ترجمة وتحرير: نون بوست
أسفر اندلاع حريق مروّع في الكنيسة القبطية يوم الأحد في حي إمبابة بالقاهرة الكبرى عن مقتل 41 شخصًا من بينهم 18 طفلاً. وهذه أحدث حلقة في سلسلة من الكوارث التي حلت بالمصريين مؤخرًا. منذ كانون الثاني/ يناير 2021، شهدت مصر انهيار بعض المباني وحوادث قطارات ومجموعة متنوعة من المصائب الأخرى بوتيرة تثير الجزع راح ضحيتها العديد من القتلى والجرحى. وتعكس هذه الحوادث موجة الكوارث التي عانى منها المصريون في السنوات الأخيرة من حكم الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك التي كانت دائمًا نتاج بعض أشكال المخالفات الرسمية.
إذا كانت المصائب التي حدثت في أواخر عهد مبارك قد ساهمت في تفشي عدم الاستقرار في مصر، فهل يمكن لمآسي مماثلة كان من الممكن تفاديها أن يكون لها الأثر نفسه؟ بالتأكيد، وإذا كان عدم الاستقرار قد تسبب في الإطاحة بمبارك من السلطة، فهل يمكن أن يواجه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي المصير ذاته وللسبب ذاته؟ ربما، لكن من المحتمل ألا يحدث ذلك. قد يبدو هذا غريبا، لاسيما أن الكثير من المحللين غالبًا ما يعتقدون أن الحكام قد يجدون أنفسهم خارج السلطة عندما تهمين حالة عدم الاستقرار على الواقع السياسي. ولكن لا يبدو أن هذا هو الحال في مصر في هذه اللحظة.
على خلفية الكوارث التي من الممكن تجنبها بالكامل، يواجه المصريون – مثل العديد من سكان الدول ذات الدخل المتوسط والمنخفض في جميع أنحاء العالم – أزمة غذاء ناجمة عن قوى خارجة عن سيطرة حكومتهم. كما أنهم يكافحون أزمة مالية من صنع السيسي بالكامل. وعلى غرار ما اكتشفه أسلافه، من الصعب تحقيق الرخاء في مصر. فعدد الأشخاص الذين يدخلون القوى العاملة في البلاد كل عام هائل، وتشكل مجموعة متنوعة من التحديات الهيكلية – لا سيما البيروقراطية والجيش الذي يشدد قبضته على القطاع الخاص – عوائق أمام الاستثمار الأجنبي تعرقل النمو الاقتصادي على نطاق واسع وشامل.
في مواجهة هذا الواقع، اختار السيسي ومستشاروه خلق انطباع بالثراء المجتمعي المتنامي. أحدث السيسي استثمارات ضخمة في مجرى قناة السويس وأنظمة الأسلحة والمفاعل النووي، وبالطبع العاصمة الإدارية الجديدة لمصر. وتؤكد صور ما تم إنجازه وتكلفة هذه المشاريع الضخمة نطاق جهود السيسي لإقناع المصريين بأن مصر في حالة تطور ولا يزال بإمكانها إحراز تقدم عظيم.
لكن هذه المشاريع في الغالب أشبه بعملية احتيال. من المؤكد أن جسر تحيا مصر الجديد الذي يقع شمال وسط القاهرة مباشرة – وهو أوسع جسر معلق في العالم – جنبًا إلى جنب مع التقاطعات والجسور الجديدة التي ظهرت في مصر على مدار العقد الماضي، تعتبر تحسينات مهمة وإن كانت مثيرة للجدل في بعض الأحيان ويمكن أن تسهم في تطوير الاقتصاد، لكن مشاريع أخرى مضت قدمًا بقليل من الدراسة ودون أن يكون لها تبريرات اقتصادية.
بلغت تكلفة عائد الاستثمار فيما أشار إليه البعض خطأً باسم “قناة السويس الجديدة”، التي توسعت في الغالب ووسعت ممرًا جانبيًا بطول 21 ميلاً على طول القسم الشمالي من الممر المائي، 8.5 مليار دولار. كان من المفترض أن يساهم هذا التحسين في تسريع العبور عبر القناة وبالتالي زيادة الإيرادات لمصر لكن لا يزال من غير الواضح ما إذا كانت الإيرادات القياسية التي تجنيها هيئة قناة السويس بفضل هذا التوسيع أم بفضل الرسوم التي فرضتها السلطة في السنوات الأخيرة على السفن التي تمر من القناة وتمثل 12 في المئة من التجارة العالمية.
لا تحتاج مصر إلى مفاعل نووي لأنه لديها فائض من الكهرباء. وما السبب الذي يقف وراء بناء عاصمة جديدة كلفت حوالي 60 مليار دولار؟ مع أن القاهرة تعاني من فوضى الازدحام المروري وتدهور البنية التحتية، إلا أن المدينة الجديدة لم تُبن من أجل المصريين العاديين وإنما من المقرر أن تكون مجمعًا حصريًا لموظفي الحكومة وكبار المسؤولين والنخب الأخرى. بدلا من ذلك، كان من الحكمة تخصيص هذه الموارد لمعالجة أكثر مشاكل القاهرة إلحاحا. استنادا إلى احتياجات مصر الكبيرة، ينبغي أن تكون المدينة الجديدة من فئة الخدمات التي”سيكون من الرائع امتلاكها” بدلاً من أن تكون من فئة الخدمات التي “نحتاج إلى سرقة البنك للحصول عليها”.
ربما يخشى المصريون الاحتجاج الآن نظرًا إلى أن السجون المصرية تعج بالمعارضين السياسيين الحقيقيين والمُتصَوّرين للحكومة الذين يقال إنهم يتعرضون لظروف سجن مروعة.
وسرقة بنك هو الخيار الذي لجأ إليه السيسي. تعد الميزانية العمومية متدهورة لكون لمصر واحدة من أكثر البلدان المثقلة بالديون في العالم. تقترض الحكومة المصرية الأموال فقط لدفع الفائدة على ديونها الحالية. وقد أخبرني صديق من القاهرة مؤخرًا: “الجميع في القاهرة مهتمون حاليا بمتابعة بنك الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي. متى سيرفع أسعار الفائدة ومقداره. لهذا السبب أصبح الناس خائفين” – وخوفهم منطقي.
أخبرني محاور آخر أن “الشيء الوحيد الذي يبدو أن الناس يتحدثون عنه هذه الأيام هو ارتفاع الأسعار والجولة الثانية المفترضة لتخفيض قيمة العملة”. في سنة 2016، خفض البنك المركزي المصري قيمة العملة امتثالا لشروط صندوق النقد الدولي للحصول على قرض. ونتيجة لذلك، ارتفعت أسعار السلع والخدمات بين عشية وضحاها. ولا عجب أن المصريين باتوا يشعرون بالخوف من مزيد انخفاض قيمة العملة. ومن المرجح أن يكون تدهور الوضع المالي لمصر هو سبب استقالة رئيس البنك المركزي – أو إجباره على الاستقالة – يوم الأربعاء.
إنها فاتورة وجب سدادها. خلص بنك غولدمان ساكس مؤخرًا إلى أن الحكومة المصرية بحاجة إلى تمويل بقيمة 15 مليار دولار لتمويل عملياتها فقط. يشعر رعاة السيسي السعوديون والإماراتيون والقطريون في الخليج العربي بالقلق لأنهم التزموا بتقديم 22 مليار دولار على مدى الأشهر القليلة الماضية. ويزعم المسؤولون الحكوميون أن رقم بنك غولدمان مرتفع للغاية، لكنهم يعترفون بأن مصر ستسعى للحصول على قرض آخر من صندوق النقد الدولي بالإضافة إلى القرض الذي حصلت عليه في 2016 ودفعتين ماليتين في 2020.
من المرجح أن يساعد صندوق النقد الدولي مصر في برنامج سهل إلى حد ما – حيث يُنظر إلى مصر على أنها أكبر من أن تفشل – لكن هذه المساعدة لن تكون بدون شروط أو تكلفة. هذا هو المكان الذي قد تتقاطع فيه حاجة السيسي السياسية مع الواقع الموضوعي لخلق انطباع بالازدهار: بعبارة أخرى لم يف السيسي بوعده، وبدلاً من ذلك استنزف اقتصاد البلاد دون إصلاحه.
إن المصريين الذين ليس لديهم رأي في كيفية إنفاق قادتهم لثروة بلادهم سوف يتحملون أزمة إضافية مطلوبة لتنظيف الميزانية العمومية لمصر. من المحتمل أن يستلزم ذلك مجموعة من السياسات غير المرغوبة بما في ذلك تخفيض قيمة العملة بالإضافة إلى خصخصة الشركات المملوكة للدولة – وهي مصادر الوظائف التي قد تختفي – من قِبل مالكيها الجدد، وفرض رسوم أعلى لكل شيء ونقص في كل شيء آخر.
إلى أي مدى يستطيع المصريون التحمل؟ لا أحد يعلم. منذ أكثر من عقد من الزمان، اعتقد العديد من الأشخاص الذين حصلوا على أجر مقابل معرفة الإجابة على هذا السؤال أن المصريين سيكونون على استعداد لتحمل الكثير – حتى 25 كانون الثاني/ يناير 2011، عندما أوضح المصريون أنهم ليسوا كذلك وقاموا بثورة. يبدو من المعقول أن الضغط الاقتصادي الإضافي سوف يدفع الناس مرة أخرى إلى أقصى حدودهم ويدفعهم للنزول إلى الشوارع. انظر حولك: يبدو أن هذا يحدث بالفعل في جميع أنحاء العالم، بما في ذلك في سريلانكا والإكوادور والهند وإيران وكازاخستان ودول أخرى.
إن قادة مصر يدركون الخطر. عندما التقى السيسي بالرئيس الأمريكي جو بايدن على هامش اجتماع مجلس التعاون الخليجي وبحضور مصر والأردن والعراق في تموز/ يوليو، كان الزعيم المصري مهتمًا في الغالب بأسعار المواد الغذائية.
ربما يخشى المصريون الاحتجاج الآن نظرًا إلى أن السجون المصرية تعج بالمعارضين السياسيين الحقيقيين والمُتصَوّرين للحكومة الذين يقال إنهم يتعرضون لظروف سجن مروعة. لكن القدرة القمعية للدولة المصرية ليست ضمانة ضد الحشد الشعبي – وهو ما حدث في سنة 2011. وفي الواقع، كان لمبارك ميزة لا يتمتع بها السيسي وهي وجود حزب سياسي يلقي باللوم عليه، حيث ركز الغضب على الطريقة التي استطاع بها مبارك استخدام الحزب الوطني الديمقراطي.
بمرور الوقت، وربما قريبًا، سيكون هناك حد لمقدار المساعدة التي يمكن أن تقدمها الدول الغنية لمصر نظرًا للأزمات اللامتناهية في جميع أنحاء العالم.
نتيجة لذلك، يفتقد السيسي للطبقة المدافعة عن النظام التي تمتع بها مبارك خلال جزء كبير من وحكمه الذي دام 30 عامًا. ويعني هذا أن أجهزة الأمن الداخلي المصرية يجب أن تتصرف بأقصى درجات الوحشية من أجل جعل خروج المواطنين عن الخط أمرًا مكلفًا للغاية. لكن الاعتماد المفرط على الإكراه ينطوي على مخاطر كبيرة، بما في ذلك إمكانية دفع الناس إلى ما بعد نقطة الخوف وتذكية شجاعتهم بما يكفي ليقولوا: “ليس لدينا ما نخسره، لم نعد خائفين”.
إذا أصبح عدم الاستقرار سمة أكثر بروزًا في السياسة والمجتمع المصري، فإنه من البديهي أيضًا أن حكم السيسي قد يكون في خطر. وغياب بدائل ذات مصداقية للرئيس المصري الحالي ينهي أي تهديد واضح لسلطته. وحتى في عهد مبارك، كان يمكن تصور وجود بدائل للرئيس، لكن هذا لم يعد ممكنًا الآن.
لم تُظهر مراكز القوى الرئيسية – الجيش وأجهزة المخابرات والقضاء وقيادة الشرطة – ميلًا كبيرًا للانفصال عن السيسي ومن المرجح أن تظل على هذا النحو حتى لو وجد المصريون بشكل جماعي طرقًا للتعبير عن مظالمهم. فما الفائدة من استبدال ضابط واحد بالجيش؟ لكن بالطبع إذا كان السيسي يعرض التماسك الاجتماعي في البلاد للخطر فستكون هذه قصة مختلفة؛ حيث أن هذا خط أحمر تجاوزه كل من مبارك وخليفته محمد مرسي ما دفع القيادة العسكرية العليا إلى عزلهما.
إن الفجوة بين دوام حكم السيسي والظروف السياسية في البلاد مهمة، حيث يقف زعيم محصّن على قمة بلد يقترب من الزوال – دعنا نسمي ذلك عدم الاستقرار الاستبدادي. تكمن المشكلة في أنه بينما يواصل السيسي الإنفاق على مشاريع ذات قيمة مشكوك فيها للبلاد، يقع العبء الأكبر على عاتق المصريين مما يزيد من تدهور الظروف المزرية التي يضطر الكثيرون للعيش فيها.
بمرور الوقت، وربما قريبًا، سيكون هناك حد لمقدار المساعدة التي يمكن أن تقدمها الدول الغنية لمصر نظرًا للأزمات اللامتناهية في جميع أنحاء العالم. وسيكون هذا سيئًا أولاً وقبل على شيء للمصريين، ولكن يمكن أن يكون له أيضًا تأثير سلبي على الاستقرار في شمال إفريقيا والمشرق العربي وحتى أوروبا.
أفضل ما يمكن أن يفعله السعوديون والإماراتيون والقطريون والأمريكيون ومسؤولو صندوق النقد الدولي هو مقاومة فكرة أن مصر “أكبر من أن تفشل”. قد يكون هذا صحيحًا، إلا أن إنقاذ السيسي بأموال مجانية وشروط سهلة من قبل صندوق النقد الدولي لن يؤدي إلا إلى إطالة أزمة مصر. وإنه لمن الحماقة الاستمرار في تمويل مدينة أحلامه وشطحات خياله الأخرى. والقيام بخلاف ذلك يعد طلبًا للمتاعب.
المصدر: فورين بوليسي