بعد أن كانت معطلة منذ انقلاب حفتر في 2014 وحكمها بحل مجلس النواب حينها، عادت السلطة القضائية في ليبيا للظهور مجددًا، بعد سنين عجاف من الصفقات السياسية صلب برلمان طبرق بدل سيادة القانون ودولة المؤسسات وانتهاء زمن التشبث بالسلطة والتمديد للأجسام السياسية.
بعد قرار الجمعية العمومية للمحكمة العليا الليبية مؤخرًا؛ يحق التساؤل: ماذا بعد؟ في ظل ما أثاره القرار من رفع سقف انتظارات عدة، خاصة إبطال تشريعات سنها برلمان طبرق، وتوافقات حدثت بعد تجميد عمل الدائرة الدستورية، بالتالي المنتظر إصلاحها والبت في مشروعيتها. فهل انتهى العبث السياسي والتشريعي؟
قرار مفصلي
أولًا، لا بد من التذكير أن قرار إعادة عمل الدائرة الدستورية في طرابلس جاء بعد بوادر انقلاب برلماني بقيادة رئيس البرلمان عقيلة صالح على المحكمة العليا إثر تدخله في استقلالية القضاء بالمصادقة منتصف أغسطس/آب الحاليّ على قراره تعيين 45 مستشارًا بالمحكمة وهو ما رفضه رئيسها محمد الحافي، الذي احتج مرارًا على تعديل قوانينها دون طلب منه.
على هذا الأساس تعد عودة عمل الدائرة الدستورية خطوة مفصلية كونها حدت من احتكار التشريع، بعد تعطيل عمل الدائرة منذ 2016، كجهة مخولة بالنظر في دستورية القوانين والتشريعات الصادرة عن السلطتين التنفيذية والتشريعية، وقبول الطعون والبت فيها، وبالتالي فإن غيابها وراء كل المعارك الكبرى الدائرة.
#برومو..أبرز المراحل التي مرت بها الدائرة الدستورية بالمحكمة العليا وأهم أحكامها واختصاصاتها..#ليبيا #التناصح pic.twitter.com/wQoyBCCJAx
— قناة التناصح (@TanasuhTV) August 18, 2022
لذلك يعد قرار تصويت الجمعية العامة بالمحكمة مهمًا، وربما منعرجًا سياسيًا في ظل مختنقات كبيرة ومأزق حقيقي وصلت إليه البلاد من جميع النواحي، منها ما تعاني منه في اللحظة الراهنة من ادعاء الشرعية السياسية بين حكومة الوحدة الوطنية التي المفترض أن تسلم السلطة نهاية يوليو/تموز المنقضي، بعد تنظيم انتخابات وفق تفاهمات جنيف، وحكومة فتحي باشاغا التوافقية مع حفتر، أو قيام حكومة ثالثة كما تسرّب مؤخرًا.
لذا فإن الخطوة قابلة للقراءة من عدة زوايا، بل هناك حتى من اعتبرها إنقاذًا للمحكمة في حد ذاتها من فقدانها لكيانها بعد تغول رئيس البرلمان على صلاحياتها باستبدال معظم مستشاريها، لهذا يعتبر قرارها في الطريق الصحيح لإنهاء النزاع القائم على الشرعية، في حال تحلى أعضاؤها بالاستقلالية بعيدًا عن التجاذبات السياسية ودفاعًا عن هيبة القضاء.
وبتلك الطريقة وحدها، ستكون الدائرة الدستورية قادرةً على إنهاء الجدل بشأن شرعية ودستورية العديد من الخطوات، أهمها إعلان استفراد رئيس البرلمان عقيلة صالح بالسلطة التشريعية التي يوظفها لصالح حفتر وعلى مقاسه التي أطاحت بمسار انتقالي بأكمله عندما مرر قانون انتخابات يسمح لحفتر برئاسة البلاد، فضلًا عن تعديل المادة 12 من الإعلان الدستوري.
بل وصلت إلى حد تهديد بعض الأطراف باستخدام القوة بدلًا من اللجوء للقانون، وعقد الأمل في أن يسهم القضاء المستقل في الوصول إلى النظر في الطعون على استفتاء الدستور الليبي الجاهز منذ سنوات، أو النظر في دستور اللجنة التي وضعها عقيلة صالح في مارس/آذار المنقضي، وبالتالي حلحلة مشكلة القاعدة الدستورية التي قد تكون أساسًا لانتخابات مقبلة طال انتظارها.
تحديات في الطريق
لا شك أن هناك تحديات جمة في طريق الدائرة الدستورية لتطبيق قراراتها ونقض التشريعات المخالفة، إذ لا يكفي إصدار القرارات دون آليات لتطبيقاتها، رغم تعهد رئيس المحكمة العليا محمد الحافي، بعدم الانحياز إلى أي طرف من الأطراف وإعلاء المبادئ والقواعد الدستورية.
ولئن التزم مجلس النواب والنواب الموالين لحفتر الصمت المطبق تجاه القرار، فإن ذلك قد يخفي تعنت بعض الجهات خاصة مجلس النواب وبعض الأجسام الأخرى للمضي قدمًا في نفس النهج، وكأن الفراغ التحكيمي الدستوري موجود، بالتالي مواصلة التصرف بنفس السلطات المطلقة دون رقيب.
هذا يطرح إمكانية محاربة أولئك للرقابة على التشريعات الجديدة للدائرة الدستورية، رغم تشدقهم بالالتزام بالقانون والدستور والفصل بين السلطات، في عبث تشريعي وتنفيذي غير مسبوق.
لكن هذا التفعيل سيكون مهددًا للاستقرار إذا اتسم بطابع إقصائي موجه بشكل خاص ضد حكومة الوحدة الوطنية برئاسة الدبيبة المعترف بها دوليًا التي يسعى معسكر حفتر شرقًا وباشاغا غربًا للإطاحة بها.
لذلك عبر كثيرون عن خشيتهم من الانقلاب بالتزامن مع التحشيد العسكري في العاصمة بين باشاغا والدبيبة لتأليب القضاء من جل إسقاط الحكومة بزعم وضع حد للفلتان الأمني والعسكري، فتصبح بالتالي الدائرة الدستورية مجرد أداة أو جسم شريك كغيرها من الأجسام، بحجة أن الأوضاع كلها غير دستورية.
تفعيل الدائرة الدستورية أخشى أنها ستستعمل للإنقلاب وإسقاط الحكومة.
لا أثق في الحافي فله سوابق
— Waleed khalfallah وليد خلف الله (@Waleedkhalfalla) August 18, 2022
وعموما، فإن إعادة تفعيل الدائرة الدستورية قرار جيد لمصلحة دولة القانون والمؤسسات، لا سيما أن قرار عودتها جاء بالإجماع، وإما سيناريو أسوأ لا قدر الله، تنطع الفرقاء ومزيد من الانقسام.
سيناريوهات متوقعة
صمت آخر مطبق ومستغرب يلف الموقف الدولي من إعادة تفعيل الدائرة الدستورية وإنفاذ سلطة القانون وتحقيق العدالة الدستورية، ما يثير الريبة عن وجود علاقات ومصالح قوية مع بعض الأطراف التي يخدمها الفصل في قضايا مصيرية من قبيل تأجيل المواعيد الانتخابية والحفاظ على شخصيات بعينها لتصدر المشهد السياسي.
تلك المصالح والمطامح ارتبطت ولا تزال ترتبط عضويًا بأجندات ضيقة مثل التمديد لبقاء مرتزقة “فاغنر” الروس على الأراضي الليبية في تعارض مع تفاهمات جنيف في 23 أكتوبر/تشرين الأول 2020، الذي يشترط إخراج الفاغنر ثلاثة أشهر فقط بعد هذا التاريخ، لذا سيكون مرحبًا باستئناف عمل الدائرة الدستورية إذا كان ذلك مقترنًا بكبح جماح التدخل الخارجي.
لكن الصمت قد يكون وراء سيناريو استمرار الانقسام وتغذيته عبر صفقات بين الجسمين التشريعيين: البرلمان ومجلس الدولة والأطراف الدولية الأخرى، إمعانًا في تكريس شريعة الغاب وكأنها هي التي تستحق الثناء والترحيب.
كما من الوارد أيضًا أن يتم تفعيل الحكم القضائي ببطلان مقترح لجنة فبراير بعدم دستورية تعديل الإعلان الدستوري الذي انتخب بموجبه مجلس النواب، بالتالي حله مع حل المجلس الأعلى للدولة، ويكلف مجلس القضاء الأعلي بتولي المهام التشريعية مؤقتًا والعمل على إصدار قانون الانتخابات وقاعدة دستورية لفرز مشهد جديد والقطع مع الفوضى الدستورية.
هذا السيناريو قد يبرره الكشف الأخير من طرف النائب العام الصديق الصور، عن آلاف الأرقام الوطنية المزورة خلال انتخابات 2012 والانتخابات المزمع إجراؤها في ديسمبر/كانون الأول المنقضي.
أما السيناريو الأخير فقد يكون مجرد موقف صوري لرفع الحرج عن المحكمة العليا ودائرتها الدستورية أمام إمعان رئيس البرلمان في تجاوز صلاحيتها، فضلًا عن امتصاص غضب الشارع الذي دعا مرارًا إلى تفعيل القضاء دون أي استجابة، خاصة أنه سبق للدائرة الدستورية أن تحركت دون أي نتائج تذكر إلا تأجيل النظر في الطعون المتراكمة.
#تفعيل_الدائرة_الدستورية
في انتظار تنفيذ التفعيل والبدء في النظر في الطعون المقدمة ضد #مجلس_النواب و #مجلس_الدولة مغتصبي السلطة وإيقاف العبث من كل من هو متصدر المشهد السياسي ويصادر حق الشعب الليبي في #انتخابات_برلمانية pic.twitter.com/VVm5mplnsa
— Fairouz Naas فيروز النعاس (@FairouzNaas) August 19, 2022
هذا السيناريو سيضع القضاء في مرمى حملات التشكيك فيه وفي نزاهته، ونربأ بالقضاة الوقوع في هذا، لذا يبقى عليها لزامًا بعد هذا التحرك، التسريع في النظر بمئات الطعون، مع منح الأولوية للنظر في الطعون العاجلة التي تؤدي للاستفتاء على الدستور وإجراء الانتخابات، وهذا هو السيناريو الأكثر واقعية، ومراعاة للتوازنات الداخلية والخارجية، حتى تكون هي الحل.