تتعاطى أفلام السيرة الذاتية مع الماضي، كوحدة زمانية وظرفٍ مكاني، لأنها تتجمد بين ضلعين زمانيين: ولادة الفنان – الشخص محل السيرة الذاتية – وموته، إنها خلقٌ ماضوي يبدو كفلاش باك طويل وممتد على مدة الفيلم، يسترخي ويتمدد في يد المخرج ليصنع رؤية خاصة ومتفردة، يطوع خلالها حياة الفنان الصاخبة في أشكال سردية ورؤى إبداعية تجعل من المروية البصرية نموذجًا مختلفًا ومنظورًا آخر لاكتشاف الفنان والتعرض لحياته.
وليس ضروريًا أن يوازي المخرج والكاتب حياة الفنان بشكل حرفي أو تقليدي، فهذا النموذج سائد ومتوافر للجميع، وأحيانًا يكون مطلوبًا لتوفير القالب المسلي والترفيهي في تجسيده للشخص، إنما من الممكن أن يدخل المخرج في مناطق وثقوب غائرة، في مساحة ملتبسة وغامضة، تكشف بحذر وتعري بفن، وهو ما ينتظره الجمهور بحق، أن يرى أكثر ما يعرضه النموذج الشكلي والسمعة الرائجة والأجواء الصاخبة، ينتظر أن يتعرف على الفنان، سواء صدّر المخرج المعرفة في سياق غنائي أم درامي أم حتى فنتازي، لكنه في النهاية يقترب أكثر من الشخصية، ويتفهم وجودها بعيدًا عن النموذج المثالي للرمز والأسطورة الفنية التي لا يسعى المخرج لإثباتها من خلال تحقيقه للفيلم، بل يريد تحديد شكل جديد لهذه الأسطورة، شكل أقرب للإنسانية والضعف والانسحاق.
يعرف المخرج باز لورمان بدلالات وظيفية تحدد ملامح سينماه، الأولى هي البزخ، البزخ في الألوان، في الملابس، في الجموع، في الاستعراضات، وهذا يحيلنا للثانية وهي ولعه بتحقيق أفلام غنائية تتسق بشكل كبير مع منهجيته في سرد القصة ولغته البصرية، بداية من فيلمه الأول “Strictly Ballroom” الذي حققه عام 1992، مرورًا بفيلمه الأشهر “Moulin Rouge” الذي حققه عام 2001 وحاز عنه جائزتي أوسكار، وصولًا إلى فيلمه الأخير “Elvis” عن مغني الروك آند رول الأسطوري إلفيس بريسلي، الذي من الوهلة الأولى، بالنظر لتاريخ باز لورمان السينمائي في الأفلام الموسيقية الناجحة، سيكون الخيار المثالي، وسيلعب في نفس المساحة التي طبعت أفلامه السابقة، مع إتاحة ميزانية تتجاوز الثمانين مليون دولار في إنتاج مشترك بين عدة شركات ضخمة منهم وارنر برازرز.
أي أن مساحة البزخ التنفيذي وتحقيق التصميمات التي تتناسب مع روح إلفيس بريسلي وإيقاع أغانيه الصاخبة، بجانب تسكين ممثلين ذوي شعبية هائلة في أدوار رئيسية، أشهرهم بالطبع نجم الأفلام التجارية توم هانكس، لكن هل هذا يكفي لتحقيق فيلم جيد؟ إنها بالطبع خطوات مهمة بيد أنها تفتقد للتماسك الأدبي في الكتابة، على عكس جسامة الحدث البصري الذي يصدر كانعكاس لحياة البزخ.
يتعرض الفيلم لحياة إلفيس بريسلي – الممثل أوستن باتلر – من عيون مدير الأعمال أو كما يقولون مدير المواهب توم باركر – الممثل توم هانكس – وشهرته الكولونيل، يروي الكولونيل حياة إلفيس بلمحات سريعة ومونتاج خاطف، منذ نشأته في أحد الأحياء بمدينة ممفيس وتأثره بثقافة شارع بيل وموسيقاه الخاصة.
يفتتح باز لورمان الفيلم بمشهد النهاية، لقطات سريعة وأصوات تتهم الكولونيل بقتل المغني الأسطوري، فيما هو يدافع عن نفسه وينكر التهم، الأمر أشبه بمحاكمة أولية، يقودها المشاهدون من خلف الشاشات، ينتظرون بصمت لسماع أقوال المتهم، لذا بدا الفيلم عن الكولونيل نفسه كإطار يحكم السردية في باطنها، وفي الحقيقية حياة الكولونيل وإلفيس لا يمكن فصلها، فالاثنان شركاء في كل شيء كما يدعي الكولونيل.
من السائد استخدام موتيف الصوت الداخلي لرواية القصة من منظور مختلف، خصوصًا في أفلام السيرة الذاتية، فيتحكم المخرج في خطين: خط يعتمد على الصورة والاستعراض، والآخر يتخلل السردية الأولى في هيئة شريط الصوت، وهي أسهل طريقة ممكنة لخلق تقاطع بين وجهتين: ما يحدث داخل الصورة، وما يرويه الصوت خارج الصورة.
تبرز هذه العملية التناقض بين الواقع والرواية، وتثبت فاعليتها في بعض الأحيان، لكنها لا تمنح الأشخاص عمقًا، بل تضيف المزيد من السطحية، فالمشاهد يتعاطى مع المادي – الصوت والصورة والتكوين والتوليف – ولا يتدرج إلى النفسي والروحي، فالمخرج برؤيته الاستعراضية الهائلة يتعاطى مع حياة إلفيس بريسلي في رحلته المسرحية، لا يلتفت أكثر إلى عملية الكتابة أو التحضير، لا يلتفت إلى حياة إلفيس خارج المسرح إلا في لمحات قليلة.
وعلى النقيض يحصر حياة إلفيس في حفلاته وعلاقته الشائكة مع الكولونيل، التي قامت على الخضوع، فلم يمنح باز لورمان إلفيس ما يستحقه في البناء، علاقته بزوجته وبابنته، لم يهتم إلا بعلاقة الابن بأمه، وكانت علاقة هامشية بحضور الكولونيل، رغم أن زمن الفيلم يتجاوز الساعتين ونصف، لم يستغل هذه المساحة في التأسيس للشخصية وخلق علاقة بين المشاهد والبطل، بل فضل أن يصنع تلك العلاقة على المسرح، خلال حفلاته، وهي علاقة قائمة بالفعل، لذا يمكن أن نعتبرها استدعاءً للجو العام الذي كان يخلقه إلفيس، وهو حدث عظيم وبناء جيد، لكننا لا نرى حفلة طويلة ممتدة، حتى يبدو كل شيء ثانوي بجانبها.
صحيح أن إلفيس ملأ حياته بالغناء والأصوات، لكنه امتلك حياة أخرى خارج الأضواء، حياة لا نعرف عنها الكثير، يمكننا أن نتسامح مع بعض من هذه المشاكل لأن الفيلم استعراضيًا غنائيًا، لكن هذا لا يشفع المرور على جثة إلفيس الإنسان.
يتعاطى الفيلم مع حوادث رئيسية في حياته، حوادث معروفة ومهمة، ويأخذها كركيزة بناء، بيد أننا لا نرى منهجية معينة للتفاعل مع موسيقى إلفيس الأسطورية، لم تمنح السردية أهمية لموسيقى إلفيس في ذاتها، تطورها ووجودها وتأثيرها أكثر من صيحات النساء وإلقاء الملابس الداخلية، ماذا تعني موسيقى إلفيس بالنسبة لباز لورمان، لم نعرف، كان هناك رصد لحوادث سياسية، بعضها كان جيدًا، والآخر لم يأخذ حقه في السرد، لم تتخط كونها إشارات، مثل فترة خدمته القسرية بالجيش، حتى تعرفه على زوجته كان خاطفًا، كل ما يوجد هو إلفيس على المسرح يغني حتى يشعر بالإنهاك.
يحافظ لورمان على إيقاع طوال الفيلم، يخلق أجواءً محفزةً، يمنح المشاهد أداءً حركيًا وإيقاعيًا مبهرًا، يصدر لورمان الحركة في كل تفاصيل منتجه الإبداعي، فالتوليف خصوصًا في النصف الساعة الأولى كان ينطلق بسرعة الصاروخ ويحشد العديد من التفاصيل في دقائق قليلة، أغلب اللقطات تتمتع بديناميكية هائلة سواء داخل الإطار أم عن طريق التوليف، إلى جانب حركة الممثلين والاستعراضات والحفلات ودورانات سيقان ألفيس واهتزازته التي أثارت الجماهير والحكومة واليمين المحافظ على حد سواء.
ينتج لورمان الإيقاع بحرفية عالية، تصميم الإنتاج يقوم بعمل رائع داخل هذا الفيلم ليعود بالأجواء، ليخرج فيلمًا مرضيًا جدًا على المستوى الجماهيري والترفيهي، يحافظ على روح تبقي المشاهد مستمتعًا، يقدم الكثير من الأشياء في آن واحد، يريد أن يحكي الكثير لأن حياة الفنان كانت مكتظة بالحوادث والوقائع التي يمكن أن تغذي سردية أكبر وأعمق، لكنه في النهاية لا ينتج إلا المغذيات البصرية والحركية، وهي جزء لا بأس به من عالم إلفيس كما نعرفه، لكنه لا يمنح الجانب الآخر من حياته إلا أنصاف حكايا، فأمه وحدها وهوسها بابنها يمكنه أن يصنع فيلمًا مستقلًا، لذا نجح لورمان في تقديم الحدث والروح Mode والأجواء، إلا أن اهتمامه المبالغ فيه بهذه النقاط جاء على حساب نقاط أخرى، فصنع فجوات داخل الفيلم، أغفلتها السردية وأسقطها الإيقاع.
في بعض الأحيان كان المخرج ينحاز لمنهجية تحول إلفيس لرمز جنسي، وهو كان كذلك في الحقيقة، بيد أن هذا الجزء ينتمي لإلفيس المسرحي، المؤدي، الاستعراضي، ينتمي للجسدي والسطحي أكثر من مكامن الانفعالات الداخلية، وهو ما افتقده إلفيس في رواية لورمان، افتقد أن يكون حقيقيًا، وظل يغلفه بطبقات من البزخ والاستعراض والفخامة، مخلفًا مساحة كبيرة من الخواء، تحتاج إلى أفاعيل ووقائع لتسدها وتحقق وجودها.
يقدم الممثل أوستن بتلر واحدًا من أفضل أداءاته في مسيرته السينمائية القصيرة والواعدة، بعد أن شارك بدورٍ صغير في فيلم المخرج كوينتن تارانتينو “حدث ذات مرة في هوليوود”، يتألق اليوم في تحقيق شخصية إلفيس بريسلي على الشاشة، يمنح المشاهد الأداء الحركي والشكل المثالي والصوت المناسب، يسطو على الجو العام ويتفرد بكاريزما شخصية تسحب الأضواء نحوه.
صعوبة الشخصية ليست على المستوى الشكلاني أكثر مما هي على مستوى التصديق والاندماج مع السياق، خصوصًا خارج صخب الحفلات، ربما لم يأخذ أوستن المساحة الكافية في فيلم يقترب من الثلاث ساعات للتعبير عن شخصيته، لممارسة سحره الخاص الذي كان من الممكن أن يمنح الشخصية عمقًا أكثر من ذلك، لكنه استهلك في الحفلات والاستعراضات، وعلى النقيض قدم توم هانكس أداءً جيدًا وهادئًا، يناسب شخصية الكولونيل، وهو أفضل أداءاته منذ سنوات قدم فيها أفلام تجارية بلا معنى.