تخيل أن بلدك في حالة حرب، وكنت ناج من جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وأردت خوض مسار نحو العدالة ينصفك وبقية الضحايا، وتأكد لك هوية الجناة وأردت الاقتصاص منهم عن طريق جهة دولية مستقلة مختصة، على غرار محكمة الجنايات الدولية، ماذا سيحدث لك بعد ذلك؟ هل يمكنك المضي قدمًا لمواجهة هذه الجريمة؟
في الواقع، يتوقف الأمر على ما إذا كانت بلدك عضوًا في المحكمة الجنائية الدولية أم لا، أو إذا قبلت دولتك غير العضو بإجراء تلك المحاكمة في المحكمة الجنائية.
الخطوة الأولى نحو العدالة
تتعدد أهوال القرن العشرين، فقد حدثت أعمال عنف جماعية في العديد من البلدان وفي مناسبات عديدة يصعب حصرها وفهمها، وفقًا لبعض التقديرات، تعرض ما يقرب من 170 مليون مدني للإبادة الجماعية وجرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية خلال القرن الماضي.
دفعت الحروب العالمية المجتمع الدولي إلى التعهد بأن هذا “لن يحدث مرة أخرى أبدًا”، لكن الأفعال المروعة التي ارتكبها النازيون لم تكن حوادث منعزلة، قُتل مئات الآلاف، وفي بعض الحالات ملايين الأشخاص في أماكن مختلفة من العالم في النصف الثاني من القرن الماضي، لكن الأمر الأكثر حزنًا هو أن المجتمع الدولي شهد هذه المجازر بشكل سلبي، ووقف مكتوف الأيدي.
ليس من المستغرب إذن أن تمتنع الكثير من الدول عن التصديق على الاتفاق أو تنسحب من التوقيع على قانون المحكمة – كما فعلت أمريكا و”إسرائيل” – خوفًا من فتح الباب على مصراعيه أمام رياح الملاحقة القانونية والقضائية لها ولمواطنيها
أدَّت الإبادة الجماعية في رواندا خلال عام 1994 في وقت لاحق إلى طرح فكرة إنشاء محكمة جنائية دولية، التي تشكل اختراقًا كبيرًا في القانون الجنائي الدولي، لكنها كانت مثالًا مأساويًا آخر على الطريقة التي اختار بها المجتمع الدولي غض الطرف عن الأعمال المتطرفة.
على الرغم من المعلومات الدقيقة والموثوقة بشأن ما كان على وشك الحدوث في رواندا، لم تتدخل الأمم المتحدة والدول الأعضاء فيها لمنع الكارثة، ولم يتدخل المجتمع الدولي حتى عندما كانت الإبادة الجماعية جارية، وكانت النتيجة أنه في غضون 100 يوم، قتل أفراد من قبيلة الهوتو الحاكمة نحو 800 ألف من أفراد قبيلة التوتسي في عمليات إعدام جماعية.
وفي ظل غياب آليات إنفاذ ذات مصداقية، استمرت انتهاكات القانون الإنساني الدولي مع إفلات صارخ من العقاب، واستجابة لذلك، قرر المجتمع الدولي اتخاذ إجراءات مشتركة من خلال إنشاء نظام مترابط للعدالة الدولية لمنع الإفلات من العقاب على أسوأ الفظائع التي عرفتها البشرية.
في صيف عام 1998، اجتمع المجتمع الدولي في روما لحضور مؤتمر دبلوماسي كبير برعاية الأمم المتحدة، وبموجب معاهدة دولية عُرفت بـ”نظام روما الأساسي”، تم التفاوض على قانون لإنشاء ما يمكن أن يكون إحدى المؤسسات الأكثر أهمية: محكمة جنائية دولية ذات اختصاص قضائي واسع لمحاكمة الجناة الذين يُشتبه في ارتكابهم أخطر الجرائم في العالم.
في نهاية المؤتمر، اعتمدت الدول الأعضاء النظام الأساسي لهذه الهيئة القضائية العليا الدائمة غير المسبوقة للعدالة الجنائية بأغلبية كبيرة من الدول، وصوتت 120 دولة لصالح قرار إنشاء المحكمة، وصوتت 7 ضده، وامتنعت 21 دولة عن التصويت، لكن هذا التصويت لم يكن كافيًا لانضمام الدولة الفعلي، إذ يلزم مصادقة المجلس التشريعي للدولة حتى يصبح ساري المفعول.
رغم الدعم العالمي الساحق، صوتت القوى العسكرية العظمى في العالم ضد المحكمة الجنائية الدولية، وانضمت الولايات المتحدة في معارضتها لتبني القانون إلى مجموعة غريبة من الحلفاء، وأثارت حججًا مستمرة ضد المحكمة ونظامها الأساسي، على الرغم من أن الأحكام الموضوعية للاتفاقية تمثل تنازلات كبيرة لمخاوف الولايات المتحدة التي تم التعبير عنها قبل وفي أثناء المفاوضات.
دخلت المعاهدة التي أصبحت سارية المفعول عند التصديق عليها من 60 دولة حيز التنفيذ عام 2002، ووصل عدد الدول الأطراف 124 دولة حتى عام 2016، وسط غياب شبه تام لانضمام أي دولة عربية إلى إطار تلك المحكمة باستثناء الأردن وجزر القمر وتونس وجيبوتي وفلسطين، بل امتنعت بعض الدول – مثل قطر والسعودية والعراق ولبنان وليبيا – عن مجرد التوقيع على المعاهدة.
وتنص المعاهدة على أنه يجوز للمحكمة الجنائية الدولية، بوصفها “محكمة الملاذ الأخير”، التحقيق مع الأفراد موضع الاتهام وملاحقتهم ومحاكمتهم بأربعة أنواع من الجرائم وهي: جرائم الحرب والإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجريمة العدوان.
رغم كل شيء، كانت تلك صلاحيات محدودة، حيث لا يجوز للمحكمة الجنائية الدولية الشروع في إجراءات الملاحقة والتحقيق والمحاكمة عندما تكون الدولة غير راغبة أو غير قادرة على اتخاذ مثل هذه الإجراءات ضد مواطنيها أو أي شخص آخر على أراضيها.
بالإضافة إلى ذلك، رغم أن المحكمة الجنائية الدولية مخوَّلة ببدء التحقيقات في أي مكان، فإنها قد تحاكِم فقط مواطني الدول التي صادقت على المعاهدة أو المقيمين فيها، ما لم يُسمح لها بالتحقيق من الدولة التي وقعت فيها الجرائم.
ليس من المستغرب إذن أن تمتنع الكثير من الدول عن التصديق على الاتفاق أو تنسحب من التوقيع على قانون المحكمة – كما فعلت أمريكا و”إسرائيل” – خوفًا من فتح الباب على مصراعيه أمام رياح الملاحقة القانونية والقضائية لها ولمواطنيها، رغم أن المحكمة ذكرت في أحد بنودها أنها “لن تنظر إلا في الجرائم التي ارتكبت بعد إنشائها”، وهذا يعني، أن ما حدث قبل ذلك، والتاريخ مليء بالتجاوزات، يخرج عن نطاق اختصاصها.
جهود منقوصة
أسفر إنشاء محكمة دولية دائمة للتعامل مع الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان بالفعل عن بعض النتائج المهمة، اعتبارًا من نوفمبر/تشرين الثاني 2012، كانت المحكمة الجنائية الدولية تنظر في 14 قضية جنائية في سبع دول، تضم ما مجموعه 23 مشتبهًا أو متهمًا، ووصل عدد القضايا لاحقًا إلى 31 قضية، وأصدر قضاة المحكمة الجنائية الدولية 38 مذكرة اعتقال.
بحسب وصف مجلة “الإيكونومست”، مثَّلت جهود المحكمة الجنائية بداية نهاية الإفلات من العقاب بالنسبة للمجرمين الذين كانوا في يوم من الأيام “جبابرة العالم”، خاصة في القارة الإفريقية، ففي سجلها 4 قضايا، وأول من مثل أمامها كان توماس لوبانغا زعيم إحدى الميليشيات المسلحة الذي أُدين باستخدام الأطفال المجندين في جمهورية الكونغو الديمقراطية في الأعمال العدائية.
وأحرز نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية إنجازات خاصة في مكافحة الإفلات من العقاب فيما يتعلق بجرائم النوع الاجتماعي، ففي عام 2020، بدأت المحكمة الجنائية الدولية محاكمة المتشدد الحسن أغ محمود الذي يُزعم أنه أجبر مئات النساء على الاسترقاق الجنسي في مالي، وفي أبريل/نيسان الماضي، بدأت المحكمة الجنائية الدولية محاكمة زعيم ميليشيا يُعرف باسم علي قشيب متهم بـ31 تهمة بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في دارفور بالسودان.
بينما يترك الجيش الروسي أثرًا من الفظائع في أوكرانيا، قدمت محاكمة مسؤول إيراني سابق في السويد متهم بتسهيل القتل الجماعي للسجناء السياسيين في أواخر الثمانينيات في معظم فترات حكم آية الله روح الله الخميني، نموذجًا قويًا لمحاكمة جرائم الحرب، واُعتبرت مثالًا جاء في الوقت المناسب، استنادًا إلى مبدأ الولاية القضائية العالمية، حيث يجوز للمحاكم الوطنية في أي دولة تبنت هذا المبدأ ملاحقة ومقاضاة أي شخص مشتبه بارتكابه جرائم خطيرة، بغض النظر عن مكان حدوثها وجنسية المشتبه به والضحية.
في حين ترحب دول مثل الولايات المتحدة بمحاكمة الآخرين في لاهاي وتؤيد مذكرات الاعتقال بحق متهمين بجرائم حرب، يختلف الأمر تمامًا عندما تُستخدم مصطحات “ربما وقد ومزعومة” في تقرير يخصها
على الرغم من هذا التقدم الذي حققته والإشادة بدورها المحوري في منع الفظائع ومكافحة الإفلات من العقاب ودعم حقوق الضحايا وضمان العدالة طويلة الأمد، تواجه المحكمة الجنائية الدولية بعض المشاكل الخطيرة، فبسبب افتقارها إلى القوة الأمنية والشُرطية، فإنها تضطر إلى الاعتماد على الحكومات الوطنية التي لا يلتزم بعضها بالعدالة، للقبض على المجرمين المشتبه بهم وترحيلهم.
تبدو المشكلة أكثر وضوحًا عندما يكون المشتبه به مواطنًا أو حتى رئيس دولة أو مسؤول كبير في الدولة حيث يمكن مقاضاته، لكن الكثير من الدول لا ترغب بالطبع في مقاضاة أفرادها، ففي حين ترحب دول مثل الولايات المتحدة بمحاكمة الآخرين في لاهاي وتؤيد مذكرات الاعتقال بحق متهمين بجرائم حرب، يختلف الأمر تمامًا عندما تُستخدم مصطحات “ربما وقد ومزعومة” في تقرير يخصها، وتذكِّر بأنها لم تكن يومًا من أعضاء المحكمة.
يُضاف إلى ذلك عدم الثقة في المحاكم المحلية في مقاضاة رعاياها بشكل حيادي على الجرائم التي ارتكبوها في الخارج، أوضح مثال على ذلك المحاكمات التي جرت بعد الحرب العالمية الأولى أمام المحكمة العليا لألمانيا في لايبزيغ، حيث أرسل الحلفاء قائمة بـ896 من مجرمي الحرب الألمان المشتبه بهم إلى ألمانيا، ما أدى إلى ما لا يزيد على 19 محاكمة و6 إدانات بأحكام أولية من 6 أشهر إلى 4 سنوات في السجن، امتنعت الدول الأخرى عمومًا عن التدخل عند حدوث انتهاكات.
انسحبت الحكومات أيضًا من حين لآخر من المحكمة الجنائية الدولية، عندما غضبت، كما فعلت الفلبين بعد أن خضع رئيسها، رودريغو دوتيرتي، للتحقيق في حرب المخدرات التي شنتها حكومته، وأودت بحياة آلاف في جرائم قتل ترقى إلى جرائم ضد الإنسانية، مؤكدًا عدم التعاون مع المحكمة التي لا تعترف بها بلاده منذ انسحابها عام 2019 من معاهدة روما، ووصل الأمر حد التهديد باعتقال المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية السابقة فاتو بنسودة.
يبدو أن طلبات الطلاق من المحكمة الدولية في ازدياد، وكلٌ يبحث بالنأي عنها بأي شكل من الأشكال، فقد بدأت الحلقات الأولى من مسلسل الطلاق مع الدول الإفريقية التي اُتهم وحوكم بعض قادتها بارتكاب جرائم حرب، واتهمت بعض دول القارة، ومنها جنوب إفريقيا، المحكمة بأنها لا تحاكم إلا الأفارقة.
المشكلة الأكثر خطورة للمحكمة الجنائية الدولية هي أن 70 دولة، بما في ذلك القوى العسكرية الكبرى في العالم، رفضت أن تصبح أطرافًا في المعاهدة، فلم توقع حكومات الصين والهند والمملكة العربية السعودية على نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، فالحكومات التي تأوي مجرمي الحرب الحاليين والمستقبليين تفضل عدم مواجهة التحقيقات والمحاكمات المحتملة.
الدافع وراء هذه المعوقات واضح بما فيه الكفاية، ففي عام 2014، أمر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بانسحاب بلاده من عملية الانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية، وجاء هذا الإجراء ردًا على حكم المحكمة الجنائية الدولية بأن روسيا وأوكرانيا متورطتان في نزاع مسلح، وأن القرم أرض محتلة.
تضح التحديات التي تواجه المحكمة الجنائية أكثر في تقلبات حكومة الولايات المتحدة تجاهها، حتى أثناء توقيع الرئيس بيل كلينتون على المعاهدة، أشار إلى “مخاوف بشأن عيوب كبيرة” فيها، لا سيما عدم القدرة على “حماية المسؤولين الأمريكيين الذين شاركوا في معارك حربية وارتكبوا جرائم تُصنف كجرائم ضد الإنسانية”، وبالتالي، لم يقدم المعاهدة إلى مجلس الشيوخ للتصديق عليها، وأوصى خليفته، جورج دبليو بوش، بمواصلة هذه السياسة “حتى يتم إرضاء مخاوف بلاده الأساسية”.
بوش، بدوره، لم يوقع على “اتفاق روما” بدعوات من الكونغرس الأمريكي في عام 2002، وفي المقابل، ضغط على الحكومات الأخرى لإبرام اتفاقيات ثنائية تلزمها برفض تسليم الرعايا الأمريكيين إلى المحكمة الجنائية الدولية، ووقع على قانون حماية العسكريين الأمريكيين (يسمى أحيانًا “قانون غزو لاهاي”) الذي أذن باستخدام القوة العسكرية لتحرير أي أمريكي محتجز لدى المحكمة الجنائية الدولية.
على الرغم من أن إدارتي بوش وأوباما حققت لاحقًا تعاونًا أكبر مع المحكمة، ما ساعدها في محاكمة أمراء الحرب الأفارقة، فإن إدارة ترامب تبنت الموقف الأكثر عدائية تجاهها حتى الآن، ففي سبتمبر/أيلول 2018، أخبر دونالد ترامب الجمعية العامة للأمم المتحدة أن الولايات المتحدة لن تقدم “أي دعم” للمحكمة الجنائية الدولية، التي “ليس لها ولاية قضائية ولا شرعية ولا سلطة”.
في عام 2020، فرضت إدارة ترامب عقوبات اقتصادية وقيودًا على تأشيرات كبار مسؤولي المحكمة الجنائية الدولية لأي جهود للتحقيق في تصرفات الأفراد الأمريكيين في أفغانستان، وهو القرار الذي أعقب تقرير المحكمة الجنائية المصنَّف ضمن الأبحاث التمهيدية، الذي ورد فيه أنه يُرجَّح أن تكون القوات الأمريكية ربما ارتكبت جرائم حرب في أفغانستان بين عامي 2003 و2004.
بالطبع، نفت واشنطن ما ورد في التقرير، ووصفته الخارجية الأمريكية بأنه “لا مبرر له”، وأوضحت المتحدثة باسم الخارجية أن الولايات المتحدة تملك نظام مساءلة خاص بها، ولا تخضع لاختصاص المحكمة الجنائية الدولية.
لكن في ظل إدارة بايدن، عادت السياسة الأمريكية نحو الدعم، فبعد فترة وجيزة من توليه منصبه، قام بايدن – تماشيًا مع نهجه الأكثر ترحيبًا بالمؤسسات الدولية – بإلغاء عقوبات ترامب ضد مسؤولي المحكمة الجنائية الدولية، وفي مارس/آذار 2022، عندما أدَّى الغزو الروسي لأوكرانيا إلى ارتكاب فظائع على نطاق واسع في بلدة بوتشا الأوكرانية، وصف الرئيس الأمريكي نظيره الروسي بأنه “مجرم حرب”، ودعا إلى محاكمته.
قبل أسابيع من ذلك، فتحت المحكمة الجنائية الدولية تحقيقًا في تصرفات روسيا في أوكرانيا، وأصدر مجلس الشيوخ الأمريكي بالإجماع قرارًا يدعم التحقيق في جرائم الحرب الروسية في أوكرانيا، ويثني على المحكمة الجنائية الدولية باعتبارها المؤسسة المخوَّلة بالعمل.
زعم المسؤولون الروس أن هذه الفظائع المعترف بها على نطاق واسع كانت “وهمية”، وفي بوتشا، صرَّحت وزارة الدفاع الروسية بأنه “لم يتعرض أي مواطن محلي لأي عمل عنيف”، لذلك ليس من المستغرب أن السلطات الروسية رفضت التعاون مع تحقيق المحكمة الجنائية الدولية.
آفة الإفلات من العقاب
بخلاف الاتهامات الموجهة لروسيا بارتكاب جرائم حرب في أوكرانيا، شهد العالم في الفترة الأخيرة موجة انتهاكات متكررة للحقوق نتيجة الصراعات المسلحة كما في سوريا واليمن، وموجة انتهاكات أخرى بسبب قمع النظم الشمولية التي لا تريد سماع صوت إلا صوتها يتردد، كما في مسلمي الروهينغا والإيغور، حيث قُمعت الحريات، واُنتهكت الحقوق، وغابت المساءلة لمن أجرم في حق الإنسانية، لتكون النتيجة أنه في كل حالة في التاريخ تقريبًا، أفلت ديكتاتور أو رئيس دولة أو قائد عسكري مسؤول عن تنفيذ هذه الفظائع من العقاب والعدالة وحتى اللوم.
لو كان لظاهرة الإفلات من العقاب أن تتخذ شكلًا لها فسيكون ممحاة، تأتي في لحظات على جرائم الحرب الإسرائيلية في غزة فتطمسها، أو تزيل في لحظات ترسانة الأدلة التي أثبتتها التحقيقات في اغتيال الصحفية شيرين أبوعاقلة، وأكدتها جغرافية المكان وموقع شيرين وتضارب روايات الاحتلال.
وفقًا للأمم المتحدة، يحدث الإفلات من العقاب عندما تفشل الدول في الوفاء بالتزاماتها بالتحقيق في انتهاكات حقوق الإنسان ولا تتخذ الخطوات المناسبة لضمان محاكمة المشتبه بهم ومعاقبتهم، وتتجاهل تقديم المشتبه في ارتكابهم انتهاكات حقوق الإنسان إلى العدالة.
تبدو هنا قضية اغتيال خاشقجي المثال الأبلغ لظاهرة الإفلات من العقاب، فقد اعترفت السعودية بوقوع جريمة لكنها تحفظت على الجثة، ورفضت أي تحقيق مستقل في الجريمة وطعنت في التحقيقات التركية، ونظمت محاكمات لمتورطين أجمعت الأدلة على أنهم نفذوا أوامر عليا، ثم دفعت لشراء الصمت، وراهنت على الوقت.
عندما تمتنع القوى العسكرية الكبرى مثل روسيا والصين والولايات المتحدة عن المشاركة في المحكمة الجنائية الدولية، فإنها تسمح لمجرمي الحرب بفعل ما يحلو لهم
في مصر أيضًا، وضعت السلطات سيناريو شبيهًا بأفلام هوليوود أو علها أشبه بلغة استخبارات الأنظمة الديكتاتورية وأحد أدواتها لإنهاء ملفات شائكة، لتبرير مقتل الباحث الإيطالي جوليو ريجيني، وراهنت بدورها على الوقت.
القائمة طويلة لانتهاكات وفظائع لا يملك المتورطون فيها مثل هذه الممحاة، فاضطروا للتنظيم المحكم والممنهج لمسألة إفلاتهم من المساءلة والعقاب، وهو ليس بالأمر الهين، فالجهود تنصب على كيفية تعطيل القانون الإنساني الدولي والقرارت الأممية المنبثقة منه، ووضعت الأسس والآليات التي تضمن حق الضحايا وذويهم في العدالة والتعويض وتوفير الضمانات في عدم تكرارها.
وترتفع الأصوات في مواجهة خبراء الإفلات من العقاب الممنهج، وتستمر لجان التحقيق المستقلة ولجان تقصي الحقائق في محاولة كشف الحقيقة في ميانمار وسوريا وروندا ومصر، التي تعتبر كل منها غالبًا مسؤولة بشكل أساسي عن الإفلات من العقاب، لكن ليست الدول فقط من تتحمل عادةً المسؤولية الرئيسية في ملاحقة المشتبه بهم، إذ يمكن لوكالة إنسانية، مثل المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، أن تتسبب في الإفلات من العقاب لأنها تقوم بعملها، كيف ذلك؟
في عام 2013، كانت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين مسؤولة عن تقييم ورفض طلبات اللجوء في أكثر من 50 دولة، وكجزء من إجراءات تقييم طلبات اللجوء، يحق للمفوضية استبعاد طالبي اللجوء من الحماية الدولية إذا اشتبهوا في ارتكابهم جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية وجرائم خطيرة غير سياسية، بما في ذلك التعذيب، في عملية تسمى “تقييم الاستبعاد”.
قد يكون لدى مفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين وصول ممتاز إلى المعلومات المتعلقة بالأعمال الإجرامية من خلال الاتصال بالمشتبه بهم أو الضحايا أو الشهود، لا سيما في أثناء تقييم الاستبعاد، وبعض هذه الأفعال، بما في ذلك جرائم الحرب والتعذيب، تتطلب من الدول التي تُقيِّم فيها المفوضية طلبات اللاجئين أن تفتح تحقيقات جنائية مع المشتبه بهم.
ومع ذلك، تحافظ المفوضية السامية لشؤون اللاجئين أيضًا على درجة عالية من السرية فيما يتعلق بالمعلومات التي يقدمها اللاجئون، فكيف نعرف إذن عدد الأشخاص الذين تم استبعادهم بسبب الجرائم الخطيرة التي ارتكبوها؟ وما مدى خطورة جرائم المشتبه بهم؟ ماذا تفعل المفوضية بالمعلومات التي تجمعها؟ وكيف ستحقق الدول في انتهاكات حقوق الإنسان؟
في الواقع، عندما تمتنع القوى العسكرية الكبرى مثل روسيا والصين والولايات المتحدة عن المشاركة في المحكمة الجنائية الدولية، فإنها تسمح لمجرمي الحرب بفعل ما يحلو لهم، ويصبح السؤال الأكثر إلحاحًا: متى تتخلى هذه الدول عن فكرة أنه ينبغي السماح لمجرمي الحرب التابعين لها بالإفلات من العقاب؟ ألم يحن الوقت لانضمامها إلى المحكمة الجنائية الدولية؟