركة بوابة عشتار قد أصدرت في 7 من أغسطس/آب بيانًا صحفيًا أشارت فيه إلى أن الشركة عراقية تأسست في 28 يوليو/تموز 2019 ومرخصة من البنك المركزي بالرخصة (14) لسنة 2020، كما أن الشركة مرخصة من شركة فيزا الأمريكية وشركة يونين باي الصينية.
وأوضحت الشركة في بيانها أنها وقعت عقد الدفع الإلكتروني مع مصرف الرافدين في 4 مارس/آذار 2021، وكان من ضمن شروط العقد تزويد مصرف الرافدين بـ10 آلاف صراف آلي مجاني إضافة إلى خدمات أخرى حديثة لم يكن يمتلكها المصرف سابقًا مع تغيير البنية التحتية الخاصة بالدفع الإلكتروني لعدم وجود قاعدة بيانات صحيحة يمتلكها الرافدين.
وفيما يتعلق بالشرط الجزائي في العقد المبرم بين الطرفين، أشار البيان إلى أن شرط الغرامة الموجود في العقد، هو شرط رضائي لا يتحقق إلا بإخلال أحد الأطراف بتنفيذ بنود العقد، إلا أن عدم تنفيذ مصرف الرافدين للعقد الموقع مع الشركة أدى بالأخيرة إلى توجيه إنذار نهائي للمصرف بتاريخ 4 مايو/أيار 2021 وإبلاغ المصرف بنية الشركة التوجه للقضاء، بحسب نص البيان.
هذا وأثار الحكم القضائي موجة سخط شعبي وقانوني، فقد كشف الخبير القانوني العراقي أمير الدعمي في حديث حصري لـ”نون بوست” أن هناك صفقة فساد كبيرة في العقد المبرم بين الطرفين، حيث أن الشرط الجزائي للشركة ضد المصرف يبلغ 600 مليون دولار في حين أن رأس مال مصرف الرافدين يناهز 137 مليون دولار فقط، بمعنى أن الشرط الجزائي يفوق رأس مال المصرف بقرابة 4 أضعاف.
وتابع الدعمي أن وزارة المالية لم تكن طرفًا في العقد، حيث إنها وبعد اكتشافها للعقد أبعدت مدير مصرف الرافدين من منصبه وشكلت لجنة تحقيق بذلك، لكن ما أسماه بـ”إرادة الفاسدين” كانت وراء عقد مثل هذه الصفقة، وأنه لولا الضغط الشعبي لما تنازلت الشركة عن حقها، لا سيما أن الضغط الشعبي أدى إلى تنازل المدعي (شركة بوابة عشتار) عن الدعوى صوريًا، وبمزيد من الضغط الإعلامي وافقت الشركة على التنازل عن الشرط الجزائي أمام المحكمة، ما يؤكد أن هناك صفقة فساد كبيرة كانت ستمر دون الالتفات إليها.
وفي محاولة التواصل مع شركة بوابة عشتار، لم نستطع الوصول إلى بريد إلكتروني محدد أو رقم هاتف للحديث مع المسؤولين في الشركة، أما مصرف الرافدين وعند التواصل مع إدارته اكتفى بالإشارة إلى بيانه الصحفي الذي أوضح حيثيات القضية.
ذكر بيان مصرف الرافدين أن العقد الذي تم إبرامه مع شركة بوابة عشتار كان في مارس/آذار 2021 من المدير العام الأسبق للمصرف قبل الحصول على موافقة الوزارة وفق الأصول على صيغة العقد، حيث خالف العقد العديد من الشروط الفنية السابقة التي كانت وزارة المالية قد حددتها لمقدمي العطاءات.
وأشار مصرف الرافدين إلى أنه “بعد عرض العقد على الوزارة والاطلاع على الجوانب التجارية له التي تمنح مقدم العطاء مزايا وأرباحًا غير مبررة على حساب زبائن المصرف، وحين إبلاغ الوزارة بإبرام العقد، وجه الوزير بإعادة تدقيق العقد لمصلحة الوزارة – في ذات الشهر الذي تم توقيع العقد فيه – أو إلغائه إذا تطلب الأمر، حيث لا ينبغي توقيع العقد إلا بموافقة الدائرة القانونية ودائرة تكنولوجيا المعلومات في الوزارة ووفق التعليمات السابقة”.
وأضاف بيان الرافدين إلى أنه تمت إحالة الموضوع للتحقيق مع سحب يد المدير العام الأسبق للمصرف مع إحالة الملف إلى هيئة النزاهة لاتخاذ الإجراءات القانونية بحق المقصر، وأن الشركة لجأت إلى القضاء لطلب فسخ العقد والتعويض بعد إجراءات الوزارة الحاسمة، وأصدرت المحكمة المختصة قرارها بفسخ العقد مع إلزام المصرف بمبلغ التعويض قبل أن تتنازل الشركة أمام المحكمة عن الشرط الجزائي.
وبالعودة إلى الخبير القانوني أمير الدعمي وعن التبعات القانونية لتنازل شركة بوابة عشتار عن الشرط الجزائي، أوضح أن التنازل لا يلغي فرضية وجود صفقة فساد، حيث يمكن للادعاء العام العراقي فتح تحقيق مستقل للحصول على الحق العام، لا سيما أن القضية فيها ملابسات عديدة أهمها قيمة الشرط الجزائي الذي يفوق رأس مال المصرف بـ4 أضعاف، لافتًا إلى أنه وفي حال فتح الادعاء العام لهذه القضية، فإن خيوط التحقيق ستقود إلى كثير ممن أسماهم “رؤوس الفساد” في العراق، معتقدًا أنه من الصعوبة بمكان أن يتم التحقيق، خاصة أن الكثير من صفقات الفساد السابقة تمت تسويتها دون وجود دور للادعاء العام في البلاد.
واختتم الدعمي حديثه لـ”نون بوست” قائلًا إن الملف المصرفي في العراق يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالفساد من خلال نافذة بيع العملة يوميًا واستحواذ عشرات المصارف الأهلية على مليارات الدولارات شهريًا، وأن لا حل لهذه المعضلة إلا بإعادة هيكلة النظام المصرفي وتحديثه جذريًا.
من هو مؤسس بوابة عشتار؟
تشير تقارير صحفية أن مؤسس شركة بوابة عشتار هو علي غلام، المولود في بغداد عام 1982 والذي يعد واحدًا من أغنى الشخصيات في العراق، إذ يمتلك 3 مصارف أهلية، وهو ما أشار إليه زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر في بيانه بتاريخ 17 فبراير/شباط 2022 الخاص بتهريب العملة.
يترقب العراقيون ما ستؤول إليه تحقيقات هيئة النزاهة بشأن شركة بوابة عشتار وتعاقدها مع مصرف الرافدين وسط تشكيك من العراقيين في أن تصل التحقيقات لإجراءات فعلية رادعة
حث زعيم التيار الصدري في بيانه مجلس النواب إلى إعادة النظر في وضع بعض البنوك الأهلية مثل مصرف الشرق الأوسط والقابض والأنصاري العائدة لبعض الأشخاص المتحكمين بالعملة، في إشارة إلى مالكها علي غلام.
لا تنتهي القصة عند هذا الحد، ففي 7 يناير/كانون الثاني 2021، كشف عضو لجنة النزاهة في البرلمان العراقي كاظم الصيادي خلال مقابلة تليفزيونية، أن علي غلام يحصل من خلال مصارفه التي يمتلكها على نحو 90 مليون دولار يوميًا، عبر مزاد بيع العملة في البنك المركزي، موضحًا أن 80% منها تذهب إلى خارج البلاد تخرج على شكل مواد تجارية، معلقًا “لو فرضنا أن هذه المواد تعود إلى العراق لدخلت عبر الموانئ كون أغلب التجارة تأتي عن طريق الإمارات، لكنه لا يفعل ذلك وإنما يدخلها بحوالات ووصولات مزورة عن طريق منفذ شمارة غير الرسمي في مدينة السليمانية بإقليم كردستان”.
وتابع الصيادي، أن غلام يتحايل على القانون بإدخال مواده من منفذ غير رسمي، فلو كانت المواد التي يستوردها بهذه الأموال التي يخرجها تعود عبر منافذ رسمية لكان العراق قد جنى منها ملياري دولار سنويًا كعوائد جمركية وضريبية من الأموال التي تخصه.
جدير بالذكر، أنه وفي مايو/أيار 2017، أصدرت محكمة تحقيق الرصافة الثانية مذكرة إلقاء قبض بحق علي غلام بصفته رئيس بنك الشرق الأوسط، وذلك بتهمة التهديد وفق المادة 431 من قانون العقوبات العراقي.
ولا تقف مشكلة شركة بوابة عشتار عند ذلك، إذ وبحسب الخبير الاقتصادي أنمار العبيدي فإن هذه الشركة تعد الأعلى ربحية من بين شركات الدفع الإلكتروني، خاصة أن قيمة استصدار بطاقات الدفع الإلكتروني تبلغ 13 ألف دينار عراقي للسنة الواحدة وهو مبلغ كبير جدًا مقارنة ببقية الشركات الأخرى العاملة في البلاد.
وأضاف العبيدي أنه كان من الأولى بمصرف الرافدين أن يدقق العقد قبل توقيعه لا سيما أن آلية توقيع العقود الحكومية تستلزم موافقة القسم القانوني في المصرف ما يؤكد أن القضية فيها فساد واضح ولا يتعلق بمدير المصرف الأسبق فقط الذي سحبت وزارة المالية يده من إدارة المصرف.
يترقب العراقيون ما ستؤول إليه تحقيقات هيئة النزاهة بشأن شركة بوابة عشتار وتعاقدها مع مصرف الرافدين وسط تشكيك من العراقيين في أن تصل التحقيقات لإجراءات فعلية رادعة، في وقت يتربع فيه العراق في ذيل المؤشرات الدولية الخاصة بمكافحة الفساد وغسيل الأموال على مستوى العالم.