تتزايد وتيرة صفقات الاستحواذ على الأصول المصرية خلال الأشهر الأخيرة بصورة غير مسبوقة، فقد بلغ عددها 233 صفقة بقيمة 9.9 مليار دولار، منها 118 صفقة خارجية بقيمة 6.5 مليار دولار، و115 محلية بقيمة 3.4 مليار دولار، بزيادة قدرها 49% في 2021 مقارنة بما كانت عليه في 2020، بحسب التقرير الصادر عن شركة “بيكر آند ماكنزي” إحدى أكبر شركات القانون في الولايات المتحدة الأمريكية، فبراير/شباط الماضي.
تتصدر الإمارات المرتبة الأولى بين الدول المستحوذة على الأصول المصرية، إذ بلغت استثماراتها في الربع المالي الثاني من عام 2021/ 2022 نحو 1.46 مليار دولار بنسبة 91.2% من إجمالي الاستثمارات الأجنبية لمصر البالغة 1.6 مليار دولار، فيما بلغ حجم استثمارات الإمارات والسعودية وقطر والكويت مجتمعة نحو 2.63 مليار دولار خلال الربعين الأول والثاني من العام 2021/ 2022، مقارنة بـ1.26 مليار دولار نفس الفترة من العام المالي 2020/ 2021، بحسب نشرة القطاع الخارجي الصادرة عن البنك المركزي المصري.
الهرولة الإماراتية للاستحواذ على الأصول المصرية خلال 2021، إذ أبرمت أكثر من 20 صفقة بزيادة قدرها 67% عن العام السابق، مع توقع زيادة تلك المعدلات بنهاية العام الحاليّ، أثارت الكثير من التساؤلات عن طبيعة تلك الاستثمارات ومدى جدواها للاقتصاد المصري، ثم السؤال الأبرز: لماذا مصر تحديدًا في هذا التوقيت؟
الأصول المصرية.. هدف إماراتي بحت
شهدت الأشهر الست الأخيرة وحدها موجة استهداف ممنهج للأصول المصرية من الشركات الإماراتية المملوكة في معظمها لحكومة دبي وصندوق أبو ظبي السيادي، تنوعت في مساراتها بين البنوك والشركات العقارية والمؤسسات النفطية وشركات الدواء والأسمدة والحاويات.
وفق موقع “ مصر360″ المحلي الذي استعرض أبرز تلك الصفقات خلال نصف العام المنقضي، فإن الإمارات لم تترك مجالًا ناجحًا إلا وطرقت بابه، دون أن تقترب من القطاعات التي تعاني من أزمات، وهو ما أثار الشكوك فيما بعد بشأن أهدافها الحقيقية وراء تلك الهرولة بعيدًا عن التصريحات الدبلوماسية التي يرددها قادة الدولة النفطية بأن كل تلك التحركات لدعم الشقيقة مصر وتعزيز التعاون بين البلدين.
البداية كانت في نهاية ديسمبر/كانون الأول 2021، حين استحوذت شركة الدار العقارية والمجموعة القابضة ADQ على 85% من حصة شركة “سوديك” مقابل 6 مليارات جنيه، وفي فبراير/شباط 2022، قدم بنك أبو ظبي الأول، أكبر بنك في الدولة الخليجية، عرضًا بقيمة 1.2 مليار دولار للاستحواذ على الحصة الكبرى في المجموعة المالية القابضة “هيرميس”، وهي الصفقة التي أحدثت جدلًا كبيرًا لدى المؤسسات المالية العالمية لما تسمح به للبنك الإماراتي من السيطرة على السوق المالي المصري، لتكون بذلك ثاني أكبر صفقة للبنك الإماراتي بعد شرائه أصول بنك “عودة” اللبناني بمصر في 2021.
جدير بالذكر أن هناك خمسة بنوك إماراتية تعمل في مصر حاليًّا، متصدرة بذلك قائمة البنوك الأجنبية الموجودة في السوق المصري، وهي: “أبو ظبي الأول” و”أبو ظبي التجاري” و”الإمارات دبي الوطني” و”أبوظبي الإسلامي” و”بنك المشرق”.
وفي مارس/آذار الماضي استحوذ صندوق أبو ظبي السيادي، على شركة “آمون للصناعات الدوائية” في صفقة بلغت قيمتها نحو 740 مليون دولار، وفي الشهر التالي مباشرة استحوذت شركة أبو ظبي القابضة ADQ على حصص بـ5 شركات تضمنت البنك التجاري الدولي وفوري وأبو قير للأسمدة ومصر لإنتاج الأسمدة موبكو والإسكندرية لتداول الحاويات، مقابل نحو 1.8 مليار دولار.
الاستحواذ الإماراتي على الأصول المصرية لم يقتصر فقط على الشركات والمؤسسات الاقتصادية البحتة، بل تجاوز ذلك إلى التغول داخل مفاصل الدولة التعليمية والصحية
الأمر ذاته تكرر في يوليو/تموز، حين استحوذت شركة “أغذية الإماراتية” على 60% من شركة أبو عوف العاملة في مجال صناعة وبيع منتجات القهوة، وفي التوقيت ذاته أبرمت مجموعة “مواني أبو ظبي” صفقة بقيمة 140 مليون دولار استحوذت بمضمونها على 70% من حصص من شركتي ترانسمار الدولية للنقل البحري “ترانسمار” و”ترانسكارجو الدولية” “تي سي آي” المصريتين.
كما استحوذت شركة “أدنوك” التابعة لشركة “بترول أبو ظبي”، في الشهر ذاته، على 50% من أنشطة “توتال إنرجيز مصر”، العاملة في مجال محطات الوقود، في صفقة بلغت قيمتها 186 مليون دولار، كما قدمت شركة “الدار” الإماراتية عرضًا للاستحواذ على حصة أغلبية في شركة مدينة نصر للإسكان والتعمير، ولم يتم إبرام الصفقة بشكل نهائي حتى الآن.
الاستحواذ الإماراتي على الأصول المصرية لم يقتصر فقط على الشركات والمؤسسات الاقتصادية البحتة، بل تجاوز ذلك إلى التغول داخل مفاصل الدولة التعليمية والصحية، وهو الأمر الذي أثار الكثير من اللغط خلال الآونة الأخيرة، وذلك بعد أن استحوذت الإمارات على قرابة 30 مدرسة دولية في مصر، بجانب 12 مستشفى، بعضها كيانات لها حضور قوي مثل دار الفؤاد ومستشفى السلام الدولي، فضلًا عن الاستحواذ على أكثر من 10% من سوق التحاليل الطبية، بعد امتلاك شركة التشخيص المتكاملة القابضة المالكة لمعملي البرج والمختبر.
خريطة الاستثمارات الإماراتية في مصر
تتصدر الإمارات قائمة الدول الأكثر استثمارًا في مصر بقيمة 15 مليار دولار، وذلك من خلال 1165 شركة إماراتية تعمل في السوق المصري، ومن المتوقع ارتفاع هذا المعدل إلى 35 مليار دولار خلال السنوات العشرة المقبلة، وفق توقعات قناة cnbc arabia المهتمة بالشأن الاقتصادي العربي والدولي، بينما توقع، الرئيس العام لمجلس الإمارات للمستثمرين بالخارج جمال بن سيف الجروان، الوصول إلى هذا الرقم في غضون 5 سنوات فقط.
ويتصدر قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات خريطة القطاعات الأكثر حضورًا بالنسبة للاستثمارات الإماراتية، وذلك بمعدل استثمار يبلغ ملياري دولار من خلال 55 شركة، ثم يأتي قطاع التمويل ثانيًا باستثمارات قدرها 1.7 مليار دولار و49 شركة، يليه قطاع الإنشاءات والعقارات باستثمارات 814 مليون دولار وقرابة 118 شركة، ورابعًا يأتي قطاع الاستثمارات الصناعية بإجمالي 131 شركة وحجم استثمارات يبلغ 544 مليون دولار، فيما يحل القطاع الخدمي العام في المرتبة الخامسة بـ343 مليون دولار من خلال 275 شركة، تليه الاستثمارات السياحية بـ48 شركة وحجم استثمارات 260 مليون دولار، فيما يأتي القطاع الزراعي سابعًا وأخيرًا باستثمارات قدرها 129 مليون دولار.
الإسراع الإماراتي في الاستحواذ على الأصول المصرية يرجع إلى استغلال الدولة النفطية للوضع الاقتصادي المصري الهش، الذي دفعه للجوء إلى أصوله وممتلكاته لسد العجز الذي يعاني منه خاصة
وفق وكالة “بلومبيرج” الأمريكية فإن استحواذات صندوق الثروة السيادي في أبو ظبي داخل السوق المصري سيصل إلى نحو ملياري دولار قريبًا، منوهة إلى أن الإسراع الإماراتي في الاستحواذ على الأصول المصرية يرجع إلى استغلال الدولة النفطية للوضع الاقتصادي المصري الهش، الذي دفعه للجوء إلى أصوله وممتلكاته لسد العجز الذي يعاني منه خاصة بعدما وصلت معدلات ديونه الخارجية إلى مستويات قياسية في ظل غياب الخطط والإستراتيجيات التنموية التي تؤهل مصر للوفاء بما عليها من التزامات دون التفريط في ممتلكاتها.
تحول في نظرة الإمارات للسوق المصري
منذ 2013 وحتى قبيل 2019 لم تدخر الإمارات جهدًا لدعم النظام المصري عبر حزم متنوعة ما بين استثمارات مباشرة ومنح ومساعدات، تجاوزت حاجز الـ4 مليارات دولار، فقد أودعت مبلغ ملياري دولار في البنك المركزي، وتوظيف ملياري لتنشيط الاقتصاد عبر مبادرات اقتصادية، فضلًا عن المساعدات النفطية الأخرى.
وخلال مشاركته في المؤتمر الاقتصادي الذي عقدته مصر بمدينة شرم الشيخ في مارس/آذار 2015 تحت عنوان “دعم وتنمية الاقتصاد المصري.. مصر المستقبل”، قال نائب رئيس الإمارات رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، جملته الشهيرة: “إن وقوفنا مع مصر في هذه الظروف ليس كرهًا في أحد ولكن حبًا في شعبها، وليس منّةً على أحد بل واجب في حقها.. دولة الإمارات ستبقى دائمًا مع مصر”.
ظل الوضع هكذا، دعم مطلق دون حسابات أو اعتبارات اقتصادية، حتى بدايات 2019، حينها شهدت الاستثمارات الإماراتية في مصر تغيرًا واضحًا في بوصلة الاهتمامات والدوافع والأهداف المرجوة، ومن ذلك الوقت بدأت موجة الاستحواذ على الأصول المصرية، تركيزًا على الناجح منها، الأمر الذي أحدث ضجة كبيرة خاصة لدى المراقبين للمشهد ممن اتهموا الإمارات بالتخطيط للسيطرة على السوق الاقتصادي المصري من خلال دولارات النفط دون أي اعتبارات أخوية أو عروبية أخرى كما كان يردد شيوخ الدولة الخليجية سابقًا.
منذ أن قادت الإمارات وشركاؤها مخطط الثورة المضادة الذي أطاح بالدولة المدنية المصرية في 2013، وهي تخطط لتعزيز نفوذها داخل مصر، عبر الهيمنة على أدوات القوى الناعمة التي كانت تتوقع أن تكون الباب الأكثر اتساعًا لمنافسة الحضور السعودي والأجنبي داخل الحدود المصرية
التساؤل الذي فرض نفسه على ألسنة الجميع حاليًّا: ما استفادة الاقتصاد المصري من تلك الإستراتيجية الإماراتية في الاستحواذ على الأصول المصرية وشركاتها الناجحة بالفعل؟ هل يمكن لمثل تلك الاستثمارات أن تحسن الاقتصاد الوطني المصري وتخرجه من عنق الزجاجة القابع فيها خلال السنوات الأخيرة؟
يشير الخبراء إلى أن طبيعة الاستثمارات الإماراتية في مصر لا تراعي البعد الاجتماعي والاقتصادي للمصريين، فهي وبمنطق برغماتي بحت تسعى للكسب دون أي اعتبارات أخرى، فيما يرى آخرون أنها لا تقدم أي إضافات للاقتصاد المصري، كونها تستولي على أصول موجودة بالفعل وتحقق أرباح كبيرة، وعليه فهي تنقل تلك الأرباح من داخل مصر إلى خارجها، دون إثراء المشهد بأي جديد يذكر، ومن ثم فهي لا تتناسب مطلقًا مع توجهات الدولة في جذب الاستثمارات الأجنبية، الأمر الذي أثار الكثير من الشكوك حيالها.
ويرى الاقتصاديون أن الاستثمار الأجنبي الجيد هو ذلك الذي يؤسس لنشاط اقتصادي جديد، يوظف من خلاله عمالة وطنية، ويعزز السوق بمنتجات متنوعة وجديدة، ويحقق قيمة مضافة للاقتصاد المصري، وهو ما لم يتحقق مع الاستثمارات الإماراتية المباشرة التي تهدف إلى السيطرة على ما هو موجود بالفعل وتفريغ السوق من روافده الأساسية بما ينعكس سلبًا على الاقتصاد مستقبلًا.
لماذا السوق المصري تحديدًا؟
لم يكن اختيار السوق المصري كقبلة للاستثمارات الإماراتية اختيارًا عشوائيًا، فبجانب الأرباح والمكاسب المادية المتوقع تحقيقها من وراء تلك الصفقات التي تستحوذ على أفضل الكيانات الموجودة على الساحة الاقتصادية المصرية، في ظل سوق متسع قادر على استيعاب العديد من المشروعات والكيانات، فهناك دوافع واعتبارات أخرى وراء تلك الهرولة غير المسبوقة في التاريخ.
منذ أن قادت الإمارات وشركاؤها مخطط الثورة المضادة الذي أطاح بالدولة المدنية المصرية في 2013، وهي تخطط لتعزيز نفوذها داخل مصر، عبر الهيمنة على أدوات القوى الناعمة التي كانت تتوقع أن تكون الباب الأكثر اتساعًا لمنافسة الحضور السعودي والأجنبي داخل الحدود المصرية.
وبالفعل نجحت أبو ظبي في فرض حضورها بشكل مكثف عبر أداة الإعلام الذي تحول في وقت قصير إلى سلاح قوي لتعزيز الوجود الإماراتي مصريًا، فمولت الدولة الخليجية إنشاء العديد من الكيانات الإعلامية، صحف ومواقع وقنوات فضائية، وكونت جيشًا جرارًا من الإعلاميين الموالين لها أبرزهم البرلماني السابق عبد الرحيم علي رئيس مجلس إدارة صحيفة “البوابة” والإعلامي المقرب من النظام نشأت الديهي، رئيس مجلس إدارة شركة “المدار”، وكلاهما تمويلًا إماراتيًا.
الحسابات السياسية أجهضت سلاح الإعلام كأداة لتحقيق الأجندة الإماراتية للتغلغل داخل مفاصل الشارع المصري، وعليه كان لا بد من البحث عن أداة أخرى أكثر قوة وتأثيرًا ولا يمكن للمصريين رفضها في ظل الوضعية المعيشية التي يحيوها الفترة الحاليّة، فكان الاقتصاد هو السلاح الجديد لأبناء زايد داخل مصر
غير أن خلال السنوات الخمسة الأخيرة شهدت تلك المشروعات ضربات موجعة بعدما أغلق الممول صنابير التمويل، لاعتبارات سياسية بحتة، بعضها يتعلق بالتوتر مع القاهرة بين الحين والآخر تباينًا في وجهات النظر بشان عدد من الملفات، وأخرى لحسابات خاصة بخريطة التحالفات التي دفعت أبو ظبي لتخفيف حدة هجومها على بعض الدول وعليه إغلاق تلك المنصات التي تمولها لتحقيق هذا الغرض، كما هو الحال مع موقع “تركيا اليوم” و”عثمانلي” اللذين كان يبثان من القاهرة للهجوم على تركيا وقطر.
الحسابات السياسية أجهضت سلاح الإعلام كأداة لتحقيق الأجندة الإماراتية للتغلغل داخل مفاصل الشارع المصري، الأمر ازداد تعقيدًا بعد العبث بأمن مصر القومي إماراتيًا سواء في الملف الليبي أو اليمني أو في العمق الإفريقي، وعليه كان لا بد من البحث عن أداة أخرى أكثر قوة وتأثيرًا ولا يمكن للمصريين رفضها في ظل الوضعية المعيشية التي يحيوها الفترة الحاليّة، لذا كان الاقتصاد هو السلاح الجديد لأبناء زايد داخل مصر.
وبعيدًا عن لغة التهويل والتعظيم من قيمة وتأثير الاستثمارات الإماراتية في مصر التي تعتمد على شراء أصول الدولة، فإن الكثير من المخاوف تتصاعد بشأن هذا التوجه الذي ستدفع القاهرة ثمنه باهظًا في المستقبل حين يتم تفريغ السوق من موارده الأساسية مقابل حفنة من الدولارات لسد عجز مؤقت.