عاجز في هذه اللحظة عن إقامة مقارنة علمية موثَّقة بين تونس وبلدان ومجتمعات عربية، لغياب المعطيات الكمّية والنوعية، لكن تأملات بسيطة وغير مسلحة علميًّا في الواقع تونسي، ومنذ سنوات طويلة، جرّتني إلى حكم بتُّ أتحمّل كلفته العلمية والأخلاقية.
الشعب التونسي فاقد للخيال الخلّاق، وهو لذلك يعيد إنتاج أفكاره وجمله ومواقفه بالطريقة نفسها والألفاظ نفسها تقريبًا، في المسائل التي تعرض نفسها عليه دوريًّا، وهو شعب يَرهَب التغيير ويتجنّب دفع كلفته، كأنه شريط مسجّل يُوضع في الآلة نفسها، ليدور بلا انقطاع، وسأختم بأن التوانسة شعب ممل وما أنا إلا من غزية.
هل للمدرسة دور في ذلك، أم أنها السلطة التي صهرت شعبًا في قالب واحد حتى أفقدت الأفراد تميُّزهم، أم أن الغريزة غلبت المغامرة الخلّاقة فأودت بالناس إلى حضيض العيش المستكين بلا خيال؟ إجابات ممكنة لكن لا يقين. سأتخذ احتفالات عيد المرأة التونسية وسيلةً للتحليل.
المرأة التونسية حالة دعائية
13 أغسطس/ آب من كل عام هو عيد المرأة التونسية، التي لها في الواقع عيدان، فهي تحتفل بيوم 8 مارس/ آذار (اليوم العالمي للمرأة)، ولها عيدها الخاص الذي يناسب يوم إصدار مجلة الأحوال الشخصية التونسية.
طالما اعتبر الزعيم بورقيبة هذا اليوم يومه الخاص، وهو الذي نقش على باب ضريحه بماء الذهب أنه محرِّر المرأة، غير أنه لم يبلغ إلى جعل هذا اليوم عيدًا رسميًّا (عطلة مدفوعة الأجر)، لكن نظام بن علي الذي لم يخترع له مكرمة تتفوق على بورقيبة، زايد عليه بتدليل المرأة فجعل اليوم عطلة رسمية، وهذه من علامات فقر الخيال السياسي المدقع لرجل شرطة بلا خلفية فكرية.
في كل عيد، وخاصة بعد إطلاق سراح فيسبوك والسوشيال ميديا بعد الثورة، كتبَ التونسيون نصًّا واحدًا من 3 جُمل، أولًا جملة الحداثيين (اليسار والتيار الفرانكفوني وطيف واسع يلاقيهما في ساحة معاداة النص الديني) أن المجلة متخلفة عن القانون المدني في باب أحكام الميراث، ويجب تعديلها.
ثانيًا جملة الماسكين بسلامة النصّ الديني، الذين يعارضون الحداثيين في نقطة الميراث، ويقدّمون حججهم على أن إلغاء الحق في تعدد الزوجات مخالف للشرع (النهضة وأنصارها يسكتان منذ سنوات عن هذه المسألة، ويبقى السلفيون أشد الناس حرصًا على الطعن في عقيدة الزعيم الذي منع التعدد).
وثالثًا جملة الهاربين من أي موقف، فيكتبون جُملًا رومانسية لزوجاتهم وحبيباتهم قد تكون تحت الضغط العائلي، في الأثناء يتميز القوميون، أحزابًا وشخصيات، هنا بأن ليس لهم جملة أو لفظة في الموضوع (وكل موضوع يقع بين النص المقدس والاجتهاد فيه)، فهم يهربون من مواجهة النص الديني، في الوقت ذاته يتهرّبون من إعلان موقف حداثي من المجلة قد يضعهم في مرمى التيار الديني ويلحقهم بالملاحدة.
لقد جعلوا المرأة حالة دعائية موسمية لا تختلف عن إشهار سلعة.
هذه الجمل تكرّرت أمامي حتى صرت أتوقع ما سيكتب فلان وعلان قبل العيد بأيام، وأظنُّ أن كثيرًا منهم ينسخ منشوره الواحد كل سنة ويعيد نشره، منشورات تسجيل مواقف أقرب إلى العقيدة الثابتة لدى كل طرف، دون اجتهاد ودون سؤال مثلًا عن مكاسب المرأة التونسية مقارنة بنظيرتها العربية.
هل يوجد تعدد زوجات في البلدان التي لم تلغِ رخصة التعدد (المغرب والجزائر في مرمى النظر والمقارنة)؟ هل نسبة تمدرُس المرأة التونسة أعلى من نِسَب تمدرُس المرأة العربية عامة؟ هل وصول المرأة التونسية إلى الوظائف السامية في الدولة (وهو أحد مقاييس الأمم المتحدة لقياس مشاركة المرأة) أعلى في تونس؟
مؤشرات التنمية البشرية المعتمَدة في الأمم المتحدة لا تعطي تونس أية أفضلية عن نظرائها العرب، حتى مقارنة بالسودان الذي خطبت الكنداكة في ساحاته العامة، ولم نسمع تونسية واحدة اعتلت منبرًا خطابيًّا في زمن الثورة.
هذه الأسئلة لا يطرحها التونسيون أبدًا، ومنذ سنوات طويلة، ولكنهم مكتفون بتمجيد المجلة (مكسب تونس الأعظم أو الوثن المقدس)، وإعلان تفوق المرأة التونسية في العالم بأسره.
لقد حشرهم الزعيم في برنامجه، وفيهم بعده خشية مميتة أن يعلنوا فراغ الفكرة والمشروع، وهذا من فقر الخيال وغياب الجرأة، والجبن السياسي المنظَّم في أحزاب ومواقع أكاديمية يفترض أن تستبق وتفتح الطريق إلى النقد، لقد جعلوا المرأة حالة دعائية موسمية لا تختلف عن إشهار سلعة.
عيد 2022 ذكّرنا بأعياد ليلى
لقد فوجئنا في عيد المرأة لهذه السنة بخروج زوجة الرئيس قيس سعيّد للأضواء، وإلقائها خطاب سياسي، ثم تلقّيها وسام من رئيسة الحكومة، ثم توصيف الإعلام لها بالسيدة الأولى.
مصادر المفاجأة متعددة، أولها أن الرئيس سعيّد خالف مرة أخرى خطابات سابقة له لا يقرّ فيها بوجود سيدة أولى، وإنما هو تقليد سياسي غربي وصفه يومًا بالسخف؛ وثانيها أن زوجة الرئيس نأت بنفسها عن العمل السياسي العلني منذ اُنتخب زوجها، وقد أكبر الناس ذلك على خلفية تصدُّر ليلى الطرابلسية، زوجة بن علي، المنابر طيلة حكم زوجها، ومشاركتها فعليًّا في إدارة الشأن العام دون حجاب.
تمجيد السيدة لدستور زوجها غير مهم هنا، لكن إعادة إنتاج شكليات نظام بن علي ومراسمه وتقاليده، هي التي كشفت لنا مرة أخرى العجز المدقع في تخيُّل مسارات وبرامج وخطابات مختلفة، ترسي تقاليد جديدة وتطوّر أشكال ممارسة السلطة.
لقد سار القوم مسافة طويلة ليعودوا إلى نظام بن علي بكل تفاصيله، وما نظام بن علي إلا نسخة مشوَّهة من نظام بورقيبة، حين كانت الماجدة حرمه (وهو اسمها الرسمي في الإعلام الرسمي) تحكم تونس من غرفة نوم الزعيم، وتخطب عن حركات التحرر في العالم.
70 عامًا وللسلطة شكل واحد ومراسم متطابقة وشخصيات يصنعها الإعلام، والجمهور يشرب بصمت نقيع التشابُه الفقير، هنا يكون التونسي مملًّا وغير خلّاق، فلا الذي في السلطة جدّد واقترح عليه الجديد، ولا هو نقد التكرار ونبذه.
ثورة بلا خيال استنسخت السلطة الساقطة ففشلت، وأعادت تقاليد الماجدة والحلاقة لتصبح تقاليد القاضية بلا أدنى فروق، إلا في رشاقة القوام ولون الفستان
الصناعة الإعلامية لزوجة الرئيس الجديد تمّت بحرفية صناعة زوجة بن علي، أما الفارق المعرفي بين سيدة حائزة على تكوين أكاديمي وتشتغل قاضية، وأخرى لم تكن إلا حلاقة صيّادة فرص، فلم يصنع الفرق، لا خيال ولا إبداع وإنما تقليد سائد سائر عبر الأزمنة السياسية والثقافية لدولة التونسيين، الذين يسندون لأنفسهم أعلى الألقاب الإبداعية بلا دليل.
الثورة لم تدخل منطقة الخيال
هذا سبب رئيسي لتراجُع مكاسب الثورة التونسية، وارتدادها إلى حكم ديكتاتوري فقير الخيال (ها أنا أجتنب كلمة الفشل)، لم يكن لمن تصدّى للحكم بعد الثورة مخيال مختلف، ينتجُ صورًا جديدة وأساليب إدارة وخطابًا إعلاميًّا مختلفًا عمّا سبق، فوقع في إعادة إنتاج السائد بوسائله نفسها، وأحيانًا بألفاظه وجمله نفسها.
لم يطرح مثلًا الأسئلة التي طرحناها أعلاه عن مصداقية تفوق المرأة التونسية عن نظيرتها العربية، ليخرج من عهد الزعيم وتقاليده، لم يقترح على عوام الناس التَّبَع ما يحررهم من خوفهم ويعلّمهم الطموح للخروج من وضع “شد مشؤمك خشية أن يأتيك أشأم منه”، وهو مثل تونسي صرف يكشف الخوف من التغيير واجتناب عذابات ثمنه القاسي.
ثورة بلا خيال استنسخت السلطة الساقطة ففشلت، وأعادت تقاليد الماجدة والحلاقة لتصبح تقاليد القاضية بلا أدنى فروق، إلا في رشاقة القوام ولون الفستان.
إشارة أخيرة قد تكون سببًا للفهم، منذ العام سبعين من القرن الماضي، يدرس التلاميذ التونسيون نصًّا واحدًا في برنامج البكالوريا، هو نصّ محمود المسعدي الذي يعلّمهم أن الوجود عدم وأن النجاة لا تكون في الجماعة، لذلك إن مراكب الهجرة السرّية التونسية هي الأنشط على سطح المتوسط في صيفه الطويل، وعلى لسان كل حارق وفي خياله الفرداني “اُنجُ سعد فقد هلك سعيد”.