تشهد القاهرة في الساعات الأخيرة عددًا من الأحداث الساخنة التي تنتمي إلى مجالات مختلفة، فمن زيارة جماعية لقادة عدد من الدول العربية إلى ساحل المتوسط لمناقشة أوضاع الإقليم، إلى ترقُّب لما ستؤول إليه المفاوضات مع الجهات الدولية المانحة بغية الحصول على قرض ملياري عاجل، وصولًا إلى الحدث الاستثنائي كليًّا الذي نسلّط عليه الضوء هنا: توتر العلاقات المصرية مع دولة الاحتلال.
زيارة غير مخطَّط لها
تبدّى هذا الطابع غير المستقر حديثًا في العلاقات بين الطرفَين اللذين تربطهما اتفاقية سلام تجاوز عمرها 40 عامًا، في الزيارة التي وصل خلالها رئيس جهاز الأمن العام لدولة الاحتلال “الشاباك”، رونين بار، إلى مصر خلال الساعات الأخيرة، قبل تدوين هذا الموضوع.
لا تتعلق الغرابة هنا في محض الزيارة نفسها، إذ تكثّفت الزيارات بين مسؤولي الجانبَين على نحو ملحوظ خلال الأعوام الأخيرة لبحث القضايا الأمنية المشتركة، والتي تُعقد، عندما تُعقد في الجانب المصري، في مدينة شرم الشيخ، ذات الدلالة الثقافية والسياسية؛ وإنما تتعلق بكونها زيارة لم يعلَن عنها مسبقًا، من مسؤول بارز، في جهاز لا يعتاد الذهاب إلى مصر.
السرّ وراء تلك الزيارة يرتبط بآثار العملية العسكرية التي شنّها الجيش الإسرائيلي قبل أسبوعَين على حركة الجهاد الإسلامي في قطاع غزة المحاصر.
فأغلب الزيارات المنسَّقة بين البلدَين تتمّ عادة عبر مسؤولين في مؤسسات الجيش أو الحكومة، أو من جهاز “الموساد” الذي يعدّ نظيرًا لجهاز المخابرات العامة المصرية، المسند إليه ملف إدارة العلاقات مع تل أبيب والفصائل الفلسطينية في غزة، ما أضاف بعضًا من الضبابية والترقب حيال تلك الزيارة التي يقوم بها رئيس الشاباك.
غير أنّ مصادر صحفية، من الجانب العبري، أشارت إلى أن السرَّ وراء تلك الزيارة يرتبط بآثار العملية العسكرية التي شنّها الجيش الإسرائيلي قبل أسبوعَين على حركة الجهاد الإسلامي في قطاع غزة المحاصر، تزامنًا مع اغتيال قائد الجناح العسكري في الحركة، تيسير الجعبري، وهي العملية التي تضمّنت تفاصيل أدّت إلى إزعاج القاهرة.
تلاعُب بالقاهرة
من المفترض أن اتفاق وقف إطلاق النار الذي أشرفت القاهرة على إبرامه بين طرفَي جولة القتال الأخيرة، قد تضمّن، كما ذُكر رسميًّا وإعلاميًّا، أن تضطلع الأجهزة المصرية بالتدخل لدى الاحتلال للإفراج عن المعتقلَين البارزَين من حركة الجهاد في الضفة الغربية، خليل العواودة وبسام السعدي، وهو البند الذي ساعدَ في إخراج وقف التصعيد بشكل مرضٍ لجميع الأطراف، في ظلِّ تحقيق الجيش الإسرائيلي نقاط عسكرية مهمة في تلك الجولة.
إلّا أن قيادات رفيعة في مؤسسة الجيش في “إسرائيل”، ردّت على هذه الأخبار للصحافة الداخلية بالنفي، مشيرة إلى أن ما تعهّد به الإسرائيليون للقبول بوقف إطلاق النار بعد إنجاز العملية، التي أطلقَ عليها الجيش اسم “الفجر الصادق”، معظم أهدافها، هو الهدنة المجردة، دون التزامات أخرى.
أدّت تلك الخطوة كما تتحدث المصادر العبرية، إلى إحراج شديد للوسيط المصري أمام الرأي العام المحلي في مصر، وأمام الفصائل العسكرية في قطاع غزة، خاصة مع الأخذ في الاعتبار ما يتردد كثيرًا عن أن الجانب الإسرائيلي يستخدم ثقل الوسيط المصري لدى الجانب الفلسطيني لإنجاز أهدافه السياسية والعسكرية بشكل حصري.
تبلور ذلك الغضب المصري في صورة تصريحات من أحد المسؤولين الأمنيين رفيعي المستوى في المؤسسة الأمنية المصرية، لم يذكر اسمه، لإذاعة جيش الاحتلال، والتي قال في مضمونها إن القاهرة تشعر بانزعاج ممّا يبدو أنه تعمُّد بالتلاعب بها، في خضمّ الصراع السياسي الداخلي قبل الانتخابات البرلمانية المرتقبة في “إسرائيل”.
مواقف متراكمة
إضافة إلى ذلك، يشير دورون كدوش، المراسل في إذاعة جيش الاحتلال، أن الشهور الأخيرة شهدت عددًا من الملاحظات التي أبلغتها القاهرة إلى الجانب الإسرائيلي، فيما يخص الطريقة التي يعالج بها الإعلام العبري المفتوح، قياسًا على الوضع في القاهرة، الأخبار الحساسة مع الجانب المصري.
يظلُّ ما أزعج القاهرة، أكثر من خبر إسقاط المسيَّرة المصرية رخيصة الثمن بعد اجتيازها خط الحدود، هو وجود مقبرة جماعية لجنود مصريين دُفنوا أحياء خلال حرب يونيو/ حزيران 1967.
ويتحدث هنا دورون عن واقعتَين بعينهما، الأولى هي سماح الرقابة العسكرية لدى الجيش الإسرائيلي بنشر خبر إسقاط طائرات عبرية مقاتلة لطائرة مسيَّرة مصرية ضلّت طريقها إلى الأراضي المحتلة، في يونيو/ حزيران الماضي.
وقد جاء في الخبر، الذي ترددت الأوساط العبرية الرسمية في نشره حينها ولم تنشره إلا بعد يومَين من الواقعة، أن طائرة مقاتلة تابعة لسلاح الجو الإسرائيلي أقلعت من قاعدة رامون الجوية القريبة من الحدود المصرية، وأطلقت صاروخ جو-جو اتجاه مسيَّرة مصرية غير مسلحة فقدت الاتصال مع مصدرها، خلال عمليات استطلاع للحركات المسلحة في شمال سيناء، وذلك بعد أن تعقّبت وسائل الدفاع الجوي العبرية الطائرة بدءًا من اقترابها من خط الحدود وحتى وصولها إلى جبل ساغي في النقب، بالتنسيق مع الجانب المصري.
ليس معلومًا إلى الآن ما الذي أغضب الجانب المصري تحديدًا، في ظلِّ تحري الإعلام الرسمي التابع للجيش الإسرائيلي صياغة الخبر على نحو مرضٍ لجميع الأطراف، حيث ركّزت الصيغة على الإشارة إلى أنها: غير مسلحة، وضلّت طريقها إلى المجال الجوي للنقب، وأن إسقاطها تمَّ بالتنسيق مع الجانب المصري.. فهل تحفظت الأجهزة المصرية على نشر الخبر نفسه، أم أنها رأت في ذكر فقدان السيطرة على الطائرة إساءة من نوع ما؟
وفي كل الأحوال، يظلُّ ما أزعج القاهرة، أكثر من خبر إسقاط المسيَّرة المصرية رخيصة الثمن بعد اجتيازها خط الحدود، هو ما كشفت عنه الصحافة العبرية، في وقت متزامن تقريبًا، عن وجود مقبرة جماعية لجنود مصريين دُفنوا أحياء خلال حرب يونيو/ حزيران 1967 في القدس، حيث لا يقلّ عددهم عن 20 جنديًّا.
إعلام الاحتلال
بينما يمكن للقاهرة أن تؤثر جذريًّا في إعلامها المحلي وطُرق تناوله للقضايا المختلفة بفضل سطوتها الأمنية الكاملة، فإن تلك الإمكانية تتقلص نسبيًّا لدى سلطات الاحتلال التي لا يمكنها أن تؤثر بشكل شمولي وكامل على وسائل الإعلام المحلية لديها لاعتبارات سياسية.
هذا هو المضمون الذي يشير إليه الخبراء تعليقًا على بعض الحوادث الأخيرة بين الجانبَين، وعلى رأسها الكشف عن وجود مقبرة لجنود مصريين دُفنوا أحياء في نطاق اللطرون، شمال غرب القدس، منذ أكثر من 50 عامًا.
فكما ذكر أبو بكر خلاف، الباحث في الشؤون العبرية، فإنّ أول كشف عن تلك الواقعة كان عام 1999، حينما عثرَ مستوطن من مستوطنة نحشون على مقبرة تحوي رفات، رجّحت المصادر المحلية حينها أنها تعود لجنود مصريين قاتلوا مع الجيش الأردني خلال نكسة يونيو/ حزيران 1967.
ومنذ ذلك التوقيت، اتفق الجانبان المصري والعبري ضمنيًّا على التكتم على ذلك الملف، منعًا لإثارة الرأي العام في البلدَين، حيث تعدّ الحادثة جريمة أخلاقية تضاف إلى جرائم قيادات الاحتلال تاريخيًّا، ومن الوارد أن تقود، نظريًّا على الأقل، إلى محاكمة الضالعين فيها دوليًّا، إن كانوا أحياء، كما أنها تسبّب إحراجًا للجانب المصري في الأوساط المحلية، كما شرح أحمد كامل البحيري من مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية لـ”بي بي سي”.
هذا التوتر بين الطرفَين، وإن كان متشعّبًا وجديدًا على هذا النحو، إلا أنه يظل “لحظة عابرة لا يتوقع أن تؤثر على مستوى التنسيق الأمني بين الجانبَين”.
وكشف الصحفيون الإسرائيليون، أمثال رونين بيرغمان ويوسي ميلمان، عن الحادثة بشكل مفصّل مؤخرًا، وقالوا إن عدد الجنود المصريين المدفونين أحياء فيها قد يصل إلى 80 جنديًّا، ما أدّى إلى إشعال الفتيل الذي تجنّب الطرفان الاقتراب منه لعقود، إذ ثار الرأي العام المصري على الواقعة، بينما حاول الجانب الإسرائيلي، ممثلًا في يائير لابيد رئيس الحكومة وبيني غانتس وزير الجيش، احتواء الجانب المصري، بالتأكيد للسيسي وعباس كامل على أن الأمر سيخضع لتحقيق جادٍّ وفوري.
آفاق العلاقة بين الطرفَين
اتخذت العلاقة بين الطرفَين خلال الأعوام الثمانية الأخيرة نمطًا من “التقنين”، بنصّ وصف سمير راغب، رئيس المؤسسة العربية للتنمية والدراسات الاستراتيجية، حيث وافقت القاهرة في مارس/ آذار الماضي على تسيير رحلات جوية منتظمة بين شرم الشيخ وتل أبيب عبر شركة الطيران الرسمية “مصر للطيران”، بعد عقود من تسييرها سرًّا عبر شركة سيناء للطيران، دون إشارة إلى الهوية المصرية للشركة، تقديرًا للحساسيات بين الجانبَين.
في المقابل، وافقت “إسرائيل” في نوفمبر/ تشرين الثاني 2021 للجانب المصري على تعديل البند الأمني في اتفاق السلام، بحيث يمكن للجيش المصري تدعيم وجوده الهادف إلى الحفاظ على أمن الحدود بقوات مسلحة تسليحًا جيدًا، عوضًا عن قوات الشرطة المدنية المنصوص عليها في المنطقة “ج” المتاخمة لخطّ الحدود الدولي، بعد أعوام من طلب الجانب المصري مرارًا من نظيره الإسرائيلي الموافقة على التعزيزات التي تُرسل إلى تلك المنطقة، ما كان يؤدّي إلى مشاكل تقنية في الحرب على التنظيمات الإسلامية.
وبينما أنعشَ الجانب المصري ميزانية الحكومة الإسرائيلية في عهد بنيامين نتنياهو بعقد تاريخي يقدَّر بنحو 20 مليار دولار، على مرحلتَين، لتوريد حوالي 85 مليار متر مكعب من الغاز الإسرائيلي سنويًّا لمصر على مدار 15 عامًا، فإنَّ تقارير أمريكية أفادت مطلع العام الحالي بقيادة أطراف إسرائيلية التفاوض مع الجانب الأمريكي لتسهيل حصول مصر على مقاتلات إف-15 الأمريكية المتطورة، بغرض الحفاظ على العلاقات المصرية الأمريكية بطابعها التاريخي المتميز.
بناء على تلك المعطيات، يقول مركز صدارة للمعلومات الأمنية إنّ هذا التوتر بين الطرفَين، وإن كان متشعّبًا وجديدًا على هذا النحو، إلا أنه يظل “لحظة عابرة لا يتوقع أن تؤثر على مستوى التنسيق الأمني بين الجانبَين”، خاصة لو تمكّن الطرفان من تسوية ملف مقبرة الجنود المصريين، وتخفيف التصعيد من جانب قوات الاحتلال في الضفة الغربية بحقّ عناصر الجهاد الإسلامي، خلال زيارة رئيس الشاباك حاليًّا.