بعد انتهاء جولة العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، في مايو/ أيار 2021، بدأت الحكومة الإسرائيلية الإعلان عن جملة تسهيلات اقتصادية نوعية جديدة تقدّمها لسكان قطاع غزة المحاصر، في ظاهرها بادرة إنسانية، لكن في حقيقتها هناك مآرب سياسية للضغط على حركة حماس التي تدير قطاع غزة، لتوفير المزيد من الهدوء.
ومن ضمن رزمة الامتيازات الاقتصادية التي قدمتها “إسرائيل”، ضمن سياستها أحادية الجانب لتسهيل حياة الغزيين، الحصول على تصاريح عمل في الأراضي المحتلة، بالإضافة إلى إدخال بعض اللوازم الأساسية التي كانت ممنوعة في السابق، عدا عن زيادة مساحة الصيد أمام الغزيين الصيادين في البحر المتوسط للتخفيف عنهم، ومنح العشرات من الغزيين تصاريح زيارة ولمّ شمل لذويهم في الضفة والقدس المحتلتَين، وذلك بعد حرمان لأكثر من 15 عامًا.
ومجددًا، بعد التصعيد الأخير على قطاع غزة الذي وقع خلال الشهر الجاري فترة 5-7 أغسطس/ آب، ذكرت الحكومة الإسرائيلية أنها تدرس السماح للمئات من نساء غزة العمل داخل الأراضي المحتلة، الخبر الذي تداوله الغزيين ما بين مؤيد ومعارض وحتى متهكّم، رغم أن المرأة الغزية عملت في العقود الماضية هناك، خاصة في مجال الزراعة.
وردّت وزارة العمل في غزة على الإعلان الأخير بالقول: “عادة الاحتلال يكون له أخبار متضاربة مقصودة لإثارة البلبلة واستكشاف الآراء فيما يتعلق بتصاريح العمل، وموضوع تشغيل النساء فقاعة إعلامية”.
ولم تأتِ تلك التسهيلات الاقتصادية بشكل عفوي، حيث إن رئيس الحكومة الحالي، يائير لابيد، ووزير جيش الاحتلال، بيني غانتس، قاما بتبنّي مخطط “السلام الاقتصادي”، بمعنى تقديم تسهيلات اقتصادية لغزة مقابل الهدوء وتحويل قضية الشعب الفلسطيني من قضية سياسية إلى احتياجات اجتماعية خدماتية.
يُذكر أن سياسة “السلام الاقتصادي” قامت حكومة الاحتلال بتبنّيها منذ عام 2006 بعد هزيمتها في لبنان، كمحاولة للبحث عن صورة نصر، فتوجّهت إلى غزة بهذا المخطط، ونجحت أكثر من مرة وفشلت مرات أخرى.
كيف تستفيد “إسرائيل” من الأيادي الفلسطينية؟
منذ احتلال “إسرائيل” للضفة المحتلة وقطاع غزة عام 1967، سهّلت دخول العمال الفلسطينيين إليها بهدف سدّ عجز قطاعاتها الاقتصادية، حين كانت تمرّ بطفرة صناعية جعلتها في حاجة إلى أيدٍ عاملة.
وبالتزامن مع تدمير القطاعات الإنتاجية، استوعبت “إسرائيل” العمالة الفلسطينية في أسواقها من خلال برنامج استخدامٍ رسمي أُطلق عام 1968، وأدّى إلى تفريغ الأراضي الفلسطينية المحتلة من الأيدي العاملة لصالح “إسرائيل”.
اعتمد البرنامج أساسًا على رفع أجور العمال الفلسطينيين في “إسرائيل”، بالمقارنة مع واقع الأجور في الضفة الغربية وقطاع غزة، بنسبة تقارب 80%، وترافق ذلك مع رفع القيود الأمنية عن انتقال العمالة الفلسطينية إلى الأسواق الإسرائيلية، ما أدّى إلى خفض نسبة البطالة من 15% إلى 2% حتى عام 1990.
ووفقًا لإحصاءات دائرة الإحصاء المركزية الفلسطينية، ازداد واقع تدفق العمال الفلسطينيين إلى “إسرائيل”، من حوالي 20 ألف عامل عام 1970 إلى نحو 66 ألف عامل حتى عام 1975، ليصل ذروته بين العامَين 1978 و1992 بنحو 116 ألف عامل.
وجدت دولة الاحتلال في اليد العاملة الفلسطينية عدة خصائص، تخدم بناء اقتصادها وترفع ناتجها القومي بما لا ينافس العمال والمستخدمين الإسرائيليين، ومن أهمها أنها تشتغل بنظام المياومة، فغالبية العمال يعودون بيوتهم يوميًّا، دون أن يشكّلوا عبئًا اقتصاديًّا على “إسرائيل”، ولا يتطلبون أي استثمار في توفير المساكن لهم.
بالإضافة إلى تدنّي رواتب العمال الفلسطينيين بالمقارنة مع الإسرائيليين أو العمال القادمين من الدول الأخرى، والخاصية الأهم أن العامل الفلسطيني يصرف أمواله ضمن الدورة الاقتصادية الإسرائيلية بشكل مباشر وغير مباشر، أما مجالات العمل التي انخرط فيها العامل الفلسطيني هي مجال البناء، ويعدّ من أكثر المجالات استقطابًا، ثم الزراعة وقطاع الصناعة والخدمات.
كما يتعرّض العامل الفلسطيني إلى انتهاكات ومخاطر متعددة، أهمها: الاستغلال في الأجر من قبل السماسرة ومقاولي العمل، وساعات العمل الطويلة، والضغط النفسي والإساءة الدائمة، والعمل في المهن الشاقة والخطرة، وطرد العمال، خاصة بعد تعرّضهم لإصابات أثناء العمل، وفي بعض الأحيان لا يُدفع لهم بدل أيام الغياب الناتجة عن الإصابة.
تسهيلات اقتصادية خشية الانفجار
في الوقت الذي تتحايل فيه “إسرائيل” بتصريحاتها عبر وسائل الإعلام الدولية، وتعلن عن التخفيف من وطأة الحصار والفقر عن قطاع غزة، إلا أنها فعليًّا وعلى أرض الواقع تتنصّل كعادتها من وعودها، فبعد الاتفاق على إصدار تصريح لـ 30 ألف عامل من غزة، كان العدد الحقيقي لا يصل إلى 12 ألفًا، وتسير الإجراءات بوتيرة بطيئة جدًّا.
أحد العمال الذين كان لهم نصيب الحصول على تصريح عمل، أبو أحمد منصور (54 عامًا)، عاد للعمل في الأراضي المحتلة بعد حوالي 17 عامًا، ويحكي عن تجربته الجديدة بعد انقطاع طويل، حيث كل شيء اختلف عن السابق، فهو منذ كان في الـ 15 من عمره يعمل في “الكابوتس” (تجمع يهودي) في مهنة النجارة، وكان له حقوق واحترام من قبل “صاحب العمل”.
ويوضّح لـ”نون بوست” الفرق اليوم أنه لا يوجد تأمين له حال تعرض للإصابة، وبأي لحظة قد يطرده “المعلم”، بالإضافة إلى أن الأجر الذي يتقاضاه، رغم أنه ضعف السابق، إلا أنه لا يكفي ويضطر للمبيت قرب مكان عمله ويعود إلى عائلته في مدينة غزة كل شهر.
وعن سبب تغيُّبه الطويل عن عائلته، يقول: “أحاول توفير المواصلات التي تصل في اليوم الواحد 50 شيكلًا (15 دولارًا أمريكيًّا)، ومع ذلك غلاء المعيشة في الأراضي المحتلة مهلك (..) أعتمد على المعلبات في طعامي، حيث لو فكرت في تناوله من المطعم سيفوق سعر الفاتورة ما أتقاضاه يوميًّا”.
ما يعيشه العامل الخمسيني يتشابه كثيرًا مع بقية العمال، فهو رغم تقدمه في السن اضطر للعودة إلى العمل، بعدما بقيَ يعتمد طيلة السنوات على المساعدات الإغاثية التي تقدمها الجمعيات الخيرية، لذا قرر العودة لتأمين عائلته وشراء بيت بدلًا من الإيجار، وإكمال الدراسة الجامعية لأولاده.
وفي السياق ذاته، يقول حسن عبده، المختص في الشأن الإسرائيلي، إن “إسرائيل” في ظل الحكومة المؤقتة التي يقودها يائير لابيد وبيني غانتس، لديها مشروع اقتصادي تمَّ الحديث عنه مرارًا، مشيرًا إلى أنهما لا يتحدثا عن أي بُعد سياسي للقضية الفلسطينية فقط، والاهتمام يصبّ في الناحية الإنسانية لتحقيق مآرب أخرى، وهذا ما يرفضه الشعب.
واعتبر عبده أن الحديث عن تسهيلات اقتصادية يعدّ مفاهيم مضللة، موضّحًا أن الحقوق الفلسطينية مسلوبة في الأساس، والحصار على قطاع غزة منذ حوالي 16 عامًا لا بدَّ أن يذوب دون أي شروط.
رغم تحسُّن الوضع المادي للعامل الغزي خلال شهور قليلة من عمله داخل الأراضي المحتلة، بعد سنوات من البطالة والفقر المدقع، إلا أن حياته لا تزال مرهونة بقرارات الاحتلال.
وذكر لـ”نون بوست” أن الاحتلال يبتزّ الفلسطينيين، خاصة من يعيشون في قطاع غزة، وبالتالي يستخدم سلاح العصا والجزرة لترويضهم، حيث يضع شروطًا لتحسين حالتهم الاقتصادية عبر فتح باب العمل، بفعل زيادة البطالة والفقر التي ستؤدي إلى انفجار كبير سيؤثر على جبهته الداخلية.
وأكّد أن الحديث عن رغد الحياة وتحسُّنها في غزة هو حديث مضلِّل، تريد “إسرائيل” فقط أن تبقى رؤوس الغزيين فوق الماء -بالكاد يعيشون- خوفًا من انفجار القطاع مجددًا، وهذا هو الهدف المركزي من محاولات إيجاد فرص عمل داخل فلسطين المحتلة.
وفيما يتعلق بتصريحات الاحتلال الأخيرة بتوفير فرص عمل للغزيات، يرى المختص في الشأن الإسرائيلي أن ذلك يأتي في سياق محاولة وصوله إلى شريحة واسعة من الأسر الغزية للعمل في المجال الزراعي بما يتناسب مع طبيعة المرأة، مؤكدًا أن ذلك يأتي شكلًا من أشكال الخديعة.
قبل فرض الحصار على قطاع غزة، مُنع العمال من دخول فلسطين المحتلة، وقبلها كان الوضع عاديًا، لكن اليوم غالبية من يحصلون على تصاريح يخفون الأمر خشية اتّهامهم بعدم الوطنية، وهنا يفسّر عبده ذلك بالقول: “قبل عقود كان في غزة احتلال مباشر، ولا توجد فرص عمل، وبالتالي كان يُسمح بدخول العمال إلى الأراضي المحتلة للعمل فيها بمجالات مختلفة”، متابعًا: “بعد الانسحاب الإسرائيلي من غزة في أغسطس/ آب 2005، تنامى شعور وطني للغزيين، باعتبار أن الحالة الموجودة في غزة تشكّل قطيعة مع الاحتلال، والعودة للعمل يعيد ربطها معه”.
ورغم تحسُّن الوضع المادي للعامل الغزي خلال شهور قليلة من عمله داخل الأراضي المحتلة، بعد سنوات من البطالة والفقر المدقع، إلا أن حياته لا تزال مرهونة بقرارات الاحتلال الذي يتلاعب بها، فبأي لحظة يمكن التراجع وإغلاق معبر “إيرز” في وجهه، ما يشدد الخناق عليه من جديد.