ترجمة وتحرير: نون بوست
مقاطع فيديو لغارات جوية إسرائيلية تمطر غزة؛ صور المنازل التي تحولت إلى أنقاض، وتحتها يدفن رجال ونساء وأطفال، وترتفع صفارات الإنذار منذرة بوابل من الصواريخ الفلسطينية المنطلقة تجاه الأراضي المحتلة والخوف من ارتفاع عدد القتلى ودعوات لضبط النفس.
هذا هو المسلسل الذي يعيد نفسه مرارًا وتكرارًا في السنوات الأخيرة. وفي كل مرة تحرق مشاعر الغضب العارم والعجز وآلام الحزن كل من تهمه قضية فلسطين وإسرائيل.
بالنسبة لأولئك الذين يعيشون في غزة، إنه صراع من أجل البقاء. وكما كتبت زميلتي عبير المصري في “هيومن رايتس ووتش” المقيمة في غزة، وهي تصف الأعمال العدائية في العام الماضي: “أجد صعوبة في العثور على كلمات لوصف رعب أن تستلقي للنوم ليلا ولا تعرف ما إذا كنت سترى ضوء النهار مرة أخرى، أو وصف معاناة الذين قابلتهم ممن نجوا بعد أن محت الضربات الإسرائيلية عائلاتهم، وعذاب رؤية الأبراج البارزة في غزة تتحول إلى جبال من الأنقاض”.
بالنسبة لأولئك الذين يعيشون في جنوب دول الكيان الإسرائيلي، يتعين عليهم “العيش في خوف دائم” أثناء الأعمال العدائية؛ حيث إن “صاروخًا قد يسقط على رؤوسنا في أي لحظة”، كما أخبرنا قريب رجل قُتل في هجوم صاروخي عام 2019.
لم يحدث استفزاز
في 5 آب/أغسطس؛ قصفت السلطات الإسرائيلية منزل تيسير الجعبري، أحد قادة الجهاد الإسلامي، دون استفزاز واضح يسبقه، وأشار رئيس الوزراء الإسرائيلي يائير لابيد إلى أن حركة الجهاد الإسلامي تشكل “تهديد وشيك” بعد اعتقال قوات الاحتلال لزعيم آخر في الجهاد الإسلامي في الضفة الغربية و هو بسام السعدي وسوء معاملته قبل عدة أيام.
خلال الضربات الإسرائيلية والهجمات الصاروخية الفلسطينية بين 5 و7 آب/أغسطس، استشهد ما لا يقل عن 49 فلسطينيًا في غزة، من بينهم 17 طفلاً، وفقًا لتقارير وزارة الصحة الفلسطينية، وبرغم أن الصواريخ التي أطلقتها حركة الجهاد الإسلامي على الأراضي المحتلة تسببت في بعض الأضرار هناك إلا أنه لم تقع أي إصابات.
بدأت جماعات حقوق الإنسان بالتحقيق في الأحداث، وسيستغرق الأمر بعض الوقت قبل أن نحصل على حساب كامل لما حدث، ولكن من خبرتنا التي تستند إلى سنوات في توثيق جولات من الأعمال العدائية في غزة، فإن هناك بعض الملاحظات الأولية:
أولًا: إن إسقاط “إسرائيل” للأسلحة المتفجرة ذات الآثار الواسعة في قطاع غزة المكتظ بالسكان، من المتوقع أن يتسبب بأضرار بالغة للمدنيين.
فخلال تصعيد أيار/ مايو من العام الماضي، وثقت هيومن رايتس ووتش الهجمات الإسرائيلية غير القانونية، وجرائم الحرب التي قتلت عشرات المدنيين – وقضت على عائلات بأكملها – ودمرت أربعة أبراج شاهقة مليئة بالسكان والشركات في غزة، مع عدم وجود أهداف عسكرية واضحة في محيط المنطقة.
في الماضي كذلك سبق أن وثقت هيومن رايتس ووتش استخدام السلطات الإسرائيلية المتكرر للقوة المفرطة وغير المتكافئة، وفي بعض الأحيان الاستهداف المتعمد للمدنيين أو البنية التحتية المدنية.
ثانيًا: الهجمات الصاروخية التي أطلقتها حركة الجهاد الإسلامي على المدن الإسرائيلية قد تبدو أنها تحمل بصمات اعتداء مماثلة، فترى هيومن رايتس ووتش أنها تنتهك قوانين الحرب؛ حيث تحظر قوانين الحرب الهجمات التي لا تستهدف هدفًا عسكريًا محددًا أو التي تستخدم أسلوب هجوم لا يمكن توجيهه إلى هدف عسكري محدد.
وفي أيار/ مايو 2021؛ أدت الهجمات الصاروخية الفلسطينية إلى مقتل 13 اسرائيليًا، إلا أن الذخائر التي حدث بها خطأ في الإطلاق ولم تصل لأهدافها، أدت إلى مقتل سبعة فلسطينيين على الأقل في غزة، كما وثقت هيومن رايتس ووتش.
وهو ما ردت عليه حماس في رسالة في آب/ أغسطس 2021 إلى هيومن رايتس ووتش، قالت فيها إن الهجمات الصاروخية استهدفت المواقع العسكرية الإسرائيلية، وليس “المدنيين أو مواقع مدنية”، وأنهم اتخذوا الاحتياطات اللازمة لتجنب إلحاق الأذى بالمدنيين، ولكن بما أنها قضية أمن سرية؛ لم تقدم حماس قائمة المواقع العسكرية التي استهدفتها والتي طلبتها هيومن رايتس ووتش.
حصار حقيقي وافتراضي
وثالثًا: فإن قيام السلطات الإسرائيلية بإغلاق المعابر إلى غزة في الفترة بين 2 و7 آب/ أغسطس، يوازي الإجراءات المماثلة التي اتخذت في حالات التصعيد السابقة، ووجدت منظمة هيومان رايتس أن هذه الإجراءات تعسفية وتشكل عقابًا جماعيًًا؛ وهي من جرائم الحرب، خاصة وأن هذه الخطوة أدت إلى منع حركة الأشخاص والبضائع، بما في ذلك الوقود اللازم لتشغيل محطة الطاقة الوحيدة في غزة، ومنعت سكان غزة الذين يحتاجون إلى رعاية طبية عاجلة من الحصول على العلاج خارج غزة.
وبالفعل؛ أُغلقت محطة توليد الكهرباء في غزة في 6 آب/ أغسطس بسبب نقص الوقود، مما تسبب في الحد من الكهرباء المتوفرة للعائلات إلى 4 ساعات فقط يوميًّا خلال صيف شديد الحرارة.، كما أن انقطاع التيار الكهربائي المزمن لفترات طويلة يعوق الحياة اليومية، لا سيما للأشخاص ذوي الإعاقة الذين يعتمدون على الضوء للتواصل باستخدام لغة الإشارة أو المعدات التي تعمل بالكهرباء لتسهيل حركتهم، مثل المصاعد أو الكراسي المتحركة الكهربائية.
هذه القيود أدت إلى تفاقم الأثر الساحق الفعلي لإغلاق غزة، والذي تفرضه “إسرائيل” منذ أكثر من 15 سنة؛ فالقيود الإسرائيلية الكاسحة على حركة الأشخاص والبضائع، والتي تفاقمها القيود المصرية على حدودها مع غزة، تسلب أكثر من 2.1 مليون فلسطيني في غزة من حقهم في حرية التنقل، وتدمر الاقتصاد، وتشكل جزءًا من جرائم السلطات الاسرائيلية ضد الإنسانية من الفصل العنصري والاضطهاد الذي تمارسه ضد ملايين الفلسطينيين.
حلقة مفرغة
وفقًا لتقرير منظمة إنقاذ الطفولة الصادر في حزيران/ يونيو، أفاد أربعة من كل خمسة أطفال قابلوهم في غزة أنهم يعانون من الاكتئاب والحزن والخوف بسبب الحصار الذي دام 15 سنة.
رابعًا: أفادت مجموعة الحقوق الرقمية الفلسطينية “حملة” مرة أخرى أن شركات التواصل الاجتماعي تحذف منشورات للفلسطينيين و النشطاء المؤيدين للقضية الفلسطينية حول الأحداث الجارية على أرض الواقع، ولقد وثقت هيومن رايتس ووتش العام الماضي كيف قام فيس بوك بإزالة وقمع أي محتوى مشابه بشكل غير مشروع، بما في ذلك انتهاكات حقوق الإنسان التي ارتكبت في فلسطين والأراضي المحتلة خلال الأعمال العدائية في أيار/ مايو 2021.
ومع ذلك؛ إذا تعلمنا أي شيء، فإنه طالما أن هناك إفلاتًا من العقاب على هذه الانتهاكات الجسيمة، فإن غزة ستظل سجنًا مفتوحًا، وستواصل السلطات الإسرائيلية ارتكاب جرائم الفصل العنصري والاضطهاد، وسيترتب عليها جولات مستقبلية من الأعمال العدائية.
وإلى أن يمارس المجتمع الدولي ضغوطًا كافية لدفع السلطات الإسرائيلية إلى التخلي عن سياستها التي طال أمدها لحصار فلسطينيي غزة وخنقهم وإخضاعهم، فإن هذه الحلقة المفرغة سوف تستمر.
المصدر: ميدل ايست اي