يتأهّب الصحفيون السودانيون في الـ 27 من الشهر الجاري لانتخاب أول مجلس نقابة لهم منذ حلّها عام 1989، العام الذي استولى فيه المخلوع البشير على السلطة، إذ تكلّلت جهود عديدة ومستمرة انخرطت فيها مجموعة من الأجسام الصحفية السودانية منذ أكثر من عامَين، بعقد جمعية عمومية تأسيسية في 23 يوليو/ تموز الماضي، والتي أجازت النظام الأساسي للنقابة، كما أقرّت انتخاب مجلس للنقابة ونقيب للصحفيين في خواتيم الشهر الجاري.
واُختطفت نقابة الصحفيين السودانيين وصلاحياتها منذ عام 1989 لصالح اتحاد الصحفيين السودانيين، الذي عُرف بالولاء لنظام البشير المُباد حتى أوان سقوطه، وكانت الحكومة الانتقالية التي أقالها انقلاب البرهان قد حلّته أواخر عام 2019 عبر قانون إزالة التمكين وتفكيك نظام 1989، بوصفه أحد أذرع النظام العديدة.
وفي عهد البشير، وفي الأثناء التي غابت فيها الأجسام التي تمثل الصحفيين في ظل احتكار اتحاد الصحفيين لتمثيلهم وفقًا لمصالح النظام، نشأت بعض الأجسام الصحفية، التي اتخذت طابعًا مناوئًا لنظام البشير، فدخلت في العديد من المعارك المهنية والحقوقية، حيث أصبحت هي الحاضنة البديلة للصحفيين المعارضين لنظام البشير، في ظل احتكار الاتحاد من قبل الكوادر الموالية للنظام.
من جهته، حاول الاتحاد المحلول مجابهة خطوة تكوين النقابة، إذ أصدر بيانًا طالب فيه السلطات بوقف نشاط تكوين النقابة، مناشدًا الجهات الخارجية والدولية بعدم التعامل مع أي جهة تدّعي تمثيل الصحفيين، واصفًا النقابة المزمع تكوينها بـ”الجسم الموازي”.
وقد نصَّ النظام الأساسي المجاز للنقابة المزمع انتخابها، بأيلولة جميع الممتلكات والأصول التي كانت تخص الاتحاد المجمَّد لصالح النقابة، كما منحت النقابة نفسها صلاحيات واسعة وحصرية فيما يخصّ الشأن الصحفي وشؤون الصحفيين، من التقييد في سجلّات الصحفيين المحترفين، مرورًا بضمان حقوقهم والدفاع عنهم أمام القضاء ولدى المؤسسات العاملين فيها.
“هفوات” في الطريق إلى النقابة
ورغم حالة الاحتفاء الكبيرة التي عمّت الأوساط الصحفية والوسط العام السوداني، باقتراب تكوين نقابة للصحفيين، بوصفه “عُرسًا” ديمقراطيًّا وخطوة لاستعادة النقابات المَوءودة، إلا أن ممارسة الصحفيين في طريقهم للوصول للنقابة شابتها العديد من العثرات والهفوات، التي تكشّفت أثناء الممارسة.
فالنقابة المحتفى بها، تمَّ إجازة نظامها الأساسي في ظل غياب واسع لجزء كبير ومقدَّر من القاعدة الصحفية، إذ عُقدت الجمعية العمومية التي أجازت النظام العام وأقرّت قيام الانتخابات بنصاب بلغ نحو 51%، بتعداد لم يتجاوز 700 صحفي وصحفية من مجموع الصحفيين المسجَّلين في كشوفات الجمعية العمومية.
هذا الرقم الصغير، والذي لا يبدو أنه يعبِّر عن حقيقة تعداد القاعدة الصحفية في السودان، جاء تعبيرًا مباشرًا عن عجز اللجنة التمهيدية لتأسيس النقابة في الوصول إلى قدر كبير من القاعدة الصحفية في السودان، والتي تقدَّر بالآلاف، خصوصًا أن تعريف الصحفي -بحسب نص النظام الأساسي المجاز- شمل فئات واسعة من العاملين في قطاع الصحافة، مثل المدققين اللغويين، ورسامي الكاريكاتير، والمصورين، والكتّاب الصحفيين المتفرغين، وغيرهم من الفئات العديدة التي تعمل في قطاع الصحافة.
وإضافة إلى ضعف العدد المحصور، فقد عجزت الجمعية العمومية عن إحراز نصاب مقدر، إذ انعقدت الجمعية العمومية بشقّ الأنفس وبحضور ضعيف، حتى بالمقارنة مع العدد المحصور من اللجنة ذاتها، إذ عكس ذلك أيضًا ضعف العملية الإعدادية لتأسيس النقابة.
وفتحت اللجنة التمهيدية لتأسيس النقابة الباب للتسجيل لعضوية الجمعية العمومية طوال 3 أشهر، تخللتها عدد من الزيارات الميدانية في عدد من ولايات السودان، للتعريف بالنقابة والدعوة لها، كما فتحت اللجنة التمهيدية باب التسجيل للجمعية العمومية عبر الوسائط الرقمية، ورغم ذلك إلا أن الكشوفات النهائية لم يتجاوز المقيَّدين فيها الـ 1300 صحفي وصحفية إلا بقليل.
وقد اشتكى عدد من الصحفيين العاملين بالمهنة من سقوط أسمائهم من كشف المسجَّلين في الجمعية العمومية، لتقوم اللجنة بفتح باب الطعون في الكشوف المقدمة لفترة قصيرة لم تتجاوز بضعة أيام، قبل أن تقوم بإغلاق باب الطعون وتقديم القائمة النهائية للأعضاء المسجَّلين.
أيضًا، عجزت اللجنة عن الإيفاء بقيام الجمعية العمومية في الفترة الزمنية المنصوص عليها، فقد سبق قيام الجمعية العمومية تكليف لجنة تمهيدية، كان من مهامها عقد الجمعية العمومية التأسيسية خلال 3 أشهر من تاريخ تكليفها في مارس/ آذار هذا العام، إلا أن اللجنة تعذّرت بعدد من المبررات كان على رأسها ضعف الميزانية.
الانتخابات والترشُّح.. ممارسات تطعن في معايير النزاهة والحيادية
واحدة من المبادئ الديمقراطية المتعارف عليها بديهيًّا، هي أن القائمين على الإعداد التأسيسي لأي ممارسة ديمقراطية، يُستَثنون من الترشح للمنافسة لاحقًا، تجنُّبًا لتضارب المصالح الذي قد يطرأ في عمليات التأسيس وإمكانية الاستفادة مستقبلًا منها لصالح القائمين بعمليات التأسيس، المبدأ الذي خالفته الجمعية العمومية بالتصويت بالأغلبية التي أجازت ترشيح أعضاء اللجنة التمهيدية للمنافسة على عضوية مجلس النقابة.
ورغم إجازة الجمعية العمومية لهذا المبدأ، إلا أن وجود رئيس اللجنة التمهيدية للنقابة، بوصفه مرشحًا لمنصب النقيب عبر إحدى الكتل الثلاث المتنافسة على مقاعد النقابة، يضع نزاهة وحيادية الإجراءات التي أقرّتها اللجنة موضع الشك، إذ ما الضامن ألا تكون كل الجهود التي قامت بها اللجنة بوصفها لجنة تمهيدية، قد صبّت في صالح الكتلة التي تضمّ رئيس اللجنة، خصوصًا أن الانتخابات ستُقام في فترة زمنية قصيرة منذ انتهاء عمل اللجنة بوصفها لجنة تمهيدية وحتى تنظيم الانتخابات؟
وبشكل يؤيد هذه الفرضية، قام أحد مسؤولي مجموعة اللجنة التمهيدية لتأسيس النقابة في تطبيق واتساب، بتحويل مسمّى المجموعة إلى مجموعة خاصة بإحدى الكتل المتنافسة لشغل مقاعد النقابة، بشكل يخرق كل مبادئ الاستقلالية والحيادية.
وكانت 4 من المجموعات الصحفية قد دفعت بقوائم مرشحين لشغل مقاعد مجلس النقابة المكوَّن من 40 مقعدًا، مع تسمية كل قائمة لمرشح لشغل منصب نقيب الصحفيين السودانيين، هذا قبل أن تتوحّد مجموعتان في واحدة ليصبح العدد الكُلّي للقوائم المرشحة 3 قوائم، كما قام عدد من الصحفيين بترشيح أنفسهم بشكل مستقل لمنصب النقيب.
وانخرطت المجموعات الثلاث في حملات انتخابية وترويجية لبرامجها الانتخابية، فيما تخللت الحملات جولات مناظرات عُقدت ما بين مرشحي المجموعات المختلفة، في ممارسة لها رمزيتها الكبيرة في التأسيس لتكوين نقابات مهنية وديمقراطية مستقلة.
ورغم تلك العثرات التي شابت الوصول إلى الانتخابات، إلا أن اقتراب تكوين النقابة مثّل خطوة للأمام في طريق استعادة النقابات التي افتقدتها الأوساط المهنية في السودان، في ظل سيطرة نقابات وأجسام حكومية أنشأتها السلطات آنذاك لتكون معبّرة عن السلطة ومصالحها، كما أن الإصرار والعمل على انتخاب النقابة في ظل أجواء الانقلاب الحالي، يذكّران بأن بناء الأجسام المستقلة والمهنية هو الضامن الوحيد للحقوق، بغضّ النظر عن الحكومات والأنظمة.