سبق علماء العرب والمسلمين أقرانهم من أبناء الحضارات الأخرى في كثير من العلوم التي أصبحت اليوم ضلعًا أساسيًا في الحضارة الإنسانية، ومن بين تلك العلوم الأكثر حضورًا في الوقت الراهن “علم التعمية” الذي يقصد به علم دراسة إخفاء البيانات وقراءاتها وفق رموز محددة، أو كما يطلق عليه “علم التشفير”.
من أبرز رواد هذا العلم عليُّ بنُ محمدِ بنِ عبدِ العزيزِ بن فتوح بن إبراهيم بن أبي بكر بن القاسم بن سعيد بن محمد بن هشام بن عمرو، تاجُ الدينِ، الذي يُعرف باسم “ابن الدريهم الموصلي”، إذ نجح في وضع اللبنات الأولى لهذا المجال الصعب الشائك الذي يحتاج إلى قدرات عقلية ذات معايير خاصة.
استحق ابن الدريهم المولود في العراق عام 1312م لقب “رائد علم التشفير”، لما قدمه من إسهامات خالدة شملت مجالات عدة تتعلق بالدبلوماسية والاقتصاد والإعلام، كانت القاعدة الأساسية لانطلاق العديد من التطبيقات الحديثة كالتجارة الإلكترونية والبطاقات البنكية الذكية، كما كانت النواة الأبرز لتقنية كلمات السر في مختلف التطبيقات.. فماذا نعرف عن هذا العلم؟
العرب وعلم التشفير
كان العرب والمسلمون من السباقين في علم التشفير الذي كانوا يطلقون عليه اسم علم “التعمية”، كناية عن عملية تحويل النص الواضح المكتوب بلغة وحروف معروفة إلى نص غير مفهوم من خلال بعض الطرق التي تغير شكل الكلام إلى رموز وأرقام وحروف تحتاج إلى قدرات خاصة لفك طلاسمها وقراءتها.
ورغم أن هذا العلم كان معروفًا إلى حد ما في بعض الحضارات الأخرى، إذ عرف باللاتينية Cryptographia، وبالإنجليزية Cryptography، فإن إسهامات العرب المسلمين فيه هي الأكبر والأكثر تأثيرًا بشهادة رواد هذا العلم فيما بعد ممن نسبوا للمسلمين فضلهم في إرساء قواعده بشكل منهجي.
يعود تاريخ علم التعمية إلى خمسة قرون قبل ميلاد بن الدريهم نفسه، وذلك حسبما كشفت رحلة البحث عن المخطوطة التي ذكرها المؤرخ الشهير أبو العباس القلقشندي (1355-1418م) في كتابه عن المخطوطة المعنونة بـ”رسالة الكندي في استخراج المعمى” لصاحبها الفيلسوف المعروف يعقوب بن إسحاق الكندي، إذ تعد تلك الرسالة المرجعية الأولى لتأريخ هذا العلم.
وقد أرجع المؤرخ محمد مراياتي، أحد الأعلام المتخصصين في علم التشفير، في كتابه “علم التعمية واستخراج المعمى عند العرب: دراسة وتحقيق لرسائل الكندي وابن عدلان وابن الدريهم”، نشأة هذا العلم إلى العلم الخليل بن أحمد الفراهيدي المتوفى سنة 170هـ، وأنه أول من وضع علم المعمى ووضع قواعد لكتابته وفكه، يليه عالم الكيمياء جابر بن حيان المتوفى سنة 200هـ، من خلال كتابه بعنوان “حل الرموز ومفاتيح الكنوز”، ومن بعده ثوبان بن إبراهيم المعروف بذي النون المصري المتوفى سنة 245هـ، عبر كتابه “حل الرموز وبرء الأسقام في أصول اللغات والأقلام”، يليهم سهل بن محمد بن عثمان السجستاني المتوفى سنة 248هـ، ويعقوب بن إسحاق الكندي المتوفى سنة 260هـ، وأحمد بن علي بن وحشية المتوفى بعد 291هـ، ومحمد بن أحمد بن كيسان المتوفى في القرن الثالث الهجري، وداود بن الهيثم بن إسحاق التنوخي المتوفى سنة 316هـ، حسما ذكر أستاذ التاريخ بجامعة الكويت، محمد حسان الطيان.
ولد علم التعمية بشقيه بين العرب، فهم أول من اكتشف طرائق استخراج المُعَمَّى وكتبها ودونها
ونقل الطيان في دراسة له عن كبير مؤرخي علم التعمية في العصر الحاضر، الباحث الأمريكي ديفيد كهن D.Kahn، ما ذكره نصًا في كتابه “مفكِّكو الرموز” The Code Breakers بشأن فضل العرب والمسلمين في هذا العلم قائلًا: “… لم نعثر في أي من الكتابات التي نَقَّبنا عنها على أي أثر واضح لعلم استخراج المُعَمَّى، وما عدا بعض الحالات المنفردة عرضًا مثل: الإيرلنديون الأربعة، أو سفر دانيال، أو مصريون يمكن أن يكونوا قد استخرجوا بعض الكتابات الهيروغليفية من المقابر، فإنه لا يوجد شيء من علم استخراج المُعَمَّى. ومن ثم فإن علم التعمية الذي يشمل التعمية واستخراج المُعَمَّى لم يولد حتى هذا التاريخ (القرن السابع الميلادي) في جميع الحضارات التي استعرضناها ومنها الحضارة الغربية.
لقد ولد علم التعمية بشقيه بين العرب، فهم أول من اكتشف طرائق استخراج المُعَمَّى وكتبها ودونها. إن هذه الأمة التي خرجت من الجزيرة العربية في القرن السابع (الميلادي)، وانتشرت فوق مساحات شاسعة من العالم المعروف، أخرجت بسرعة، واحدة من أرقى الحضارات التي عرفها التاريخ حتى ذلك الوقت. لقد ازدهر العلم، وصار الطب والرياضيات أفضل ما في العالم، ومن الرياضيات جاءت كلمة التعمية (الشيفرة) في اللغات اللاتينية عامة. وازدهر الفن التطبيقي، وتطورت علوم الإدارة. ولأن ديانة هذه الحضارة حرَّمت الرسم والنحت فقد حضَّت بالمقابل على التعمق في تفسير القرآن، ممّا أدى إلى أن تَنْصب الطاقات الخلاَّقة الكثيرة على متابعة الدراسات اللغوية، مثل كتاباتهم الأدبية في “ألف ليلة وليلة” وفي الألغاز والأحاجي والرموز والتوريات والجناس، وأمثالها من الرياضيات الذهنية اللغوية. وصار النحو علمًا أساسيًا، وأدى كل ذلك إلى الكتابة السرية (علوم التعمية)”.
وقد ذكر كهن في كتابه أنه اعتمد في مؤلفه على كتاب “صبح الأعشى في صناعة الإنشاء” للقلقشندي، الذي كتبه عام 1418م، وفيه خصص فصلًا كاملًا أسماه “إخفاء ما في الكتب من السرِّ” ألقى الضوء خلاله على رجل يدعى ابن الدريهم ورسالته الشهيرة “مفتاح الكنوز في إيضاح المرموز”، وأنه صاحب فضل كبير في هذا العلم، ومن هنا جاء الاهتمام بهذا الرجل بعد عقود طويلة من التجاهل قبع فيها في غياهب النسيان عن كتب التاريخ.
الرحالة الحاذق
نشأ عليُّ ابن الدريهم في أسرة ميسورة الحال في الموصل، لكن توفي والده وهو في سن صغيرة، وحُرم من ثروته ليجد نفسه مضطرًا للعمل من أجل الإنفاق على نفسه، فاجتهد في طلب العلم، وحفظ القرآن برواياته المختلفة على يد العلم الشهير أبي بكر بن العلم الموصلي، كما نقل الفقه عن أقطاب الشافعية في العراق وعلى رأسهم الشيخ زين الدين بن شيخ العوينة، أما النحو والصرف فتعلمه على يد شيخ العربية المعروف أثير الدين أبي حيان النحوي.
وحين صار شابًا رُدت إليه بعض أمواله المسلوبة من إرث والده في الصغر، لينطلق نحو القاهرة وهو في الحادي أو الثاني والثلاثين من عمره، فعمل بداية في التجارة ثم بدأ في قراءة الشعر ودراسته، ثم عاد إلى العراق ثم القاهرة مرة أخرى، وهكذا ظل متنقلًا بين البلدين وثالثتهما حلب حتى استقر به المطاف بعد رحلة مطولة في العاصمة المصرية، بعد ذلك أرسله السلطان الملك الناصر رسولًا إلى ملك الحبشة وهناك انقطعت أخباره حتى وفاته بعد ذلك عام 1361م.
من أشهر المؤلفات التي يعتبرها المؤرخون مرجعًا أساسيًا لهذا العلم كتابه “مفتاح الكنوز في إيضاح المرموز في القراءات الأربع عشرة”
في السنوات التي قضاها ابن الدريهم بين العواصم العربية الثقافية الثلاثة ذاع صيته واشتهر بالذكاء والحذاقة والإبداع، فكان متالقًا في علوم النحو والصرف واللغة، كما امتلك زمام الكلام والحروف وخواصها.
وعنه قال عالم النحو الشهير، صلاح الدين الصَّفديّ: “كان أعجوبة من أعاجيب الزمان في ذكائه، ولم أر أحدًا أحدَّ منه ذهنًا في الكلام على الحروف وخواصها، وما يتعلق بالأوفاق وأوضاعها. ورأيت منه عجبًا وهو أن يقال له ضمير عن شيء يكتبه السائل بخطه، فيكتبه هو حروفًا مقطعة، ثم يكسّر تلك الحروف على الطريقة المعروفة عندهم فيخرج الجواب عن ذلك الضمير شعرًا ليس فيه حرف واحد خارجًا عن حروف الضمير، وله مشاركة في غير ما علمٍ، من فقه وحديث وأصول دين وأصول فقه وقراءات ومقالات ومعرفة فروع من غير مذهب وتفسير، وغير ذلك، يتكلم فيه جدًّا كلامَ مَن ذهنُه حادٌّ وقاد، وأما الحساب والأوفاق وخواص الحروف وحل المترجم والألغاز والأحاجي فأمر بارع، وكذلك النجوم وحل التقويم”.
إسهاماته في علم التعمية
للعالم الفذ مؤلفات عدة في علم التشفير، إذ أرسى من خلالها القواعد الأوليه له مع استحداث العديد من الطرق لقراءة المعمى وفك طلاسمه، وهي الإسهامات التي ساعدت فيما بعد في تطوير مفاهيم التجارة الإلكترونية وتطبيقات الأرقام السرية المستخدمة في المعاملات البنكية والحساسة في هذا العصر التي يعود الفضل فيها لابن الدريهم وأقرانه من علماء العرب والمسلمين.
ومن أشهر المؤلفات التي يعتبرها المؤرخون مرجعًا أساسيًا لهذا العلم كتابه “مفتاح الكنوز في إيضاح المرموز في القراءات الأربع عشرة”، هذا الكاتب الذي تضمن عبر أبوابه المتعددة كل ما يتعلق بالتشفير كتابة وقراءة، حيث استهله بالباب الأول “عُدَّة المترجم” الذي يتناول كل ما يجب لمن يتصدى لهذا المجال من معرفته، وقد أوجزها في 6 مسائل: اللغة التي يروم حل قلمها: (عربية – عبرية – مُغلية – فارسية…)، قواعد هذه اللغة: (وخصوصًا من الناحية الصرفية)، تواتر الحروف فيها:(حروف المد واللين هي الأكثر استعمالًا في كل اللغات)، رسم الحروف (تقطيعها ووصلها): (كل الأقلام مقطعة خلا المغلي والسرياني والعربي فإن حروفها توصل وتقطع)، عدد حروف كل لغة: (المغلي 17حرفًا – الأرمني 36 حرفًا…)، الألفبائيات والأبجديات: (الأولى للحروف والثانية أقلام الحساب).
أما الباب الثاني فجاء تحت عنوان “ضروب التعمية” وقسمها إلى 8 ضروب: المقلوب، الإبدال: (إبدال الحرف بآخرَ على اصطلاح معين كأبجد، أو بيت من الأبيات المشهورة التي تشتمل على كل الحروف)، زيادة عدد الحروف أو نقصانها: (تكرارها أو إسقاط حرف منها حيث وقع…)، استعمال الأدوات: (رقعة الشطرنج – اللوح المثقب)، إبدال أعداد الجُمَّل بالحروف: (محمد: أربعون – ثمانية – أربعون – أربعة)، تعمية الحروف بالكلمات: (علي: عرفت الأمر يسيرًا)، جعل الحروف على أسماء الأجناس: (الألف للأنام، والباء للبقول…)، استعمال أشكال مخترعة للحروف.
كما خصص الباب الثالث الذي عنونه بـ”مقدمة صرفية” للحديث عن اللغة وأسرارها، مركزًا على بعض المسائل منها: أولًا: أطوال الكلمات (- أقلها على حرف واحد: [فِ (الأمر من وفى) – قِ (الأمر من وقى)…]، – أكثرها على 14 حرفًا: (أفلمستنزهاتكما أعددتماها)، حروف الزيادة (هويت السمان)، مبلغ نهاية الأسماء دون زيادة خمسة أحرف، – مبلغ نهاية الأفعال دون زيادة أربعة أحرف، الحروف الذلقية لا تخلو منها كلمة رباعية الأصل أو خماسيته.
ثانيًا: مبلغ تكرار الحرف الواحد، – في الكلمة الواحدة خمس مرات، كقوله: (ما رأينا كُكَكاً كَكُكَكِكَ)، – في الكلام المتصل تسع مرات كقوله: لا تردِّدْ دَدُ دَدْ دَدُ دعني من فَنَدْ [دَدُ الأول اللعب، والثانية موضع، والثالثة اسم رجل منادى]، وثالثًا: اقتران الحروف وتنافرها: وهو على 3 أنواع: ما لا يقارِن بعضه بعضًا لا بتقديم ولا بتأخير، نحو: (ث: لا يقارن ذ، ز، س، ص، ض)، بما يقارن بتقديم، نحو: (ع مع هـ)، ما يقارن بتأخير، نحو: (د: لا يتقدم على ز، ص، ط).
توجد العديد من المؤلفات والرسائل لابن الدريهم أثرت هذا العلم لعقود طويلة منها: “اقتناع الحُذَّاق في أنواع الأوفاق” و”إيضاح المُبْهَم في حلّ المُتَرْجَم” و”إيقاظ المصيب في الشطرنج والمناصيب”
وفي الأخير اختتم مؤلفه الشامل بفصل كامل عن “منهجية حل الترجمة” وهو بمثابة الروشتة التي يستخدمها الباحث لفك طلاسم الكلام المعمى والوصول إلى معناه المكتوب حرفًا ونصًا، وقد قسمه إلى عدة خطوات: أولها عد الحروف أو الأشكال المستعملة، ثم حصر تكرار كل منها، يليها استخراج الفاصلة، ومن بعدها مطابقة تواتر وقوع الأشكال ضمن النص المعمى ومقاربته من تواتر دوران حروف اللغة، (ولا بد أن يكون الكلام كثيرًا ليصح ذلك)، ومعها استعمال أطوال الكلمات (الثنائية، الثلاثية…) والكلمات المحتملة.
وبجانب هذا الكتاب توجد العديد من المؤلفات والرسائل لابن الدريهم أثرت هذا العلم لعقود طويلة منها: “اقتناع الحُذَّاق في أنواع الأوفاق” و”إيضاح المُبْهَم في حلّ المُتَرْجَم” و”إيقاظ المصيب في الشطرنج والمناصيب” و”بسط الفوائد في شرح حساب القواعد” و”بوادر الحلوم في نوادر العلوم” و”تصاريف الدهر في تعاريف الزّجر” و”ذات القوافي” و”سبر الصرف في سرّ الحرف” و”سلَّم الحراسة في علم الفراسة” و”شرح الأسْعَرْدِيّة في الحساب” و”غاية الإعجاز في الأحاجي والألغاز” و”غاية المَغْنَم في الاسم الأعظم” و”قصيدة في حَلِّ رموز الأقلام المكتوبة على البرابي” و”كنز الدّرر في حروف أوائل السور” و”مختصر المُبْهَم في حلِّ المُتَرْجَم” و”المناسبات العددية في الأسماء المحمّديّة” و”مناسبة الحساب في أسماء الأنبياء المذكورين في الكتاب” و”منهج الصواب” وكتاب “نظم لقواعد فَنِّ المُتَرْجَم وضوابطه”.
هذا الاستعراض المبسط لإسهامات ابن الدريهم في علم التعمية “التشفير” والخدمات التي قدمها للبشرية التي لا تزال تجني حصادها حتى اليوم، دليل قاطع على قيمة وقامة هذا العالم الذي يستحق أن تُسلط عليه الأضواء، ومن النكران بمكان أن تُجهل سيرته ويظل أسير تجاهل وظلم وافتراء في الوقت الذي تتركز الأضواء على من هم دونه بسنوات ضوئية.