إحدى السمات الرئيسية للحالة السياسية المصرية في العقود الأخيرة، أنها تقوم، ظاهريًّا على الأقل، على أكتاف فصيلَين أساسيَّين، هما الجيش والقوى الإسلامية ممثلة في جماعة الإخوان المسلمين، وذلك بعد انزواء القوى السياسية الليبرالية المنظَّمة (الوفد مثلًا) مطلع ومنتصف القرن العشرين.
يتشابه الجيش والإخوان المسلمون في سمات رئيسية جعلتهما أكثر القوى السياسية المصرية بروزًا، هي الأيديولوجيا الرافعة: الإسلام السنّي في حالة الإخوان، والوطنية المصرية في حالة الجيش، والقدرة على الحشد والتنظيم، والهرميّة التي تمكّن قيادات أعلى التنظيم من التأثير بالقواعد الأدنى، إضافة إلى القدرة على تدبير التمويل بالموارد الذاتية، والتجذُّر في الشارع، والتقاليد المؤسسية، والعلاقات الخارجية.
بعد 3 يوليو/ تموز 2013، استطاع الجيش، بقيادة السيسي، وبدعم خارجي، توجيه ضربة قاصمة للطرف الأكثر تهديدًا لحضوره السياسي، الإخوان، من خلال القبض على القيادات، وسحق البنى التنظيمية للإخوان في المحافظات والأقاليم، وصنع “صدمة” شبه مستدامة لدى التنظيم الإسلامي بفعل الإطاحة بمرسي، والنجاح في فضّ التجمعات المناوئة لتلك الإطاحة بدموية غير مسبوقة منذ عهد محمد علي، مؤسس مصر الحديثة، وصولًا إلى تجفيف المنابع التمويلية.
رغم سحق الإخوان، المنافس الأبرز على السلطة والتأثير في الشارع، وما تبع ذلك من تفكيك لكل المؤسسات الوظيفية في المجتمع، من نقابات وصحف ورجال أعمال مستقلين، والانفراد التام بالحكم منذ 8 أعوام؛ إلا أن السيسي لا يبلي حسنًا في المشكلات الرئيسية للمجتمع، الاقتصاد وأحوال الناس، بل على العكس، دخلَ السيسي في مرحلة “حلْب” المقدرات الاستراتيجية للبلاد، بعد أن استنفد كل ما هو ممكن من قروض من المؤسسات الدولية المانحة والحلفاء الخليجيين، وهو الوضع الذي يهدد الأمن القومي، بمفهومه الاقتصادي.
كما أن تلك السياسات المرهونة للخارج إلى حدٍّ كبير، والتي ينفرد بها السيسي متجاوزًا المؤسسات البيروقراطية العريقة مثل الجيش والخارجية، انعكست سلبًا بشكل واضح على أبرز ملفات الأمن القومي، أمن المياه، فيما يخصُّ قضية سد النهضة، حيث استفادت أثيوبيا من عدم جدّية السيسي في طرح الحلول الجذرية على الطاولة، لإنجاز المشروع على أرض الواقع، إذ أوشك جسم السد على الاكتمال، وأنجز الأثيوبيون الملء الثالث في أغسطس/ آب الحالي.
تطرح تلك الظروف والأوضاع المتردية سياسيًّا واقتصاديًّا تساؤلًا ملحًّا عن استمرار الجيش في موقفه السلبي تجاه السيسي، هل يمكن تفسير ذلك الموقف؟ وإلى متى يمكن للمؤسسة العسكرية الحفاظ على صبرها تجاه السيسي؟
الجيش والحكم
يلخّص علماء اجتماع مصريون بارزون، مستقلون ووطنيون، مثل أنور عبد الملك، تاريخ السياسة في مصر، من حيث التناوب على الحُكم، لا من حيث كونه صراعًا وتدافعًا على السلطة ومناهضة الاستعمار من الحركة الوطنية، بل أنه تاريخ ممتد من انفراد الجيش والعسكريين بمقاليد الإدارة في مصر، من الرأس إلى الذيل، وهو ما خطّه تفصيلًا في الجانب المصري من خلال كتاب “مصر مجتمع يحكمه العسكريون“.
بطبيعة الحال، الهوية العسكرية ليست هوية وحيدة لحكام مصر، لأن هناك هويات وتقسيمات فرعية أخرى اتّسم بها حكّام مصر، جهوية وثقافية وطبقية، إلا أن الهوية الحاسمة، والحدَّ النوعي لتصنيف طبقة الحكام، أن يكون منتميًا لطبقة “العسكر”، إضافة إلى الهويات الفرعية الأخرى المتمايزة، وهو الرأي الذي تبنّاه مفكرون تأسيسيون أيضًا في مشاريعهم التحليلية، مثل جمال حمدان.
كما أن تلك الخلاصة تصبُّ ظاهرًا في صالح السيسي، كونه قادمًا من المؤسسة العسكرية، ضابطًا في المشاة ومديرًا للمخابرات الحربية ووزيرًا للدفاع؛ إلا أنها، في حقيقة الأمر، في تلك المرحلة التاريخية على الأقل، قد تكون ضده، إذا ما نُظر إلى تاريخ الحكم في مصر باعتباره صراعًا عسكريًّا-عسكريًّا على الكرسي.
أي أن العسكريين، غير السيسي، ممن يتبوّأون المناصب الرفيعة في الجيش، يعلمون جيدًا أن تاريخ تداول الحكم في مصر، هو تاريخ من الصراع الداخلي بينهم على الحكم، وهو ما يعلمه السيسي أيضًا.
المخرج الوحيد للوضع السياسي الخانق في مصر، إذا حدث، سيكون عبر إطاحة طبقة العسكريين بالرأس الكبيرة، السيسي، كما فعلوا سابقًا في فبراير/ شباط 2011 ضدّ مبارك، ومرسي بعد ذلك.
كثّف السيسي تلك الحقيقة، كون الصراع على الحكم عسكريًّا بحتًا في معظم الأحوال، في حديثه الإعلامي عام 2018، حينما وجّه خطابًا حاسمًا لزملائه العسكريين الذين طمعوا في استغلال الانتخابات الرئاسية لمنافسته على الحكم، سامي عنان وأحمد شفيق وأحمد قنصوة، قائلًا إنه “لن يسمح لأحد بالاقتراب من الكرسيِّ”، وفي أكثر من مناسبة قال إن حياته ثمن للحفاظ على الكرسي.
وبناءً على تلك الحقيقة أيضًا، الجيش في مصر هو من يمتلك المفتاح والقرار في الإبقاء على السيسي أو الإطاحة به، حيث كان اللاوعي الجمعي يتحرك على الأرض عام 2019، في المظاهرات التي دعا إليها المقاول المنشق محمد علي احتجاجًا على فساد السيسي وعائلته، مستثنيًا الجيش من الانتقادات، ومركّزًا الهتافات ضد السيسي وحده، لأنّ الجميع على علم بأن التغيير الآمن لن يمرَّ إلا عبر بوابة الجيش.
وهو ما استند إليه أيضًا أجانب مطّلعون على الحالة المصرية، استنتجوا بناءً على تلك المعطيات التاريخية وخبرة العمل على أرض الواقع، مثل السفيرة الأمريكية السابقة آن باترسون، أن المخرَج الوحيد للوضع السياسي الخانق في مصر، إذا حدث، سيكون عبر إطاحة طبقة العسكريين بالرأس الكبيرة، السيسي، كما فعلوا سابقًا في فبراير/ شباط 2011 ضدّ مبارك، ومرسي بعد ذلك.
العصا والجزرة؟
يروق لخبراء الشأن المصري وصف علاقة السيسي بالمؤسسة العسكرية بأنها علاقة “العصا والجزرة”، وهو التعبير السياسي الذي يشير إلى أسلوب التعامل الخاص بين طرفَين، يمتلك أحدهما السلطة الفعلية، غير أنه يخشى الطرف الآخر، فيتأرجح في إدارة علاقته بهذا الطرف، عبر الامتيازات تارة والتهديدات تارة أخرى.
وفقًا لهذا التحليل، توسّع السيسي في منح الجيش امتيازات غير مسبوقة، وبالأخصّ في ملف الاقتصاد والإدارة، إذ صارت الاجتماعات الحقيقية التي تدار فيها البلاد تعقَد دوريًّا بين السيسي وضبّاط في الجيش يرتدون الملابس العسكرية ويقومون بالتخطيط وإعطاء الأوامر للوزراء في الملفات المدنية.
أبرز هؤلاء العسكريين هم قادة الهيئة الهندسية، وجهاز مشاريع الخدمة الوطنية، ومجموعة الشركات العسكرية التي تأسست حديثًا لإدارة مشاريع الجيش الكبرى بامتداد البلاد، زراعيًّا وصناعيًّا.
كما توسّع السيسي في منح الضباط صلاحيات إدارية تتعلق بالإشراف الدوري على المشاريع، إذ طلب من قادة المناطق العسكرية مراقبة المشاريع الواقعة في مناطقهم، واتّسع النفوذ العسكري ليشمل قطاعات مثل الصحة والحكم المحلي والقضاء المدني، واتخذ السيسي تدابير قانونية كثيرة لضمان تحصين العسكريين في القضايا الجنائية والاقتصادية من المساءلة القانونية الفعّالة.
أما عن “الجزرة”، فهي هندسة السيسي للعلاقات العسكرية، في الوقت نفسه، على نحو يضمن عدم بقاء أي من الضباط مدة طويلة في المواقع العسكرية القيادية، وتدوير القيادات بصفة مستمرة منعًا لتكوين الجيوب التي قد تشكّل خطرًا مستقبليًّا عليه، بما في ذلك معظم أعضاء المجلس العسكري وأجهزة جمع المعلومات، وتفضيل تصعيد الشخصيات التي تفتقد للكاريزما والطموح ومهارات التواصل، وتغليظ العقوبات بحقِّ العسكريين الذين يخرجون عن النص، كما حدث مع اعتقال سامي عنان وأحمد قنصوة.
توريط الجيش
لماذا هذا النموذج التفسيري، الخاص بالعصا والجزرة، رغم أهميته، قاصر؟ الإجابة لأنه يتجاهل جانبًا غاية في الخطورة فيما يتعلق بالطريقة التي رسم بها السيسي علاقته بالجيش، وهو جانب “التوريط”، فقد حرص السيسي، منذ اللحظات الأولى لظهوره، على الخلط بين مشروعه الشخصي الطامح للانفراد بالحكم، والجيش كأبرز وأهم مؤسسات الدولة قاطبة، باعتباره مجرد أداة في ذلك المشروع.
تعمّد السيسي الخروج على الجماهير وإعلان ترشحه للرئاسة 2014 بالبدلة العسكرية، متذرعًا بأنه يعبّر فقط، من خلال تلك الإطلالة، عن امتنانه للجيش، المؤسسة التي خدم فيها لعقود منذ كان طالبًا في الكلية الحربية، إلى أن صار مشيرًا ووزيرًا للدفاع.
كما تعمّد في مناسبات كثيرة، إيجابية وسلبية، الظهور بالهيئة نفسها لتذكير الرأي العام بأنه قادمٌ من الجيش، كما حدث في افتتاح قناة السويس الجديدة أغسطس/ آب 2015، والإشراف على توسع العمليات العسكرية ضد الجماعات المتمردة في سيناء شرقًا.
يمكن لمس رغبة السيسي في توريط المؤسسة العسكرية في مشروعه السياسي الشخصي
سارع السيسي في إسناد مشروعه القومي الأول، توسعة قناة السويس، إلى الجيش، ممثلًا في الهيئة الهندسية، لكي يدشّن عرفًا جديدًا في علاقة الجيش بمشاريعه القومية التي طالما كانت أحلامًا شخصية له منذ كان ضابطًا متوسطًا في الجيش على حد وصفه، وهو ما امتدّ لاحقًا إلى باقي المشاريع القومية العملاقة التي تعيد رسم خريطة البلاد وفقًا لأولويات أمنية ورأسمالية على مختلف الاتجاهات الاستراتيجية، مثل مشروع الريف الجديد المعروف إعلاميًّا بـ”حياة كريمة”.
ويمكن لمس رغبة السيسي في توريط المؤسسة العسكرية في مشروعه السياسي الشخصي، في محطات رئيسية، كاستعانته بالجيش في فضّ رابعة أغسطس/ آب 2013، رغم عدم وجود حاجة تقنية لذلك، فكل ما كان في الاعتصام من عتاد هو 14 بندقية وفقًا لتصريح محمد إبراهيم، وزير الداخلية حينها.
هذا بالإضافة إلى تصريحات السيسي شديدة الخطورة بشأن علاقته العضوية بالجيش، على غرار قوله إن الجيش قد اجتمع بعد عام 2013 لكي يختار أكفأ ضبّاطه لإدارة البلاد، فوقع الاختيار عليه شخصيًّا، وصولًا إلى ربط الحفاظ على الاستقرار السياسي الممثل ببقائه في الحكم، بحياته الشخصية و”حياة الجيش” نصًّا في تصريح شهير.
لماذا لا يتحرّك الجيش؟
هناك 3 أسباب رئيسية تمنع الجيش من اتخاذ موقف حاسم ضد السيسي حتى الآن، الأول أن حالة الاستقرار الهش السائدة حاليًّا هي أفضل بكل تأكيد من حالة “عدم اليقين” المتوقعة بعد السيسي، فالآن مفهوم، إلى حدٍّ ما، من يحكم البلاد، ومن يدعمه خارجيًّا، وما هي خطته، والجيش يتمتّع بامتيازات غير مسبوقة، في حين تمثل حالة “السيولة” المتوقعة جرّاء الإطاحة بالسيسي تهديدًا لمصالح النخبة العسكرية التي تنامت في عهد السيسي، وملامح سياسات البلاد الداخلية والخارجية على حد سواء، فالاستقرار الهش أفضل من اللادولة.
السبب الثاني أن هناك تعويلًا من الجيش على عامل “الوقت”، فالحكومة -وعلى رأسها الجيش– سوف تنتقل إلى العاصمة الإدارية الجديدة قريبًا، ما يعني فرصًا أفضل للإدارة والحوكمة لشؤون البلاد، والجيش بدوره قطع شوطًا معتبرًا في القضاء على التمرد المسلح في سيناء شرقًا.
ومن المحتمل أن تشهد الأوضاع العالمية تحسّنًا بسيطًا حال نجاح احتواء الأزمة الروسية الأوكرانية في أي وقت قريب، إضافة إلى أن الداعم الخليجي، المستقر اقتصاديًّا بفعل زيادة أسعار النفط والدولار، لديه خط أحمر هو منع سقوط نظام السيسي، حتى لو اقتضى ذلك ضخّ بعض المليارات في صورة قروض بين الوقت والآخر، بهدف الحفاظ على الوضع القائم، ما يعني أن الأوضاع الاقتصادية كارثية لكنها ليست مرشّحة للانهيار الكامل بعد.
كما أن ملف السد لا يزال به بعض الوقت (عام على الأقل) أمام إمكانية استخدام الحل العسكري، وهو الأمر الذي إن تمَّ، سينعكس إيجابًا بشكل هائل على ثبات نظام السيسي، وبالتالي ليس هناك داع عاجل للمخاطرة من الجيش.
في الوقت نفسه، وهو السبب الثالث، الذي يعدّ جزءًا من استراتيجية التوريط التي اتّبعها السيسي سريعًا وبكثافة مع الجيش عقب جلوسه على كرسي الرئاسة مباشرة، سيتعيّن على النخبة العسكرية التي ستتحرك ضد السيسي الإجابة عن حزمة من الأسئلة شديدة التعقيد، والتي تتطلب تغييرات جذرية شجاعة مدعومة شعبيًّا بشكل استثنائي لإيجاد حلول لها.
أبرز تلك الأسئلة هي: كيف ستتعامل مع الديون الهائلة التي تراكمت في حقبة السيسي؟ كيف ستتعامل مع الاحتلال الإسرائيلي الذي تربطه بالجيش علاقات عميقة في الأعوام الأخيرة، والذي يدعم السيسي شخصيًّا بكل قوة؟ كيف ستدار العلاقات مع الداعم الخليجي الذي ثبّت نفوذه الاقتصادي في البلاد بشكل قانوني؟ ما الضامن لعدم تأثر مصالح الجيش الاقتصادية التي ترسّخت خلال حقبة السيسي نوعيًّا في مرحلة ما بعد السيسي؟
تتعاضد تلك الأسباب معًا لتشكّل الحالة الآنية سياسيًّا في مصر، ما يثير غضبًا لدى بعض الدوائر الوطنية في الجيش، من مآلات طريقة السيسي في الحكم على المفاتيح الرئيسية للأمن القومي المصري، ولكنه يظل غضبًا مكتومًا في ظلّ عدم وجود خطة بديلة واقعية لحقبة ما بعد السيسي، وبفضل الامتيازات الهائلة التي حصل عليها العسكريون في سنوات السيسي.
متى يتحرك الجيش؟
لدى الجيش خطط جاهزة للتحرُّك الفوري لكبح تمرد جماهيري متوسّط النطاق عسكريًّا وإعلاميًّا، وذلك بفضل قوات مكافحة التمرد التي أسّسها السيسي تحت اسم “قوات التدخل السريع”، وخطط تلافي تكرار تجربة يناير/ كانون الثاني 2011، والتي قال السيسي إن الجيش، في ضوء التعلُّم منها، بات قادرًا على طيّ البلاد كلها بالآليات خلال 6 ساعات فقط.. لكن هل لدى الجيش خطة للإطاحة بالسيسي وإدارة البلاد بشكل إيجابي مختلف عنه؟ هذا سؤال مختلف كليًّا.
السيسي أيضًا لديه تصورات غير مكتملة عن ضرورة تصعيد ابنه، محمود، الضابط بالمخابرات العامة، في الملفات الحساسة، كإدارة الانتخابات داخليًّا والاتصال بالولايات المتحدة و”إسرائيل” ومتابعة الأوضاع في سيناء، ضمن خطة لتصعيد أقاربه البيولوجيين في الأجهزة الحساسة، مثل الرقابة الإدارية والقضاء.
لكن لا يبدو أنّ هناك تصورًا تامًّا لديه ولدى من يحيطون به عن قرب للإجابة عن سؤال: ماذا بعد السيسي؟ فمحمود السيسي لن يصبح أبدًا عبد الفتاح السيسي، لأسباب كثيرة، وللسيسي طموح شخصي جامح في الكرسي، والدستور الحالي يخوّل له معاودة تكرار سيناريو 2018 حتى عام 2034؛ ولكن ماذا إذا تدهورت صحّته قدرًا؟
وللرجل سابقة في ذلك مطلع عام 2020، حينما غاب عن الظهور في ذروة أزمة كورونا، ولا يوجد نائب له، رغم أن تعديلات عام 2019 سمحت له بتعيين نائب، ولا يوجد من ينافسه على الساحة من داخل دائرته، سواء في التواصل مع الرأي العام، أو في النجومية والبزوغ، أو في المشروع، وبالنسبة إلى السيسي، إلى الآن، فلا ينبغي أن يكون.
تدخُّل الجيش للإطاحة بالسيسي ضمن ما يسمح له الدستور به حفاظًا على قيم الدولة المصرية الحديثة، أقصر الحلول السياسية الممكنة ملاءمةً للوضع في مصر، بأقل التكاليف البشرية والاقتصادية على الجميع.
بين الجيش والسيسي اتفاق مبدئي، مكتوب، على أن يكون هناك ما يشبه “الوضع فوق الدستوري” رسميًّا للجيش في البلاد، ففي التعديلات الدستورية الأخيرة ما ينصّ صراحة على أن الجيش يضمن الحفاظ على الوضع السياسي، ومبادئ الدولة الديمقراطية الحديثة، إلى آخر تلك الشكليات التي يحافظ عليها النظام، ولكنها تصبّ كمضمون في أن يكون للجيش الحق القانوني في التدخل، من البداية، لمنع تكرار سيناريو 2012، أي أن يأتي رئيس غير مرغوب من الدولة العميقة إلى قصر الرئاسة، وهي نصوص تسمح بتقنين الانقلابات.
لا تفسير في الوقت الحالي لحرص السيسي على وضع هذا المضمون في وثيقة التعديلات الأخيرة، فمن المفهوم نظريًّا على الأقل أن أي تكرار لسيناريو 2012، وهو أمر صعب للغاية، إذا تمّ قسرًا بشكل مفاجئ، فإن الجيش لن يكون في موقع يمنحه رفاهية معاودة تكرار انقلاب يوليو/ تموز 2013، فهل فرض الجيش تلك النصوص على السيسي؟
إذ إن هذا الوضع الخاص قد يكون “حلًّا ممكنًا” للإطاحة بالسيسي، بواسطة الجيش مستقبلًا، للحفاظ على تلك القيم المنصوص عليها في التعديلات الأخيرة، فما يمنع من تفعيل تلك المواد، التي يهدرها السيسي، أنه لا شرط موضوعي (حركة شارع فعّالة، ودعم خارجي ضد السيسي)، ولكنها قد تتوافر في أي وقت مستقبلًا.
سيكون ذلك، تدخل الجيش للإطاحة بالسيسي ضمن ما يسمح له الدستور به حفاظًا على قيم الدولة المصرية الحديثة، أقصر الحلول السياسية الممكنة ملاءمةً للوضع في مصر، بأقل التكاليف البشرية والاقتصادية على الجميع، منعًا لتفجير الأوضاع الداخلية والدخول في صدام صفريّ بين الجيش والمواطنين برعاية السيسي.
هذا خاصة إذا ترافق ذلك التحرك مع خطة لتخارُج “جزئي” جادّ للمؤسسة العسكرية من الاقتصاد، وهو وضع، في الأخير، سيحتاج إلى نخبة عسكرية مختلفة عن النخبة التي تربّت في جحر السيسي، أي أنها ليست نخبة محمد ذكي مثلًا، وهو وضع قد يضمن لتلك الدولة فعلًا الحياة والتعايش، بدلًا من السيناريو الصفريّ الذي يدفع السيسي الجميع إليه حاليًّا.