جاء الرد الإيراني على المسودة المقترحة لصيغة الاتفاق النووي المقدَّمة من قبل الاتحاد الأوربي في 26 يوليو/ تموز 2022، لتشير بدورها إلى تصاعد الآمال لاقتراب عقد اتفاق نووي جديد، بعد جولات متواصلة من المحادثات النووية التي انطلقت مطلع العام الماضي.
الرد الإيراني، والذي جاء عبر رسالة موجَّهة إلى ممثلي القوى الكبرى في فيينا 15 أغسطس/ آب الجاري، وضع الكرة مرّة أخرى في الملعب الأمريكي، وهو ما ترجمته تصريحات المتحدث باسم الخارجية الأمريكية، نيد برايس، الذي قال: “على إيران أن تتخلى عن مطالبها الخارجية”.
يعكس التصريح الأمريكي من جهة أخرى مدى التعنُّت الإيراني عبر التمسُّك ببعض المطالب، والتي تعتبرها الولايات المتحدة غير ذات صلة بالاتفاق النووي، يأتي في مقدمتها بحث مسألة الأسرى الإيرانيين لدى الولايات المتحدة، ومسألة إخراج الحرس الثوري من لائحة المنظمات الإرهابية الأجنبية، إلى جانب عدم الحديث عن برامج الصواريخ البالستية بعيدة المدى، والتي نجحت إيران في تطويرها وتوسيعها بعد انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي في مايو/ أيار 2018.
ورغم التفاؤل الغربي بقرب توقيع الصفقة النووية، إلا أنه من جهة أخرى لا تزال إيران متحفّظة حيالها، خصوصًا بعد حالة الارتباك التي سادت داخل إيران، فرغم أن المخرجات التي جاءت بها المداولات التي جرت بين أعضاء المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، برئاسة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، وحضور ممثل المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي، حملت انطباعًا إيجابيًّا حول المسودة الأوروبية، إلا أنها طالبت بضرورة أن تكون هناك ضمانات مكتوبة تحفظ لإيران حق الرد على أي خطوة أمريكية جديدة قد تُفشل الاتفاق، مثل أن تنسحب منه مرة أخرى.
تنازلات إيرانية وتعهُّدات غربية
تبدو إيران هذه المرة مضطرة للعودة إلى الاتفاق النووي بأي طريقة كانت، ولعلّ هذا ما يوضّح طبيعة التنازلات التي قدمتها في المسودة الأخيرة، إذ يوضّح الرد الإيراني أن خامنئي أوعزَ للفريق التفاوضي الإيراني بضرورة التحلي بالمرونة حيال بعض المطالب، خصوصًا إذا كانت المنافع الاقتصادية جيدة، فقد تنازلت إيران عن مسألة إزالة الحرس الثوري عن لائحة المنظمات الإرهابية الأجنبية، مقابل رفع العقوبات عن الشركات الاقتصادية المرتبطة بالحرس، إلى جانب التعهُّد الإيراني بكشف وإرسال كل الأشرطة والنشاطات التي تجري في المفاعلات النووية إلى الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
كما تعهّد الجانب الإيراني بأن التعاملات المالية التي ستجري وفق نظام المعاملات المالية (FATF) ستكون خاضعة للرقابة الدولية، فضلًا عن إعادة النظر في نِسَب تخصيب اليورانيوم وأعداد أجهزة الطرد المركزي، وإعادتها إلى الوضع الذي كانت عليه قبل انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاق النووي.
وفي مقابل ذلك، تعهّدت القوى الكبرى، وكذلك الوكالة الدولية للطاقة الذرية، بإيقاف التحقيقات الخاصة التي تجريها الوكالة في الأنشطة النووية غير المعلنة التي تجريها إيران في المواقع النووية، والسماح للجانب الإيراني الوصول للنظام المالي العالمي، عبر إعادة دمج النظام المصرفي الإيراني به، فضلًا عن تقديم تعهّدات بعدم تأثر وضع الشركات التجارية والاستثمارية الأجنبية في إيران مستقبلًا، فيما لو حدثت أي مشاكل بين إيران والمجتمع الدولي، بخصوص الاتفاق النووي أو لأسباب أخرى.
وضع ضبابي ينتظر الاتفاق
يمكن القول إن المستقبل الذي ينتظر الاتفاق النووي ما زال غير واضح، كما يمكن أن نقول إن الاتفاق الذي يتمّ التفاوض عليه الآن، هو اتفاق الحاجات المتبادلة أو اتفاق الضرورة، فإيران تطمح للتوصّل إلى أي اتفاق يعيد ثقة الشارع الإيراني بالنظام السياسي، نظرًا إلى التحديات الاقتصادية والاجتماعية التي يمرّ بها.
كما أن إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن تريد إنهاء هذا الملف المعقد، للحصول على إمدادات النفط بأسعار مناسبة من دول الشرق الأوسط، ومن ثم الدخول في انتخابات التجديد النصفي للكونغرس الأمريكي التي ستجري في نوفمبر/ تشرين الثاني هذا العام، دون أن تواجه أي ضغوط من الحزب الجمهوري الذي يتطلّع إلى كسر أغلبية الديمقراطيين داخل مجلس النواب والشيوخ.
أما الدول الأوروبية، والتي تأتي في مقدمتها فرنسا وألمانيا وبريطانيا، فهي أيضًا لها حاجاتها التي تدفعها لتوفير أجواء مناسبة للتوافق الإيراني الأمريكي، إذ أدّت سياسة الضغط الأقصى التي مارستها الولايات المتحدة ضد إيران، إلى إيقاف عمل العديد من الشركات الأوروبية داخل إيران، وتحديدًا في قطاعات الحديد والطاقة والطيران والبتروكيماويات، إلى جانب مغادرة شركات أخرى إيران، وتعرُّضها لخسائر مالية كبيرة.
تبدو إيران هذه المرة مضطرة للتعامل بعقلية الدولة، وإزاحة عقلية الثورة، فالضغوط الداخلية والخارجية التي تواجهها، جعلتها تفكر بضرورة الشروع بمرحلة انتقالية تعيد التوازن للدور الإيراني، الذي تمَّ استنزافه ماديًّا ومعنويًّا، فضلًا عن أن الولايات المتحدة تريد البدء بدورها في إجراءات بناء الثقة مع حلفائها في المنطقة، وتحديدًا “إسرائيل” ودول الخليج، عبر احتواء التهديدات الإيرانية.
إيران، ورغم الفوائد الاقتصادية التي ستحصل عليها جرّاء الاتفاق النووي، إلا أنها ستكون فوائد مشروطة بمدى قدرتها على الالتزام بتعهّداتها.
وما يمكن التأكيد عليه أن إيران تسعى للوصول إلى اتفاق يثبّت وضعًا دائمًا، وهي فكرة أكّد عليها وزير الخارجية الإيراني، حسين أمير عبد اللهيان، الذي أشار إلى أن إيران تبحث عن اتفاق قوي ومستقر، وإذا كان للولايات المتحدة خطة “ب”، فإن إيران أيضًا تمتلك الخطة ذاتها، وهي فكرة أكّد عليها المتحدث باسم الوفد التفاوضي الإيراني في فيينا، محمد مرندي، الذي أشار إلى أنه ينبغي وجود ثمن تدفعه الولايات المتحدة، فيما لو قرر الرئيس الأمريكي الحالي أو المستقبلي الانسحاب من الاتفاق النووي مرة أخرى.
وجدت هذه التصريحات الإيرانية صداها في الموقف الذي أعلن عنه المبعوث الأمريكي الخاص لإيران، روبرت مالي، والذي ألمح إلى أنه لا بأس من اعتماد مبدأ التسوية في حال ما إذا كانت هناك تعهّدات إيرانية ملزمة، ومن ثم يشيرُ هذا الواقع بما لا يقبل الشك أن الماراثون الطويل الذي استغرقته المحادثات النووية استنزف الكثير من الموارد السياسية بين الأطراف المتحاورة، وأنه لا بدَّ من التوصّل لنتيجة تحقق الحد الأدنى من الطموحات السياسية لكل طرف.
فإيران، ورغم الفوائد الاقتصادية التي ستحصل عليها جرّاء الاتفاق النووي، إلا أنها ستكون فوائد مشروطة بمدى قدرتها على الالتزام بتعهّداتها، إلى جانب قدرتها على ضبط سلوك الحرس الثوري ووكلائه في المنطقة، فإخضاع أنشطة الحرس المالية للمراقبة الدولية كما تعهّدت إيران، ستجعل من أنشطته مكشوفة للرأي العام العالمي، ومن ثم قد يخلق هذا الوضع مزيدًا من الضغوط على طبيعة العلاقات المدنية العسكرية داخل إيران، في كيفية التوفيق بين حاجات الدولة الإيرانية وطموحات الحرس الثوري العابرة للحدود.