في عالم السياسة، عادة ما يكون دور القنصلية الرسمية كبعثة دبلوماسية هو تمثيل البلد الأم والدفاع عن مصالحها في الدولة المضيفة، بالإضافة إلى تسهيل شؤون مواطنيها المقيمين في هذه الدولة، ومساعدتهم على تسيير أمورهم القانونية.
لكن مهمة البعثات الدبلوماسية لنظام الأسد تبدو على النقيض، إذ تمثّل ثقبًا أسود يلاحق المغتربين السوريين الهاربين من بطش النظام، وتهيّج عندهم الذاكرة الجمعية عقودًا من الذل تحت حكم الأسد منذ حافظ، وتذكّرهم بالرابط الوحيد الذي يربطهم بهذا النظام، عبر خنقهم بورقة الوثائق الرسمية التي لم يستطع السوريون التحرر منها أينما حلّوا.
في هذا التقرير، نسلّط الضوء على القنصلية السورية في إسطنبول ذات المنهجية الاستبدادية المتوارَثة، التي ما زالت تمارسُ إجراءاتها التشبيحية على 3.7 ملايين سوري مقيم في تركيا.
نظام جباية للكسب السريع
يتّخذ النظام السوري من القنصليات السورية المنتشرة في دول العالم مركزًا رئيسيًّا لجمع الأموال وإرهاق جيوب المغتربين السوريين، الذين يضطرون دفع المال مقابل استخراج الوثائق الرسمية، ويعتمد النظام هذه السياسة لرفد خزينة الدولة بالعملة الصعبة، لا سيما بعد العقوبات الاقتصادية الأمريكية التي فُرضت عليه، وبعد قطع سوريا عن النظام المصرفي العالمي يعتمد الأسد على تهريب هذه الأموال إلى سوريا عبر الحقائب الدبلوماسية، ما يعتبر انتهاكًا لميثاق “فيينا 1961” بشأن العلاقات الدبلوماسية.
تعتبر رسوم الإعفاء من الخدمة الإلزامية المصدر الأكبر الذي يدرّ الأموال على النظام السوري، حيث بلغت قيمة “بدل الخدمة” العسكرية الإلزامية التي يتقاضاها النظام السوري من المغتربين السوريين في مختلف دول العالم 8 آلاف دولار عام 2014، بينما كانت حوالي 4 آلاف دولار أمريكي، ما وفّر للنظام السوري مبالغ هائلة تضاف إلى خزينة الدولة.
بلغت إيرادات النظام السوري من المبالغ التي يتم تحصيلها في القنصليات السورية مقابل “بدل الخدمة” العسكرية، حوالي 240 مليار ليرة سورية -60 مليون دولار- عام 2021، بزيادة 70 مليار ليرة سورية -17.5 مليون دولار- عن عام 2020، ما ساهم في ارتفاع نسبة هذا المورد في الميزانية السورية العامة إلى 3.2%، بزيادة نسبة 1.75% عن عام 2020.
يضطر المواطن السوري دفع رسوم 300 دولار لاستخراج جواز سفر صالح لمدة عامَين فقط في الأحوال العادية، و800 دولار للحصول عليه بشكل مستعجل
وتنتشر ظاهرة دفع البدل بصورة كبيرة في أوساط الشباب السوريين في الشتات والذين لديهم بارقة أمل في العودة إلى سوريا فيما لو جرت تسوية ما للأزمة، كما يأتي هذا خصوصًا بعد إعلان مديرية التجنيد العامة بسوريا في فبراير/ شباط عام 2021 عن لائحة جديدة، تسمح للسلطات الرسمية بوضع يدها على ممتلكات المتهرّبين من الخدمة الإلزامية وعائلاتهم ممّن تتراوح أعمارهم بين 18 و42 عامًا، ما أجبر الكثير من السوريين أصحاب الأصول في سوريا على دفع هذه المبالغ للنظام السوري، مقابل الحفاظ على ممتلكاتهم أو إجراء الوكالات الرسمية.
ورغم إدراج الجواز السوري في أدنى قائمة جوازات السفرعالميًّا، الذي يمنح لصاحبه حق الدخول إلى 29 دولة فقط دون تأشيرة معظمها من الدول الأفريقية، إلا أنه احتلَّ المرتبة الأولى عالميًّا من حيث تكلفة الإصدار، ما جعل هذا المصدر ثاني أكبر الموارد التي توفر العملة الصعبة للنظام السوري.
يضطر المواطن السوري دفع رسوم 300 دولار لاستخراج جواز سفر صالح لمدة عامَين فقط في الأحوال العادية، و800 دولار للحصول عليه بشكل مستعجل خلال أسبوعَين من قنصليات النظام السوري، ما ساهم في رفد خزينة الدولة من العملة الصعبة بمبالغ كبيرة، حيث قدَّرت وزارة الداخلية التابعة للنظام السوري عام 2020 مبالغ إصدار جوازات السفر وحده بنحو 21.5 مليون دولار.
لا يقتصر النظام السوري على هذه الموارد في تأمين الأموال، إذ إنه لا يوفّر أي حاجة من حاجات المغتربين السوريين في بلدان إقامتهم إلا ويفرض عليهم رسومًا وإجراءات، بدءًا من عمليات تسجيل الأطفال ومعاملات الزواج والطلاق، وليس انتهاءً باستخراج الوكالات وتصديق الوثائق الرسمية.
تخلُّف ممنهَج وعقلية استبدادية
تقع القنصلية السورية في تركيا في أحد الأبنية القديمة في الطابق الثالث من إسطنبول الأوربية، في حي نيشان تشي في عثمان بيه التابع إداريًّا لبلدية ششلي، وبمساحة لا تتجاوز الـ 100 متر مربع يتصدرها صورة كبيرة لبشار الأسد، يتم فيها إجراء وتسيير المعاملات الخاصة بـ 3.7 مليون سوري مقيم في تركيا.
قبل عام 2015، كان المواطن السوري الذي يحتاج إلى إجراء معاملة في القنصلية السورية يضطر إلى الذهاب باكرًا أو النوم على الرصيف تحت بناء القنصلية السورية، ليأخذ دورًا في طابور المنتظرين، عساه يحالفه الحظ في الوصول إلى موظف القنصلية لينهي له معاملته.
ومع تزايد عدد السوريين في تركيا ألغي نظام الطابور النابع من عقلية المؤسسات السورية الرسمية، والتحول إلى نظام حجز المواعيد عبر الموقع الإلكتروني التابع للقنصلية السورية، وهنا برز دور السماسرة التابعين إداريًّا لموظفي القنصلية السورية، حيث لم يتمكّن السوريون من الحجز وأخذ دور دون اللجوء إلى أحد هؤلاء السماسرة والدفع لهم، حيث تراوحت المبالغ التي يدفعها السوريون للسماسرة بين 100 و500 دولار، حسب نوع المعاملة.
بعد مدة زمنية، أعلنت القنصلية السورية عن اتّباع نظام جديد في حجز المواعيد، عن طريق تعبئة استمارة بنوعية المعاملة المطلوبة، وإرسالها إلى الإيميل الخاص بحجز المواعيد في القنصلية السورية، لكن كسابقاتها من الطرق لم يتمكّن السوريون من الحجز دون اللجوء إلى وسيط مقابل المال لإجراء معاملاتهم في القنصلية.
وفي 25 يونيو/ حزيران من هذا العام، تمَّ إعلان توقف تلك الطريقة لحجز المواعيد من قبل القنصلية التابعة للنظام، والانتقال إلى طريقة جديدة عن طريق الحجز من خلال تطبيق واتساب، حيث نشرت القنصلية السورية عبر موقعها الإلكتروني رقمًا للتواصل يتيح للسوريين إرسال رسالة إليه لحجز موعد، على أن تتضمن الرسالة الاسم الثلاثي واسم الأم والمواليد، إضافة إلى إرفاق صورة وثيقة رسمية تثبت هوية صاحب العلاقة، مرفقة بنوع المعاملة المراد إجراؤها.
يظل المواطن السوري ملاحَقًا من شبح المؤسسات السورية القائمة على عقلية قمعية استبدادية تعتمد على استعباد المواطن السوري أينما حلَّ.
وبين الوقت الذي أوقفت القنصلية السورية نظام الحجز عن طريق الإيميل والانتقال إلى نظام الحجز عبر واتساب، أعلنت أنه في تاريخ 23 يونيو/ حزيران 2022 سيتمكّن من أراد إجراء معاملة في القنصلية السورية من إتمامها دون الحاجة إلى حجز موعد، وهذا ما دفع خالد، الشاب السوري الذي يصارع لاستخراج إقامة تمكّنه من المكوث في تركيا بشكل قانوني، إلى الذهاب إلى القنصلية في ذلك اليوم والانتظار، علّه يحظى بتصديق “بيان العائلة” الذي طلبه منه موظف دائرة الهجرة التركية في إسطنبول.
وقف خالد بين المئات من المنتظرين، ليتفاجأ بأحد الأشخاص (سمسار) معه ورقة وقلم يقوم بطلب مبلغ 150 دولارًا مقابل تسجيل اسمه والسماح له بالدخول إلى قنصلية النظام، ويقول بصريح العبارة: “من لا يدفع لن يدخل”، ولم يتمكن خالد من الدخول إلى قنصلية النظام السوري وتصديق الورقة المطلوبة، ليأتي الردّ على إقامته بالرفض من قبل دائرة الهجرة التركية، وهو الآن مطلوب منه الخروج من تركيا بأسرع وقت حتى لا يتعرض للترحيل.
يظل المواطن السوري ملاحَقًا من شبح المؤسسات السورية، بكافة تشكيلاتها القائمة على عقلية قمعية استبدادية تعتمد على استعباد المواطن السوري أينما حلَّ، فرغم قطع العلاقات الدبلوماسية بين الدولة التركية وحكومة النظام السوري، إلا أن العلاقات القنصلية ما زالت قائمة، إذا تُعد بتعريفها المطلق خدمية أكثر من كونها سياسية.
بين الدولة واللادولة
وهنا يتبادر سؤال للأذهان، لماذا يحتاج السوري في تركيا مراجعة قنصلية بلاده من أجل استخراج أوراقه؟
لم يعانِ السوريون المقيمون في تركيا من صعوبة كبيرة في إتمام معاملاتهم القانونية سابقًا، كون الحكومة التركية كانت تتساهل في قبول بعض الأوراق الرسمية دون النظر إلى تصديقها من القنصلية السورية في إسطنبول، إلا أنه منذ بداية عام 2022 أصبحت الدوائر التركية لا تقبلها دون التصديق عليها من القنصلية السورية، وهذا ما أكّده محمد، مدير إحدى شركات الاستشارات القانونية والخدمية في تركيا، بقوله: “أصبحت الحكومة التركية تعامل السوريين مثلهم مثل أي مواطن عربي آخر، بصرف النظر عن الصعوبات والإهانات التي يتعرضون لها من قنصلية بلدهم”.
يروي الشاب أحمد المقيم في تركيا لـ”نون بوست” قصته مع القنصلية السورية في إسطنبول، وكيف اضطر دفع 450 دولارًا خلال شهرَين لتصديق بعض الأوراق لإتمام عملية تسجيل مولوده الجديد الذي بلغ 4 أشهر، حيث تبدأ قصته عندما ذهب إلى دائرة الهجرة من أجل تسجيل مولوده واستخراج إقامة له، ليطلب منه موظف الهجرة بيانًا عائليًّا مصدقًا من القنصلية السورية بسبب خطأ طباعي في إقامة زوجته.
الحكومة التركية مطالبة بخطوات تحجّم من الإجراءات المعقدة التي تمارسها قنصلية النظام
استطاع أحمد عن طريق أحد أقاربه استخراج بيان العائلة من سوريا وإرساله إلى تركيا، لتبدأ معاناة حجز موعد في القنصلية السورية لتصديق هذا البيان، بداية حاول أحمد التهرب من اللجوء إلى وسيط لحجز موعد في القنصلية، تجنُّبًا لدفع الرسوم الكبيرة التي يطلبها السمسار، لكنه بعد أكثر من محاولة باءت بالفشل في حجز موعد بنفسه، اضطر دفع 250 دولارًا لحجز موعد تصديق، وبعد أسبوع استطاع الحصول على بيان مصدَّق من القنصلية السورية.
لم تنتهِ قصة ضيفنا، إذ إنه بعد أن أتمَّ أوراقه، ذهب مرة ثانية إلى دائرة الهجرة التركية، لكنه تفاجأ بطلب جديد من موظف الهجرة، وهو تصديق جواز السفر الخاص بمولوده، وبسبب ضيق الوقت واقتراب وقت انتهاء صلاحية الأوراق التي كلّفت أحمد 3 أشهر لإتمامها، لجأ إلى الوسيط نفسه لحجز موعد سريع لتصديق جواز السفر، ليضطر إلى دفع 100 دولار أخرى لإتمام معاملته.
قصة أحمد واحدة من آلاف القصص لـ 3.7 ملايين سوري مقيم في تركيا، يعانون من ملاحقة شبح المؤسسات السورية القائمة على القمع والاستعباد، حيث يبقى اللاجئ السوري رهين صراع وعراك بين الأوراق والشروط التي تطلبها الدولة المستضيفة، وبين تأمين هذه الأوراق وتوفير تلك الشروط من اللادولة، التي يُعتبر أنه ينتمي إليها ومهمتها تأمين الراحة له وتسهيل معاملاته.
هل من حلول؟
في سؤالنا عن إمكانات وجود حلول تخفّف حدة هذه المشكلة الكبيرة التي يعاني منها السوريون في دول اللجوء، وخاصة في تركيا، يجيب مؤيد حبيب، مدير مركز مقاربات للتنمية السياسية: “يمكن التخفيف إلى حد كبير من هذا العبء الكبير عن السوريين في الاستفادة من تجارب دول أخرى، عن طريق توفير نظام حجز موعد احترافي، سواء عن طريق الموقع الإلكتروني أو عن طريق تطبيق هاتف ذكي، ينجي السوريين من استغلال السماسرة وموظفي القنصلية السورية، أو من ناحية أخرى يمكن الاستفادة من تجربة تركيا في لبنان، عن طريق فتح مكاتب خارجية مستقلة مرخّصة ومؤهَّلة لإتمام وتسهيل معاملات السوريين في تركيا”.
ومن ناحية أخرى، يضيف حبيب أن “موضوع الحد من الإجراءات الصعبة التي تستغل فيها القنصليات السورية مواطنيها، متعلق بشكل كبير بالدول المضيفة والعقلية التي تستخدمها، من تحجيم الإجراءات المعقدة للنظام السوري أو التماهي معها”.
ويرى ضيفنا أنه “إذا بقيَ النظام السوري قائمًا، لا يمكن حل هذه المعضلة مهما اُقترح من حلول أو عُقد من اجتماعات، كون هذا النظام قائمًا على العقلية القمعية الاستعبادية التي تستغل حاجة السوريين، وتتّخذ منها مصدرًا للكسب السريع ولرفد خزينة الدولة بالعملة الصعبة”.
في النهاية، ليس قدرًا على السوري البقاء أسير الانتظار الدائم، إذ إن السوريين المقيمين في تركيا ينتظرون خطوات صارمة من قبل الحكومة التركية، تحجّم من الإجراءات المعقدة التي تمارسها قنصلية النظام السوري بحق السوريين المقيمين على أراضيها.