دأب الجنرال السيسي خلال خُطبه على الاحتفاظ بذكرٍ لثورة الخامس والعشرين من يناير معترفًا بها كثورة أولى كأحد لوزام الخطابات الشعبوية لاستمالة الفئة الباقية المناصرة لثورة يناير بالاضافة إلى الحديث عن انقلابه في الثالث من يوليو عام 2013 الذي يُرَوج له كثورة ثانية، لكن هذا في الحقيقة كان أحد أسباب خلافه مع تحالف الدولة القديمة الذي خاض غمار تظاهرات الثلاثين من يونيو قبيل الانقلاب العسكري بعدة أيام موفرًا الغطاء الشعبي له حيث يرى هذا التحالف الذي يمثل العمود الفقري للثلاثين من يونيو أنه في خصومة مع ثورة يناير وأبنائها جميعًا أيًا كان طيفهم وأن عداؤهم ليس عداءً للاسلام السياسي فحسب ولكنه عداءً لكل مكونات يناير فرفضوا توجهات السيسي التي نحت تجاه الاعتراف بيناير كثورة.
وحينما تنظر إلى معسكر الثلاثين من يونيو الحالي تراه قد جمع مؤسسات أمنية متعاونة فيما بينها وبين رجال أعمال الحزب الوطني المنحل الواجهات الاقتصادية للحزب ورجاله الأوفياء بالإضافة إلى الرافضين لنهج التيار الإسلامي في الحكم كخصوم أيديولوجين والذين تم التخلص منهم فيما بعد من قبل أغلبية التحالف الدولة القديمة الذي أتى في الحقيقة ليثأر من معسكر يناير وشبابه ككل.
فمن الطبيعي أن يوجه هذا التحالف ضغطه تجاه الجنرال السيسي ليسير على خطى ثورة يناير بممحاه مدفوعٌ ثمنها مقدمًا مستغلين حاجة الجنرال إليهم لتدعيم نظام حكمه الجديد في مواجهة أي محاولات شعبية للانقضاض عليه، فتجد بعد ذلك قنواتهم وصحفهم ومحلليهم يتحدثون عن المؤامرة الكونية الدائرة التي نتجت عنها يناير مع تشويه أي رمز شارك بها، في حملات كانت منهجيتها واضحة للنيل من ثورة يناير بأية طريقة بإلصاق كافة النقائص بها وبمعسكرها المتشرذم مع الحديث عن أمركتها وعمالة المشاركين فيها و دورالجهات الأجنبية بها وكأن هذا فقط قد ظهر عقب أكثر من سنتين ونصف.
كان للجنرال رأي آخر بخصوص هذا النهج وأنه من المبكر الانقضاض على ثورة يناير واطلاق عليها رصاصة الرحمة فما زلنا بحاجة إلى عزف بعض الالحان القديمة لاستمالة الشباب الحانق في الشوارع حتى أنه حاول التخلص من هذا الضغط الذي يقع عليه من حلفائه فأكد في تصريحاته أنه لا يوجد مجال للعودة إلى ما قبل 25 يناير ما أغضب أقرانه ومريديه في معسكر الثلاثين من يونيو فكيف للجنرال أن يحرمنا من العودة إلى مكاننا الطبيعي؟! مع أن كل المؤشرات كانت تصب في مصلحة أن هذه مجرد استهلاكات إعلامية لكن ظهرت بوادر شقاق وتصدع بين السيسي ودولة مبارك القديمة فكان توابعها أن علت نبرة الهجوم على السيسي في فضائيات رجال الأعمال كما استمرت حملات تشويه ثورة يناير بل وأقمحت أجهزة أمنية نفسها في الصراع في محاولة لحسمه لصالح دولة مبارك بتسريب مكالمات لرموز شبابية ظهرت في ثورة يناير، كما رُصد الخلاف الحاد بين رجال الأعمال والجنرال السيسي في قضايا متعلقة بالاقتصاد حينما أراد أن يظهر بمظهر أكثر صلابة أمامهم فظهرت بعض الاحتجاجات العمالية كعقاب للجنرال أن عليك تذكر أنك على هذا الكرسي بأموالنا فأصبح السيسي ونظامه الجديد في صراع هل يشطب يناير تمامًا من القاموس أم يظل في استخدامها إلى أن يثبت أركان حكمه ؟
بهذا الحكم القضائي حسم الجنرال أمره بوضوح من فوق المنضدة ومن تحتها باختيار نهج الدولة المباركية وأنه يمثل امتدادًا جليًا لها بعدما فشل في نفي ذلك إعلاميًا عدة مرات بفضل لوبيات الدولة القديمة التي تسيطر على مفاصل حكمه حيث من المعتقد أن السيسي كان يحلم أن يغرد بتجربة مستقلة فردية استبدادية الطابع لكنها ليست على النهج المباركي في الداخل، فقد عمد إلى استبدال شركات رجال أعمال الحزب الوطني بشركات الجيش للسيطرة على الاقتصاد وهو ما لم يتم كليًا حتى الآن ما جعله يستبقى هؤلاء بجانبه حتى إشعار آخر
والحقيقة أن السيسي لم يشأ الصدام مبكرًا ولكن أدواته الأمنية لم تكن لديها خيار سوى دهس مكتسبات ثورة يناير كأحد متطلبات حماية النظام الجديد فالتظاهر غير مسموح به والرأي الآخر في الإعلام جريمة وانتقاد النظام دعم للإرهاب وغالبية نشطاء يناير من غير الإسلاميين اعتقلوا في أحداث تظاهرات فالصدام حدث رغمًا عن أنف الجنرال الذي أراد اللعب على الحبال العاطفية، ولم يتبق من الثورة سوى بعض المشاهد والصور الفوتغرافية التذكارية وبعض الشعارات الرنانه التي فقدت معناها مع مرور الوقت
فقد كان على الجنرال أن يضع دورًا ديكوريًا ليناير في حقبته للتغني الدولي على الأقل، لكنه فشل في ذلك في ظل ضغط داخلي من معسكر الدولة القديمة بكل أركانها ومع لجوء مؤسساته الأمنية للقمع حتى يحكم السيطرة على الحكم، كما هو حال الضغط الخارجي المتمثل في الداعم الخليجي صاحب العداء القديم مع ثورة يناير خشية تصديرها والذي ساهم في الإجهاز على الثورة منذ يومها الأول والذي يطالب بإنهاء هذه الصفحة من تاريخ مصر حتى لا يفكر أحد بها بعد ذلك وهو كذلك الذي دفع باتجاه الافراج عن مبارك أكثر من مرة ليعلن وفاة يناير رسميًا فظهر الناتج الخليجي لحكم براءة مبارك سريعًا بمكالمة عاهل البحرين للمخلوع مبارك لتهنئتة بالبراءة الأمر الذي يوضح أهمية هذا الحكم لدى ساسة الخليج كبرهان أخير على انتهاء ثورة يناير.
أما وقد حدث أمر براءة المخلوع مبارك ومعاونيه في قضايا قتل المتظاهرين وغيرها فإن شهادة الوفاة قد استخرجت رسميًا لهذا الفصل من التاريخ بعد عدة طعنات غائرة لحقت بالثورة على مدار سنوات و قد تم شطب 25 يناير من قاموس الجنرال نهائيًا بعدما حسم موقفه وتبنى وجهة نظر دولة مبارك القديمة حيث لا مكان لذكر يناير في حكمنا الأمر الذي كان متوقعًا ولكن كان ينتظر الإشارة السياسية لتطبيقه.
فقد كان بإمكان نظام الجنرال تأجيل معركة القضاء على يناير لبعض الوقت باستخدام مخرج قضائي مسيس لأزمة وجود مبارك في محل الاتهام لكن الخيار كان الدخول في مواجهة مع معسكر يناير المتبقي وقد وصم جزء منه بالارهاب ” التيار الإسلامي” ولم يتبق سوى بعض الشباب الغاضب الذي فشل الجنرال في غيرمرة في عملية احتوائه ، الأجواء الأمنية كانت مهيئة لاستقبال حكم البراءة وتداعياته فالانتشار الأمني المسبق الذي روج له على أنه لمواجهة تظاهرات 28 نوفمبر التي دعا إليها التيار الإسلامي كان غطاء للتواجد بالشارع للسيطرة على أي غضب قد ينتج عن الحكم.
وبات بحث النظام وشيكًا عن الذي يحمل تركة جرائم يناير التي حدثت من قتل للمتظاهرين في الميادين ويبدو أيضًا أن من سيحملها مجهز في المعتقلات لذلك” الاخوان” ليضاف لتهمهم تهمة زائدة لن تغير كثيرًا من موقف النظام منهم لكنهم سيحملون عبئًا ثقيلا من على كاهل النظام.
فقد سُربت معلومات من داخل المؤسسات الصحفية القومية بأن ثمة تعليمات جاءت بفتح ملف “من قتل المتظاهرين؟” وذلك بعد براءة المخلوع في إشارة للبحث عمن يحمل التهم دون إزعاج والأقرب للنظام هم الاخوان توافقًا مع الحملات الإعلامية السابقة التي روجت لذلك لينضم السيسي الآن لتفسير يناير كمؤامرة كبرى عليه الاستغناء عنها للأبد، وهذا ما حدث بالفعل اليوم!