عرفت ميزانيات تونس العامة في السنوات الأخيرة زيادة الأعباء الضريبية على المواطنين بدعوى مساعدة الدولة في مجهوداتها الرامية إلى النهوض باقتصاد البلاد المتأزم، وهو ما أثقل كاهل العديد من المواطنين وزاد من معاناتهم.
في مقابل ذلك، أقرت الحكومات المتعاقبة على قصري القصبة وقرطاج، خفض الضرائب على الشركات في ظل بحثها عن سند اقتصادي يقوّي شوكتها في مواجهة المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية، ليس هذا فحسب بل أقدمت بعض الحكومات على تقديم المساعدات المالية لبعض الشركات لتجاوز مشاكلها المالية في الوقت الذي كانت فيه الدولة في أمس الحاجة لكل دينار.
حتى الرئيس قيس سعيد الذي قال إنه سيحارب الفساد ويجفف منابعه وأكد نيته في أكثر من مرة تتبع رجال الأعمال الفاسدين، أخلف وعده سريعًا وبادر إلى البحث عن كيفية الصلح معهم في البداية ثم استجداء دعمهم لمواجهة الأحزاب السياسية والمنظمات الوطنية المناهضة لانقلابه على مؤسسات الدولة الشرعية، في مرحلة ثانية.
تُظهر هذه الوقائع، قوة رجال الأعمال وتحكمهم في اقتصاد تونس وفي المسار السياسي بالبلاد، لكن ليس كل رجال الأعمال فهناك بعض العائلات المعروفة هي المتحكم الأبرز في الاقتصاد والسياسة ومن يأتي في وجهها وإن كان صاحب مال فمصيره سيكون السجن أو الإقصاء.
نواصل مع ملف “الأوليغارشية العربية”، وسنحط الرحال هذه المرة في تونس، وسنتحدث عن أبرز العائلات المتنفذة في هذا البلد العربي وسيطرتها على مفاصل الدولة رغم الثورة التي حصلت في البلاد سنة 2011، وكيف ساهمت هذه العائلات في تنمية التفاوت الطبقي والاجتماعي في تونس وفشل الثورة هناك.
الدولة تشجع رجال الأعمال على التغول
في بداية ستينيات القرن الماضي، اعتمد الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة نظام التعاضد بعد فشل التجربة الليبيرالية التي انطلقت فيها الدولة عقب الاستقلال مباشرة، ذلك أن الاقتصاد لم يُحقق النتائج المرجوة منه ولم تتجاوز نسبة النمو 3.5%.
ضمن تجربة التعاضد التي قادها الوزير الأول أحمد بن صالح، صادرت الدولة كل الملكيات الفردية في البلاد التونسية في كل القطاعات وأصبحت هذه الملكيات ملكًا حصريًا للدولة، وتم إنشاء وحدات إنتاجية وتعاضديات فلاحية إلى جانب بعث أقطاب صناعية في مناطق مختلفة من البلاد.
لم يكتب لهذه التجربة أن تنجح، وكادت الدولة التونسية تفلس سنة 1969، ما اضطر النظام للعودة إلى النموذج الليبيرالي وإعطاء مساحة أكبر لرجال الأعمال ومنحهم تسهيلات وامتيازات كبيرة بهدف خلق الثروة للدولة وإنقاذ البلاد.
اعتمدت الدولة في هذه المرحلة على القطاع الخاص بإيعاز غربي، وبقيادة الهادي النويرة، وشجعت على الاستثمارات الداخلية والخارجية والصناعات الموجهة للتصدير، كما شجعت على اللامركزية الصناعية، عبر منح الامتيازات والإعفاءات والقروض الميسّرة.
أُنشأت العديد من الشركات الخاصة الناشطة في مجالات عديدة، وتضاعف عددها من 865 سنة 1970 إلى 2866 سنة 1983، وهي نقلة نوعية تؤكد رغبة رجال الأعمال في التمتع بالامتيازات والإعفاءات الجبائية والتسهيلات التي فرضتها الدولة في ذلك الوقت.
سمح النظام لعدد قليل من رجال الأعمال فقط بالسيطرة على القطاعات الحساسة واحتكارها، رغم أن القانون لا يجيز الاحتكار
سمح هذا الأمر بخلق طبقة من رجال الأعمال الأثرياء وبروز مجموعات عائلية تدين بالفضل للدولة، فالنظام مهد لهم الطريق ووفر لهم الكادر البشري (سنت الدولة قانونًا يسمح بإعارة كوادر القطاع العام للقطاع الخاص) والتشريعات القانونية والحماية والامتيازات حتى يرتقوا اقتصاديًا واجتماعيًا.
تواصل نفس الأمر مع الرئيس زين العابدين بن علي الذي وصل السلطة عبر “انقلاب أبيض” على الرئيس الحبيب بورقيبة يوم 7 نوفمبر/تشرين الثاني 1987 بداعي عدم قدرة بورقيبة على مواصلة الحكم بسب حالته الصحية الصعبة.
تدخل نظام بن علي وقبله بورقيبة مباشرة في السوق وحركته عبر توفير العقود وبعث المشاريع الكبرى وإسنادها عبر المحاصصة بين رجال الأعمال، لضمان ولائهم الدائم للنظام الحاكم، ما ساهم في نجاحهم.
حقق اقتصاد تونس في بداية الألفية الثانية نتائج جيدة، إذ تجاوزت نسبة النمو في سنوات عديدة 5%، لكن الفائدة لم تمس الشعب التونسي، بل كانت حكرًا على رجال الأعمال، فهم فقط من استفادوا من هذا التطور، حتى الدولة لم تستفد منه.
عائلات حاكمة
كان عدد رجال الأعمال كبيرًا، لكن أصحاب الثروة الحقيقيين قليلون، فالنظام سمح لعدد قليل من رجال الأعمال فقط بالسيطرة على القطاعات الحساسة واحتكارها، رغم أن القانون لا يجيز الاحتكار، ما أدى إلى بروز “مونوبولات” تربطها علاقات عائلية عبر الدم والمصاهرة.
تسيطر هذه العائلات على أهم القطاعات الاقتصادية من ذلك النظام المصرفي والقطاع السياحي، فتتبادل المكاسب والقروض، ما يضعف المنافسة الاقتصادية ويجعلها مجرد شعار يتم اللجوء إليه في بعض المؤتمرات والاجتماعات.
يفرض النموذج الاقتصادي التونسي على رجال الأعمال الصغار الانضواء تحت لافتة العائلات المهيمنة على الاقتصاد لمواصلة العمل، وإلا فعليهم اعتزال التجارة ومجال الاستثمار أو السفر للاستثمار في الخارج، في إفريقيا أو أوروبا، أو يكون مصيرهم السجن كما حصل مع رجل الأعمال شفيق جراية الذي يقبع إلى الآن في السجن بتهم عديدة من بينها التآمر على أمن الدولة الداخلي.
أصبحت تونس في وقت قصير محكومة بلوبيات عائلية تدير كبرى الشركات والمؤسسات المالية، وغالبًا ما تكون مؤثرة في السلطة والقرار السياسي في البلاد، فهي تؤثر بشكل كبير على دواليب الحكم، ولها دور بارز في التعيينات خاصة في المناصب الكبرى.
رغم أن تونس شهدت ثورة في يناير/كانون الثاني 2011، أطاحت بنظام بن علي، وكان من أبرز مطالبها محاسبة العائلات التي حطمت اقتصاد البلاد وجعلت الدولة إقطاعًا خاصًا بها تتحرّك وفق ما تريد بالصيغة التي تخدمها، فإن دور العائلات الحاكمة لم ينته.
ازداد نفوذ هذه العائلات بعد الثورة، حيث تقلد بعض أفرادها مناصب وزارية وشغل البعض الآخر مناصب قيادية في الأحزاب السياسية والمنظمات الوطنية ودخل عدد مهم منهم إلى البرلمان وساهموا في سن تشريعات تحمي أعمالهم، كما تحكموا في توجهات الدولة الاقتصادية والاجتماعية.
في الانتخابات التشريعية لسنتي 2014 و2019، فرض رجال الأعمال على الأحزاب السياسية الكبرى أن يتواجد عدد كبير منهم في البرلمان، مقابل تمويل حملاتهم الانتخابية ودعم أنشطتهم الحزبية، وكان لهم ذلك ما يؤكد تحكمهم في اللعبة السياسية.
تظهر سيطرتهم على الدولة وتأثيرهم المباشر فيها في تعيين الوزراء وكتاب الدولة وكوادر الإدارة المركزية والجهوية والمحلية بما في ذلك الديوانة وقوات الأمن الداخلي، وسنّهم القوانين التي تخدم مصالحهم ومعارضة التشريعات التي تمس نفوذهم.
أبرز العائلات المتنفذة في تونس
بعيدًا عن عائلتي “بن علي” و”الطرابلسية”، برزت أيضًا عائلة المدب في تونس العاصمة وإدريس بسوسة والمبروك بالمهدية وبوشماوي والجريء والمزابي وبن يدّر في الجنوب الشرقي، وميلاد والمدب في القيروان والوكيل واللومي في صفاقس.
الكثير منا سمع باسم رجل الأعمال حمدي المدب الذي ارتبط في السنوات الأخيرة بنادي الترجي الرياضي التونسي – أعرق الأندية الرياضية في تونس ومن أبرزها في إفريقيا -، لكن بعيدًا عن الرياضة يمتلك المدب وعائلته مجموعة اقتصادية مختصة في الصناعات الغذائية، وتعمل أساسًا في صناعة الألبان.
أسس حمدي المدب في سنة 1979، أول شركة له، وهي الشركة التونسية للصناعات الغذائية، المتخصصة في منتجات الألبان، بفضل علاقته بالدولة أصبحت شركته الأولى في تونس في هذا الاختصاص تحت علامة “دليس” ودخل في شراكة مع شركة “دانون” سنة 1997، كما طور المدب نشاطه ودخل مجال المشروبات الغازية وحاز على رخص استغلال للمياه المعدنية.
يُمارس حمدي المدب البيع المشروط، إذ يفرض على المحلات شراء الألبان والعصائر والمشروبات الغازية والمياه المعدنية التابعة له، وإن رفض التاجر ذلك يُحرم من حصته في الألبان، كل ذلك تحت أنظار السلطات لكنها لا تحرك ساكنة، بل العكس تشجعه وتمنحه امتيازات أخرى حتى يُراكم الثروة.
كما كانت للمدب تجربة قصيرة في مجال الاتصالات، فقد دخل في شراكة مع صهر الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي، واستحوذ الثنائي على 25% من أسهم شركة تونيزيانا بتمويل في شكل قروض تحصلا عليها من بنوك تونسية دون ضمانات قدرت بـ866 مليون دينار.
أما في جهة الساحل فتبرز عائلة “إدريس” التي تنشط أساسًا في القطاع السياحي، وتدير العائلة سلسلة من الفنادق والمنتجعات السياحية في العديد من مناطق تونس، وقد استفادت كثيرًا من الامتيازات التي وفرتها الدولة التونسية للنهوض بالقطاع السياحي، مثلا قبل سنتين وفي ظل الأزمة الاقتصادية التي تشهدها البلاد، أقرت الحكومة التونسية صرف مساعدات عاجلة للماسكين بقطاع السياحة حتى ترضيهم.
تنشط العائلة أيضًا في مجال الصناعات البلاستيكية وتربية الأحياء المائية، وهي مساهم في شركة “الطيران الجديد تونس”، كما تعمل أيضًا في مجال التطوير العقاري، وهي مختصة في المباني والفيلات المخصصة للإيجار والمخصصة للأعمال التجارية والصناعية والمكاتب والسكنية والمستودعات، وحتى مواقف السيارات، وتمتلك العائلة أسهمًا في “التجاري بنك”.
تمتلك مجموعة المبروك 39% من رأس مال بنك تونس العربي الدولي
من بين الأسماء التي تبرز في هذه العائلة، نجد زهرة إدريس صاحبة نزل إمبريال مرحبا الذي شهد أكبر عملية إرهابية تعرضت لها تونس سنة 2015 والتي شغلت منصب نائب عن نداء تونس في البرلمان في الفترة بين 2014 و2019 ، ومعز إدريس الذي سبق أن ترأس نادي النجم الرياضي الساحلي، ورجل الأعمال الراحل أمحمد إدريس.
في الساحل نجد كذلك، عائلة جنيح التي تعد من أكبر العائلات المهيمنة على القطاع السياحي في تونس، تنشط العائلة خصوصًا في مجال السياحة والفندقة وهي تمتلك العديد من الشركات والمحلات والمطاعم كان آخرها سلسلة “برغر كينغ” التي حصل عمر جنيح على رخص استغلالها في تونس في أواخر فترة حكم رئيس الحكومة الأسبق يوسف الشاهد.
تنشط المجموعة في المجال الإعلامي أيضًا، فتمتلك القناة التليفزيونية الخاصة “التاسعة”، كما ترأس عثمان جنيح فريق نادي الرياضي الساحلي (1993-2006)، وكان لهذه العائلة عقب الثروة نشاط سياسي كبير، إذ نشط أفراد منها في أحزاب نداء تونس وتحيا تونس والدستوري الحر، ووصل حسين جنيح إلى قبة البرلمان سنة 2019، وتمكنت العائلة من الاستفادة من امتيازات كثيرة فرضتها الدولة لهم، مكنتها من جمع ثروة طائلة.
في المهدية، نجد عائلة المبروك التي تمتلك مجموعة اقتصادية هي الأكبر في البلاد برقم معاملات يبلغ 500 مليون يورو، وتتحكم في سلسلة أسواق، منها 65 سوقًا تجاريًا مركزيًا تحت علامة “مونوبري”، بالإضافة إلى سوق مركزي بعلامة “جيان”، إضافة إلى امتلاكها التوكيل الحصري لتوزيع بعض ماركات السيارات.
كما تنشط مجموعة المبروك في أكثر من مجال، إذ تمتلك العائلة 39% من رأس مال بنك تونس العربي الدولي، إلى جانب نشاطها في صناعة البسكويت وقطاع الاتصالات، ويعود السبب الأكبر لنجاح المجموعة إلى علاقة المصاهرة التي جمعتها بعائلة بن علي، فقد تزوج مروان المبروك، ابن علي المبروك، بابنة الرئيس المخلوع زين العابدين سنة 1996.
في يناير/كانون الثاني، تدخل الحكومة التونسية التي يرأسها حينها يوسف الشاهد لرفع التجميد على أملاك رجل الأعمال مروان المبروك بالاتحاد الأوروبي، والتي حاز عليها جرّاء قرابته من عائلة الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي عبر المصاهرة، رغم ثبوت تورط المبروك.
ضمن العائلات المتنفذة أيضًا نجد عائلة “الحرشاني” التي تعمل في قطاع الصناعات الغذائية كالتن والتمور وزيت الزيتون ومنتجات البحر، كما تنشط المجموعة في قطاع المالية إذ تساهم بنسب كبيرة في البنوك من ذلك بنك الإسكان وبنك تونس العربي الدولي وبنك الأمان وبنك الوفاق وتأمينات ستار والتونسية للإيجار المالي.
رغم وجود ملفات فساد مثبتة في حق مجمع الحرشاني ورئيسه رشاد، فإن الدولة لم تتحرك ساكنا بل العكس ما حصل إذ فتحت له الطريق لتغول في المجال البنكي والفلاحي ومنحته امتيازات كبرى واعفاءات ضريبية.
إلى جانب هؤلاء تبرز أيضًا عائلة “بن عياد” التي تمتلك أكبر مجمع اقتصادي في تونس، وهو مجمع “بولينا القابضة” الذي أسسه عبد الوهاب بن عياد، وتضم “بولينا القابضة” 76 مؤسسة في 6 أقطاب متخصصة وتنشط في مجال إنتاج الدواجن وتربية المواشي والقطاع السياحي والبناء والأشغال العامة والصناعات التحويلية، وتتحكم المجموعة خاصة في مجال الدواجن وتتحكم في الأسعار دون أن تتدخل الدولة.
تنشط المجموعة أيضًا في المجال المالي، إذ تمتلك أسهمًا في “بنك الوفاق” وشركة ATL ليزينق، وهو ما يدر عليها أموالًا طائلة، مكنتها من السيطرة على العديد من المجالات الصناعية والغذائية في تونس خلال السنوات الأخيرة، وقد مكنتها الدولة من العديد من القروض دون أن يتم استرجاعها.
نواصل مع العائلات المتحكمة في الاقتصاد التونسي، هذه المرة مع عائلة بن يدرّ التي يرجع أصلها إلى الجنوب التونسي تحديدًا جزيرة جربة، وتنشط المجموعة التي تضم 70 شركة خاصة في المجال الصحي، إذ تمتلك مجموعة المستشفيات الخاصة (مصحات الأمان)، ولها استثمارات في قطاعات الدواء، وفي قطاع المواد الغذائية خاصة قهوة بن يدّر وقهوة بوندان.
عملت هذه العائلة على تدمير القطاع الصحي في تونس بالاستعانة مع مسؤولين في الدولة، حتى يضر المواطن التونسي للذهاب للمصحات الاستشفائية الخاصة للعلاج، وقد جرت عرقلة العديد من المشاريع الصحية في هذا الشأن في مناطق متعددة في تونس.
ضمن المؤشرات التي تعكس صعوبة الوضع في تونس واتساع دائرة الفقر في البلاد، ضعف نصيب الفرد من إجمالي الدخل القومي مقارنة بالدول المجاورة
كما تعمل في قطاع البنوك، فتساهم في بنك الأمان، وفي قطاع التأمينات من خلال “تأمينات كومار” والإيجار المالي من خلال المساهمة في شركة ATL ليزينق، فضلًا عن توزيع السيارات وقطاع الشاحنات والآلات الضخمة الخاصة بالمقاولات والأشغال الكبرى.
وفي جربة أيضًا نجد عائلة المزابي التي تمتلك مجموعة خاصة بها تنشط في عدة قطاعات أهمها الصناعة الإلكترونية وتجارة السيارات وتجارة الشاحنات والمعدات الصناعية وصناعة الجلد وتركيب الدراجات النارية وتجارة المواد الإعلامية والعقارات، كما تنشط المجموعة في القطاع المالي، فتمتلك نسبة 8.61% من مصرف التجاري بنك، و1.13% من مصرف الاتحاد الدولي للبنوك.
بفضل الامتيازات التي تحصلت عليها العائلة من الدولة، تمكنت من فرض سيطرتها على تجارة السيارات وجني أرباح ضخمة فهي من تحدد الأسعار وتفرض بيع السيارات بضعف ثمنها الأصلي.
في مدينة صفاقس التي تعتبر العاصمة الاقتصادية لتونس، نجد عائلة “الوكيل” التي تنشط خصوصًا في قطاع مبيعات السيارات (علامات “مازدا “و”سيتروان”) والعقارات والصناعة الزراعية والأشغال العامة والخدمات، بفضل علاقاتها الوطيدة مع مسؤولين في الدولة تمكنت العائلة من تطوير عملها والاستثمار خارج البلاد.
نواصل مع مدينة صفاقس التي نجد فيها كذلك، عائلة “اللومي” التي تنشط أساسًا في مجال صناعة الكابلات الكهربائية لصناعة السيارات عبر مجمع “كوفيكاب”، فضلًا عن الاستثمارات في القطاع الزراعي، وسبق أن شغلت سلمى اللومي منصب وزيرة السياحة ورئيسة ديوان رئيس الجمهورية الباجي قائد السبسي، وقد استفادة عائلة اللومي كثيرا من هذا المنصب، حيث تحصلت على امتيازات جديدة وتمكن من احتكار بعض القطاعات.
عززت مجموعة اللومي السنة الماضية وجودها على الساحة الاقتصادية في تونس من خلال الاستحواذ على 60% من أسهم البنك التونسي الكويتي (BTK)، الذي كان ينتمي سابقًا إلى المجموعة المصرفية الفرنسية BPCE، وأصبحت المجموعة بالتالي الممثل المرجعي لـBTK.
تبرز في صفاقس أيضًا عائلة “السلامي” التي تملك شركة One Tech Holding OTH، وهي شركة تعمل في مجال تقديم حلول الهندسة والتصميم والإنتاج والتركيب والتدريب للكابلات والميكاترونكس وتكنولوجيا المعلومات والاتصالات.
تساهم العائلة في الاتحاد البنكي للتجارة والصناعة بنسبة 8.62%، كما سبق أن ترأس منصف السلامي النادي الصفاقسي، الذي يعد من أبرز النوادي الرياضية في تونس وفي إفريقيا والمنطقة العربية، كما سبق أن شغل عضوية البرلمان عن حركة نداء تونس، خلال تلك الفترة والتي سبقتها ساهم منصف السلامي في توجيه السلطة لاقرار مساعدات لرجال الأعمال.
نبقى في الجنوب، هذه المرة في قابس، حيث بدأت عائلة البوشماوي نشاطها، وتمتلك العائلة مجموعة من الشركات في اختصاصات الأنشطة البترولية والمنسوجات، حيث تمثل هذه القطاعات مجالات رئيسية لأنشطتها، وتمتلك العائلة حصة في وكالة سيارات علامة “كيا”، فضلًا عن شركة “ماي فيل” المتخصصة في حلج القطن.
كما تنشط أيضًا في المجال البنكي، حيث تملك نسبة 5% من مصرف الاتحاد الدولي للبنوك، وسبق أن ترأست وداد البوشماوي الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعة، وهي أول امرأة تترأس المنظمة في تاريخ تونس، وتمكنت العائلة بفضل قربها من الدولة من تبيض الأموال بسهولة والتهرب الضريبي دون أن تتم متابعتها، كما حصلت على عديد الامتيازات في مجال الطاقة.
لا تتوقف العائلات المهيمنة على الاقتصاد التونسي هنا، إذ نجد أيضًا عائلة “البياحي” التي تمتلك هي الأخرى مجموعة اقتصادية ذات ثقل كبير، تضم أكثر من 30 شركة أبرزها شركة المغازة العامة المتخصصة في مجال المساحات التجارية، وتمتلك المجموعة أسهمًا في البنك العربي لتونس.
تنامي التفاوت الطبقي والاجتماعي
احتكرت هذه العائلات أغلب القطاعات الاقتصادية في تونس، فأصبحنا أمام اقتصاد مغلق لصالح فئة معينة تكدس الأموال لصالحها، وهو ما ساهم في تنامي التفاوت الطبقي والاجتماعي في هذا البلد العربي الذي ثار على عائلتي بن علي والطرابلسية سنة 2011.
قتلت هذه العائلات روح المبادرات الشبابية وحتى رجال الأعمال الذين برزوا بعد الثورة تم احتواؤهم أو دكهم في السجن كما حصل مع رجل الأعمال شفيق جراية الذي يقبع منذ سنوات في السجن بتهم عدة منها الخيانة العظمى.
هذه العائلات لا تؤمن بالبحث العلمي ولا الابتكار ولا تخلق ثروة يستفيد منها الشعب، حتى الوظائف التي توفرها تكون وظائف هشة، وهو ما يفسر انتشار العديد من الظواهر السلبية في البلاد كالتهريب والهجرة غير النظامية.
بالوقت اكتشف التونسي أن مستقبله ومستقبل أبنائه وبلاده، يعتمد على أولئك الذين يذهبون دائمًا إلى حيث يحققون أقصى الأرباح
استفراد هذه العائلات بالثروة، زاد من نسبة الفقر، إذ كشف وزير الشؤون الاجتماعية التونسي مالك الزاهي في تصريح نقلته وكالة تونس إفريقيا للأنباء الرسمية مطلع شهر مارس/آذار الماضي، أن 963 ألف عائلة تضم نحو 4 ملايين تونسي يعانون من الفقر، من نحو 12 مليونًا إجمالي عدد سكان البلاد.
ضمن المؤشرات التي تعكس صعوبة الوضع في تونس واتساع دائرة الفقر في البلاد، ضعف نصيب الفرد من إجمالي الدخل القومي مقارنة بالدول المجاورة، إذ لا يتعدى في تونس 3300 دولار سنة 2020 مقابل 3700 سنة 2019.
ليس هذا فحسب، بل أصبحت الدولة التونسية تلجأ إلى الاقتراض من الصناديق الدولية كالبنك الدولي، لا لاستثمارها في مشاريع مهمة يمكن أن تقدّم أرباحًا للبلاد، وإنما لتقديمها كمساعدات للعائلات محدودة الدخل، ما يعكس الصعوبات الكبيرة التي تعيشها تونس.
مساهمة في إفشال الثورة التونسية
استفادت هذه العائلات كثيرًا من علاقاتها وقربها من السلطة، ورأت في الثورة التونسية خطرًا يمكن أن يُزعزع وجودها رغم أنها ضاعفت ثروتها في السنوات التي تلت سقوط نظام بن علي وتراجع قوة عائلتي بن علي والطرابلسية وأصهاره كالماطري وشيبوب.
عملت هذه العائلات على لعب دور مباشر في الحياة السياسية واقتحام الميدان السياسي وشغل المناصب القيادية في الأحزاب السياسية وتقلد مناصب وزارية، أي والتحول إلى مقرر لسياسات البلاد وتوجهاتها العامة وذلك من أجل المحافظة على نفوذهم وتجنب خطر مس الامتيازات التي يمتلكونها ولما لا تدعيمها.
كما أنفق الكثير منهم المال الوفير لإفساد المشهد الديمقراطي، فتم شراء الأصوات في مواضع كثيرة خاصة في مناطق فقيرة ومحتاجة مثل منطقة الشمال الغربي، كما رأينا حملات دعاية انتخابية قدرت بمليارات الدينارات لشخصيات لم تكن تجد معين كراء مقراتها الحزبية.
طيلة السنوات التي أعقبت الثورة التونسية، ظللنا نقول إن تونس أخرى ممكنة، لكن ثبت أن قوة هذه العائلات الاقتصادية أقوى من إرادة التونسيين، فأصبحت تونس نعيش في ظل ديكتاتورية الأوليغارشية لرجال الأعمال، فهم يسيطرون على كل شيء ويفرضون قانونهم.
بالوقت اكتشف التونسي أن مستقبله ومستقبل أبنائه وبلاده، يعتمد على أولئك الذين يذهبون دائمًا إلى حيث يحققون أقصى الأرباح، إذ لا رادع لهم ولا أحد قادر على وضع حد لهم، ما دامت السلطة تحت إمرتهم تعمل وفق أهوائهم وما يخدم مصالحهم.