ترجمة وتحرير: نون بوست
تتراجع فروع النخيل بينما يسير حسين إبراهيم عبر أرضه المزروعة بكثافة في الفاو، آخر قرية في جنوب العراق والتي تطل على الخليج العربي؛ حيث يُعرف إبراهيم باسم أبو يوسف في إشارة إلى ابنه الأكبر، ويوضح أن الزراعة هي الثقافة التي نشأ عليها، وقال: “لقد ورثتُ هذه الأرض من جدي وحتى والد جدي كان يمتلكها. كنا جميعًا مزارعين؛ ولقد ولدنا لنكون مزارعين”، وقد جاءت هذه الكلمات من هذا الأب لسبعة أطفال وهو يقطف الرمان من شجرة مزروعة في أحد فدادينه الخمسة، في مكان يعتقد البعض أنه جنة عدن التي وردت في التوراة، أو ربما المكان الأول الذي نزل فيه آدم وحواء على الأرض.
ولكن بينما كان يتجول بلطف وهو يلامس كل من أشجار النخيل والحناء والسدر – التي يعتقد البعض أيضًا أنها حملت أول ثمرة أكلها آدم وحواء بعد سقوطهما على الأرض -؛ يقول إبراهيم إن ثلث أرضه هي التي يمكن فقط زراعتها الآن.
في الماضي؛ كانت السفن تصعد عبر نهر شط العرب من الخليج إلى الفاو؛ حيث كانت أطقمها تقوم بتحميل التمور ونقلها حول العالم، وكانت منطقة البصرة، حيث تقع الفاو، تعتبر دائمًا سلة خبز العراق، ولكن الآن بسبب التملح الهائل للأراضي، وانخفاض تدفق المياه إلى الأنهار الحيوية بسبب سد المنبع، وتغير المناخ والتلوث، يخسر العديد من المزارعين المعركة للحفاظ على محاصيلهم حية، ويعتمد الناس على صيد الأسماك والجاموس في الأهوار العراقية للحصول على الغذاء.
وغالبًا ما تكون بنية الأراضي المحيطة بمنزل إبراهيم ومزرعته إما ترابية أو بيضاء من طبقة قشرية من الملح التي تظهر على السطح، والرياح جافة وخانقة، ويتلألأ الأفق بحرارة نابضة، فيما يقول إبراهيم إنه في عام 2019 عندما أصبحت الأمطار غزيرة؛ فُقِدَتْ نصف الأراضي الخضراء في عام واحد.
ويتابع وهو يشير إلى شجرة نخيل: “كان لدى والدي 150 نخلة وفقدناها جميعًا ما عدا عشر شجرات هنا”، مضيفًا أنه لن يكون هناك تمور هذا العام؛ حيث يقول: “لن تنتج أي من أشجار النخيل هذه فاكهة هذا العام، لأن البراعم لا تخرج للتخصيب”.
ويقول عزام الواش؛ المستشار الشخصي لرئيس العراق بشأن تغير المناخ، إن الحياة في جنوب العراق تعتمد تمامًا على المياه، التي أصبحت نادرة بشكل متزايد، ولكن تاريخيًّا؛ ازدهرت المنطقة والأنظمة الطبيعية بسبب موسم الفيضانات السنوي، فكانت الأهوار العراقية بمثابة حوض طبيعي للاحتفاظ بالماء، والذي احتوى على مياه دجلة والفرات في موسم الفيضانات عندما يبدأ الثلج في جبال كردستان العراق في الذوبان في الربيع.، وكانت الزراعة المروية عبر قنوات من صنع الإنسان من الأنهار مستدامة في البصرة بسبب استمرار وجود المياه في المنطقة.
ويوضح الواش، وهوأيضًا الرئيس التنفيذي ومؤسس “عراق طبيعي Nature Iraq”، وهي منظمة غير حكومية تعمل في العراق وفي إقليم كردستان، ومعتمدة لدى برنامج الأمم المتحدة للبيئة؛ قائلًا: “تأتي مياه الفيضانات، وتغسل الأملاح التي تراكمت من العام السابق، وتترك طبقة من الطين في الأراضي الزراعية، مما يجدد إنتاجية التربة”.
بدأ هذا النظام الطبيعي في الانهيار عندما تم بناء السدود والبحيرات لحماية المناطق المأهولة بالسكان من الفيضانات؛ حيث يقول الواش: “بدأ المهندسون يعتقدون أنهم أذكى من الطبيعة”، وأفضل مثال على ذلك هو بحيرة الثرثار، التي افتُتِحَتْ في عام 1956 في وسط أهم نهرين في العراق، دجلة والفرات؛ حيث تمنع هذه البحيرة مياه الفيضانات من إنعاش الأراضي الزراعية، مما دفع الأسماك إلى التكاثر عبر الزمن. وبدلًا من ذلك؛ يُفقد حوالي 2 تريليون جالون من مياه الفيضانات سنويًًا بسبب التبخر من البحيرة.
وقال الواش: “المياه التي تتبخر من هذ البحيرة أكثر من كامل كمية المياه المتاحة لبلد مثل الأردن، وتابع: “ويمكن أن تضيف المياه المتبخرة من جميع البحيرات والسدود الأخرى، وجميع القنوات المكشوفة المستخدمة لنقل المياه حول جنوب العراق؛ حيث يمكنني أن أخبرك أن العراق يفقد حوالي 3 تريليونات جالون من المياه سنويًًا”. وفي هذا السياق، فإن أحد أطول الأنهار في العالم، النيل، يتدفق فيه حوالي 79 مليار جالون من المياه في المتوسط في أي يوم.
ومما يزيد من فقدان المياه هذا سد أنهار العراق الحيوية من قبل إيران وتركيا، والتي أوقفت في بعض الحالات تدفق المياه إلى العراق تمامًا؛ حيث يقول الدكتور شكري الحسن، الأكاديمي والبيئي بجامعة البصرة، إن كمية المياه المتدفقة من إيران إلى أنهار العراق أصبحت الآن صفرًا تقريبًا، لأن إيران حولت 42 رافدًا في السنوات 20 الماضية، وكان أهم نهرين يتدفقان إلى العراق من إيران هما نهري كرخة وكارون، اللذان سدتهما الجمهورية الإسلامية في عامي 2001 و2007 على التوالي، فيما تقوم تركيا أيضًا ببناء سدود على نهر الفرات ودجلة منذ السبعينيات، لكن مشروع جنوب شرق الأناضول (GAP) هو الأكثر إضرارًا بمصادر المياه في العراق.
وينتقد علي الكرخي من حماة دجلة، وهي منظمة غير حكومية تعمل على إنقاذ نهر دجلة ومستنقعاته، الحكومة العراقية لعدم اتخاذ إجراءات ضد تركيا وإيران من أجل تنظيم وصولها إلى حوالي 70٪ من مياه الأنهار، وأضاف: “تقع مسؤولية فتح مفاوضات لضمان وصول المياه الى جميع العراقيين بما في ذلك الأهوار العراقية؛ على عاتق الحكومة، كما أن دعم العراق في مواجهة إيران وتركيا مسؤولية دولية”.
وأعلن وزير الموارد المائية العراقي؛ مهدي راشد الحمداني، العام الماضي أن الحكومة سترفع دعوى قضائية في محكمة العدل الدولية ضد إيران بسبب خفض الوصول إلى المياه، رغم أن هذا لم يحدث بعد، فيما يقول الواش: “حتى لو فاز العراق بحكم ضد إيران، فلن تتمكن من تنفيذه… لأن قرار بغداد تسيطر عليه إيران”.
ويعتبر شط العرب القريب هو مصدر المياه لقنوات الري في مزرعة إبراهيم، لكن تيار النهر الآن ليس قويًّا بما يكفي لسقي الأرض، فقبل ثلاث سنوات؛ كان إبراهيم يحصد حوالي 600 رطل من الحناء كل 40 يومًا، لكنه الآن يجمع حوالي ثلث ذلك، والذي بالكاد يغطي تكلفة العملية. وفي الفترة نفسها، فقد 46 شجرة رمان بسبب نقص المياه والملوحة؛ ولم تتبق له سوى أربع شجرات.
ومع استمرار انخفاض التدفق من دجلة والفرات إلى شط العرب؛ تتعدى مياه البحر من الخليج العربي على نهر المياه العذبة، والذي شهد زيادة مقلقة في نسبة الملوحة منذ عام 1970. وبحسب الحسن؛ فإن الملوحة في مياه النهر في البصرة تميل إلى أن تكون ستة إلى 15 أضعاف ما كانت عليه في السبعينيات.
وعندما يختار الناس وقف دورة الفيضانات الطبيعية، فإن ممارسات الري الحديثة مثل الري بالتنقيط للخضروات كانت ستحافظ على المزارع، ووبما أنه لم يحدث أي تغيير في تقنيات الزراعة في البصرة، فإن أساليب الري الحالية لم تؤدِّ إلا إلى زيادة ملوحة التربة. وعندما تتشبع التربة بأكملها من خلال الري بالفيضانات؛ فإنها تجبر المياه الجوفية على الارتفاع، مما يجلب الأملاح إلى السطح، ثم يتم تصريف هذه الأملاح مرة أخرى في النهر المستخدم في الري، وبالتالي زيادة ملوحة النهر؛ وهي دورة سامة تجعل السلطات ترفع أيديها في حالة من العجز.
ويقول ضياء إسماعيل، رئيس قسم البيئة وتغير المناخ بوزارة الزراعة في العراق، إن سبب زيادة الملوحة في البصرة هو ندرة المياه، متسائلًا: “ما الذي [من شأنه] أن يتغير إذا غيرنا [طرق] الري عندما تكون المياه هناك مالحة بالفعل؟”.
ويتذكر إبراهيم، البالغ من العمر الآن 61 عامًا، نشأته في منطقة كانت خصبة ومليئة بالحياة والمجتمع؛ حيث يقول: “كانت هناك ما يقرب من 70 عائلة هنا ولديها مزارع مماثلة لمزرعتي؛ ولكن أكثر من نصفهم استسلموا لأنه لم يعد هناك فائدة من الأرض”. وباستثناء قريتين× تأثرت الفاو بشكل كبير أكثر من المناطق الأخرى في البصرة بسبب الملوحة ونقص المياه، وفقًا لعبد الحسين العبادي، رئيس اتحاد رابطة المزارعين في البصرة.
ويقول العبادي من مكتبه في مدينة البصرة: “لقد تأثروا بشدة، خاصة في عامي 2018 و2019، عندما كانت هناك موجة واضحة جدًا من الملوحة، حيث فقد الكثير من المزارعين الكثير من الإنتاج والأراضي”.
إن التخلي عن الأراضي الزراعية، وترك الأرض قاحلة وغير مزروعة، يؤدي إلى تصحر سريع لمنطقة البصرة، وهي عملية تساهم في حد ذاتها في تغير المناخ وزيادة درجات الحرارة؛ حيث يشير الكرخي إلى أن درجات الحرارة لم تكن مرتفعة عبر التاريخ مثل الآن؛ وإلا لما بنى الناس مراكز سكانية كبيرة مثل البصرة.
ويقول الكرخي: “هذا وضع استثنائي بسبب تغير المناخ، الذي يتسارع نتيجة كل الأضرار التي نفرضها على البيئة”. وقد فُقٍدَتْ معظم الأراضي الزراعية في الفاو والسيبا، وجزء من أراضي أبي الخصيب وشط العرب، وأجزاء كبيرة من الأراضي الزراعية في الدير والحارثة بسبب التملح.
ويعيش العراقيون بالفعل الظواهر الجوية المتطرفة التي يمكن أن يجلبها تغير المناخ، وأحدها زيادة تواتر العواصف الرملية. تاريخيًًا؛ يُعرف شهر أبريل بالشهر الذي تتحول فيه السماء إلى اللون البرتقالي وتحمل الرياح القوية الغبار من الصحراء، ولكن الآن تستمر العواصف حتى الشهر التالي بقوة وأذى أكبر. في عام 2022 وحده؛ تم نقل ما لا يقل عن 10000 شخص إلى المستشفى وقتل شخص واحد بسبب العواصف في العراق. ويؤدي الغبار إلى الاختناق؛ حيث يستيقظ الأشخاص الأكثر صحة في الصباح وهم يسعلون “التراب” لمدة نصف ساعة، وغالبًا ما يستمر السعال لأسابيع، كما تشعر عيون الناس بالحكة حتى في منازلهم؛ حيث يتسرب الغبار من خلال أقل فتحة، ويغطي كل سطح.
ويقول الدكتور محمد فود، المتخصص في أمراض الجهاز التنفسي في مستشفى البصرة العام، إن معظم الحالات التي تأتي إلى المستشفى أثناء العواصف الرملية هي أشخاص يعانون من أمراض الجهاز التنفسي الحادة أو التهاب الجيوب الأنفية الحاد أو تفاقم الحالات الحالية مثل الربو القصبي وتليف الرئة.
ويضيف فود: “أي تفاقم يؤدي إلى دخول المستشفى سيؤثر على السيطرة طويلة المدى على المشكلة و[زيادة التكرار] سيؤدي إلى ارتفاع معدل الوفيات للأمراض المزمنة مثل الربو القصبي ومرضى الانسداد الرئوي المزمن». وقد يعاني المرضى الذين كانوا يتمتعون بصحة جيدة في السابق أيضًا من أعراض تشبه الربو لسنوات، أو حتى مدى الحياة، فيما يشعر فود بالقلق بالفعل من زيادة التعرض للعواصف الرملية التي واجهها الناس هذا العام؛ حيث يقول: “إذا ظلت الظروف الجوية كما هي، فإن تقدم العاصفة الرملية في السنوات القليلة المقبلة سيترك بالتأكيد تأثيرًا على نظام الصحة العامة”.
وحتى عقود قليلة مضت؛ كان العراق يشهد عاصفة أو عاصفتين في السنة، خلال فصل الشتاء. ومع ذلك؛ شهدت البلاد هذا العام أكثر من 10 عواصف رملية منذ أبريل، ويساعد التصحر وانخفاض الأمطار على شدة العواصف؛ حيث يتم تلتقط الرياح – التي أصبحت أقوى من المعتاد – التربة القاحلة والهشة، فتبلغ سرعة الرياح 15 ميلاً في الساعة أو أكثر، بينما يتراوح متوسط سرعة الرياح في السهل الرسوبي للعراق من 6 إلى 9 أميال في الساعة. وتقول الدراسات إنه في العراق لا يتم فصل جزيئات التربة عن السطح إلا عندما تكون سرعة الرياح 15 ميلًا في الساعة أو أكثر، ومن المفهوم أن الرياح بهذه السرعة لا تعتبر قوية بما يكفي عند مقارنتها بالعواصف الرعدية والأعاصير، لكن صغر حجم جزيئات التربة وجفافها وهشاشتها تجعلها قادرة على التحرك والتحول إلى عاصفة ترابية أو عاصفة رملية.
ويوضح الحسن أن الرياح أسرع بسبب تقدم كتلة هوائية قطبية باتجاه المنطقة؛ حيث يقول: “يؤدي هبوط كتلة الهواء البارد الثقيل إلى ارتفاع كتلة الهواء الدافئ الخفيف، وهذا التباين الحراري كافٍ لإحداث حركة سريعة للرياح ورفع الغبار”.
وبالتقدم في المنطقة شمالًا على طول نهر شط العرب من الفاو، تجدها مقفرة؛ فلا يمكن رؤية بقعة خضراء على جانبي الطريق، وتقع فوهات كبيرة من الملح في ما كان في السابق حقولًا، وعند الوصول إلى قرية أبو الخصيب، يسير المزارع اللطيف قاسم عبد الواحد البالغ من العمر 50 عامًا إلى حافة مزرعته التي تبلغ مساحتها 2.5 فدانًا، والمزروعة بأشجار النخيل والحناء والبامية والطماطم والباذنجان، ويشير إلى مياه النهر الملوثة التي لا تصل الآن إلى مستوى عالٍ بما يكفي لري أرضه؛ حيث يقول عبد الواحد: “الآن عليَّ استخدام شبكة المياه العامة التي تذهب إلى منازل المزرعة”.
ويضيف عبد الوحد: “تؤثر ملوحة التربة على كل شجرة على حدة؛ أستطيع أن أرى ذلك. فبدلًا من إعطاء أربع زهور على كل منها، لا يوجد بها سوى برعمين”، مشيرُا إلى أنه بالكاد يحقق ربحًا من أرضه، وهي الدخل الوحيد لعائلته، ويتذكر أنه في السبعينيات، كان طلاب جامعة البصرة يأتون للاسترخاء في أراضي أبو الخصيب، لكن الآن كل شيء مجرد غبار.
وتشير وزارة الزراعة إلى تحركاتها لمنع التصحر، والتي تشمل تشجيع المزارعين على التوسع في زراعة المحاصيل المقاومة للملوحة مثل الطماطم، والتي أثبتت إنتاجيتها العالية في هذه الظروف؛ واستقطاب الشركات العاملة مع الوزارة لاستيراد أنظمة الري الحديثة للتقليل من ضياع المياه، وتكليف الإدارات والمكاتب بتطوير أصناف جديدة تتحمل الملوحة والجفاف؛ والتوزيع المجاني لأصناف الأشجار المثمرة المقاومة للملوحة والجفاف بالتنسيق مع مديريات الزراعة في المحافظات الجنوبية مثل نخيل التمر. ومع ذلك؛ يقول عبد الواحد وإبراهيم، وكذلك العبادي، إن الطماطم والنخيل يعانيان أيضًا في هذه الظروف القاسية، فيما تركز أصناف البذور الجديدة التي يجري تطويرها بشكل أساسي على القمح، وهو محصول يستهلك الكثير من المياه.
وتأثرت حياة سكان الأهوار العراقية، شمال أبو الخصيب، بشدة بسبب أزمة المياه؛ حيث يقول الكرخي – من منظمة حماة دجلة – إن الأهوار تمر بلحظة حرجة، مضيفًا: “إذا استمرت العراق وإيران وتركيا في تدمير الأهوار العراقية، فلن يتمكن الآلاف من عرب الأهوار من ممارسة أسلوب حياتهم المعتاد الذي كانوا يمارسونه منذ آلاف السنين”، وتابع: “ما فعله صدام سنة 1991، نواصل القيام به”، في إشارة إلى عقاب صدام حسين ضد عرب الأهوار في أعقاب الحرب العراقية الإيرانية، عندما جفف الأهوار واتهم عرب الأهوار بالخيانة.
وبحسب البحث الذي أجراه خفاجة أحمد ميس، الأستاذ المساعد في جامعة بغداد، فإن المساحة الإجمالية للأهوار كانت 2.3 مليون فدان سنة 1976، وبعد أن استنزفها صدام، انخفض المستوى بأكثر من 90 ٪ سنة 2000. فبعد سقوط صدام سنة 2003، أعيد غمرها ببطء بعد تفكيك شبكات الصرف من قبل عرب الأهوار أنفسهم والحكومة الجديدة، لكن بحلول سنة 2013، كانت بالكاد قد استعادت 40٪ مما كانت عليه واستمرت في النضوب منذ ذلك الحين.
ويتم التنقل عبر الممرات الضيقة للأهوار، بقارب يدعى “المشوف”، أو الزورق الطويل، والذي يتم من خلال دفع القصب الطويل في الماء، وهو القصب الذي ينمو في مناطق معروفة فقط للسكان المحليين، ويقف الجاموس في الماء بجانب الضفاف أو يظهر من العدم بينما يبحر الصيادون المحليون ويلوحون بابتسامات مشرقة. وغير بعيد؛ يوجد منزل ثاما حتحات، المنسوج من قصب المستنقعات ويقف على جزيرة صغيرة، ويختلط بسلاسة مع محيطه.
ويقدم حتحات نفسه على أنه أبو محمد، وهو غير متأكد من عمره؛ حيث يخمن أنه يبلغ من العمر 41 عامًا، على الرغم من أنه يبدو أكبر سنًا، فيما يقول: “نحن هنا منذ آدم وحواء (زمن بعيد)”، متحدثًا عن أجيال عائلته العديدة، بينما يتجمع أبناؤه الاثني عشر حوله. وتعتمد أسرته، مثل غالبية الناس في الأهوار، على الماء من أجل جواميسهم وصيد الأسماك؛ حيث يتم إرسال الجواميس، كل صباح، من حظائرها إلى الأهوار لترعى، لكنها الآن تعود جائعة، فيما تواجه عائلته أزمة، كما يقول حتحات، لأنهم بحاجة إلى شراء ما قيمته 40 دولارًا من العلف يوميًا لإطعام 30 جاموسًا، قائلًا، بينما يصب أحد أبنائه الشاي: “لم يعد بإمكانها أكل عشب الأهوار لأن المياه ملوثة”.
عادةً ما تبيع عائلة حتحات الأسماك التي يصطادونها لكسب لقمة العيش، بالإضافة إلى حليب الجاموس والقشدة التي يتم تناولها تقليديًا في وجبة الإفطار، ولكن الآن يذهب كل دخلهم للتغذية؛ حيث قال حتحات متأسفًا: “كأننا نبيع منتجات ألبان الجاموس فقط لإبقائها على قيد الحياة”. نور، إحدى زوجات حتحات، تخرج من أكبر منزل من القصب – والذي يُعاد بناؤه كل ثلاث سنوات – وتذكر أنه بسبب انخفاض المياه، هناك القليل من القصب الذي يجب جمعه الآن للقيام بأعمال الإصلاح.
وتصف زينة علي أحمد، الممثلة المقيمة لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي في العراق، النظام البيئي للأهوار بأنه “ينهار”، معتبرة أنه يعتمد على تدفق المياه العذبة من نهري دجلة والفرات، وتضيف: “انخفاض التدفقات في هذه الأنهار يعني أن المياه العذبة تتدفق بشكل أقل وأقل إلى الأهوار، مما يشكل تهديدًا لاستدامة موقع التنوع البيولوجي للتراث العالمي”.
ويعمل أحمد عطا صلاح، البالغ من العمر 52 سنة، وهو يمسك بشبكة في يده وصديقه يقود القارب، بالصيد منذ أن كان في السادسة من عمره مع والده. وبمرور الوقت؛ رأى مسارات المياه تتغير، وشدد على أن أزمة المياه في الأهوار أصبحت أكثر وضوحًا، لا سيما خلال السنة الماضية؛ حيث يقول: “عندما تجف المستنقعات في مناطق أخرى، ستأتي الأسماك وتتجمع في المناطق التي تحتوي على المياه مما يعني أن هناك الكثير من الصيادين في منطقة صغيرة واحدة، وبالتالي تصبح المنافسة أشد، والوضع ليس مستقرًا”. وعند النظر إلى الأهوار الآن، يشعر بألم حزن بسبب تغيرها بمرور الوقت؛ حيث يضيف: “كان المكان أكثر جمالًا، وكان الناس مختلفين، وكان لون المكان مختلفًا، وكان كل شيء أخضر جدًا. بالنسبة لي، هذه لم تعد الأهوار”.
وتعيش أم علي، البالغة من العمر 32 سنة في الأهوار بالقرب من الجبايش، وتنطلق كل صباح في الساعة الثالثة أو الرابعة صباحًا لصيد أكبر عدد ممكن من الأسماك لبيعها في السوق، فهي المعيل الوحيد لأطفالها الستة، خمسة منهم لا يزالون في المدرسة، بعد وفاة زوجها السنة الماضية؛ حيث تقول، وهي جالسة في قاربها: “لن نتمكن من العيش إذا لم أصطد، ولكن هناك بالتأكيد انخفاض في عدد الأسماك التي يمكنني صيدها”، وأضافت: “أنا قلقة من أن تصبح الأهوار شبه جافة في الصيف بسبب انقطاع المياه من السدود، ولكن ماذا يمكنني أن أفعل، سنضطر إلى التسول من أجل المال”.
كما أن التلوث الاشعاعي والتلوث الناجم عن صناعة النفط والصناعة الطبية والصرف الصحي في المناطق الحضرية، إلى جانب تصريف الأملاح من الأراضي الزراعية إلى نهري دجلة والفرات، يؤثران أيضًا بشكل كبير على الجواميس، وهي الوحدة الاقتصادية الرئيسية للأهوار، وبدون مياه عذبة سوف يصابون بالعمى ويموتون.
ويقول أحمد من برنامج الأمم المتحدة الإنمائي: “إن عدم وجود فيضان سنوي منتظم للأهوار بالمياه العذبة يعني أن جودة المياه ليست جيدة لبقاء النظام البيئي وأن وجود أصناف المخلوقات وحياة الإنسان معرضة للخطر”.
تعيش فاطمة في كوخ من القصب وسط الأهوار، ولا تقدم اسم عائلتها، لكنها تبدأ بمحبة في الإشارة إلى جواميسها وتقديمها واحدة تلو الأخرى: بركة، سعادا، نجمة، أحبهم أكثر مما أحب نفسي؛ لقد ربيتهم وأهتم بهم كل يوم، إنهم روحي”. وتمتلك فاطمة 10 جواميس ترافقها، وتعيش بمفردها في منزل صغير من القصب؛ حيث توفي والداها وتزوج أشقاؤها وغادروا إلى مدينة الجبايش، ولقد تعبت فاطمة من العمل بمفردها لسنوات عديدة، مما أجبرها على التوقف عن الصيد، كما أنها لا تستطيع بيع الحليب بعد الآن لأنها لا تستطيع تحمل تكلفة كيس القمح الذي تبلغ قيمته 40 دولارًا لإطعام الجواميس، وبالتالي توقف الجاموس عن إنتاج الحليب.
وأكثر ما يقلق فاطمة هو مدى ملوحة المياه في الأهوار الآن وأن الجواميس لا تستطيع الشرب منها؛ حيث تقول: “يجب أن أبدأ في شراء المياه من الجبايش حتى أشربها أنا والجاموس. لكن في كل مرة يملأون خزانها، يتكلف ذلك من 10 إلى 12 دولارًا”. في السنة الماضية؛ كان عليها استخدام مياه نهر الفرات في الصيف، لكنها كانت شديدة الملوحة، وقد قيل لها إن هذه السنة، في الأهوار التي تعيش فيها، قد يجف النهر لبضعة أشهر؛ حيث تقول: “هذا يعني أنه ليس لدي أي مكان آخر أذهب إليه، أنا لا أعرف ما يجب القيام به. الماء هو الحياة بالنسبة لنا. إذا ذهب، فقد ذهبنا”.
المصدر: مجلة نيو لاينز