توجد حياة بعد الرئيس قيس سعيّد، وتوجد حياة سياسية داخل الحياة المنتظرة، وليست هذه بطريق جديدة نحو الهند أفاخر باكتشافها. السؤال القادم يبدأ منذ اللحظة: كيف ستكون الحياة السياسية بعد تجريف الحياة الحزبية والنشاط النقابي وإخضاع الإعلام للسلطة من جديد؟ بين أيدينا تجربتان، الأولى تجربة بن علي وما سبقها، والثانية عشرية الحريات الباهرة كما عشناها وسمّيناها ونمجّدها أبدًا.
ثم كان الانقلاب، حيث ثبت لنا بعده أن مزاج الرجل الواحد لا يحتمل تعدُّد الأصوات، ولذلك ننتظر المزيد من تجريف الحياة الحزبية والنشاط النقابي والمزيد من خنق الإعلام الحر، نتوقع المرور بفترة حيرة وركود حزبي.
لكن لا نعزو الفقر السياسي المعاش الآن وفي المستقبل القريب إلى قرارات رئاسية بحتة، مزاجية كانت أو مدروسة، لقد انكشف خواء كبير داخل المشهد الحزبي الذي تشكّلَ بعد الثورة، وتبيّن أن الأحزاب حزيبات، وأن الأسماء كثيرة وكثير منها منفوخ كمناطيد سياحية لم تكن أبدًا علامة خصوبة سياسية، سنخوض في هذا وعسى أن نكتشف طريقًا لا يؤدي بالضرورة إلى الهند.
مشهد حزبي ذري خلال عشرية الحريات
القمع السياسي للانتظام الحزبي قبل الثورة أنتج ظاهرة غريبة بعده، عبارة عن انفجار حزبي بلا سقوف، فكل من استبدَّ به هوس العمل السياسي أنشأ له دكانًا حزبيًّا، ففاق عدد الأحزاب الـ 220 حزبًا، ظل أغلبها دكاكين مغلقة أو عناوين في البريد المحفوظ، عندما تبيّن لمؤسِّسيها عسر المنافسة مع حزب كبير وشقاء التنازلات واقتسام المسافات بين الزعامات.
من زاوية الفرح بالحرية، كان ذلك علامة تحرر، لكن من زاوية الفاعلية والجدوى، فقد تفتّت المشهد السياسي والحزبي حتى فقد القدرة على التشكُّل والبقاء، وكانت نتيجة هذا التعدد سلبية، خاصة لجهة كشف تهافت مؤسسيها على مغانم سياسية صغيرة، بعضها سعادة غامرة بالظهور في “بلاتوه” إعلامي ليس أكثر.
لكن النكرات ظلت نكرات، وتميّز حزب النهضة بقدرة تنظيمية عالية، ونافسه وتفوّق عليه باقتدار عام 2014 حزب نداء تونس (وهو خليط غير متجانس من فلول حزب التجمع واليسار الفرانكفوني، أي القاعدة التي حكم بها بورقيبة وبن وعلي)، لكنه تفجّر بدوره قبل أن يتمَّ دورة برلمانية واحدة، ليعود المشهد بحزب كبير ثابت وأحزاب صغيرة لا تخلو من طموح.
خرج اليسار من المشهد الحزبي الجديد بتفجُّر الجبهة الشعبية، ليستعيد خطة الكمون داخل الأجهزة ويواصل حربه التقليدية ضد الإسلاميين، بينما أفلح شق من القوميين في الخروج من المشهد بحزب (بقيَ أغلب القوميين خارجه) هو حزب حركة الشعب، وشكّلت أسرة عبو حزبًا ضمَّ بعض النخب وكثير من غوغاء يسراوية تجذب الحزب نحو أقصى اليسار، والتقى الحزبان مع أجندة حزب الفاشية لجهة ترذيل برلمان 2019 والقضاء عليه، حتى انتهوا جميعًا إلى الانقلاب فساندوه بأمل تصفية حزب النهضة، ولا يزالون مرابطين هناك.
الأحزاب التي نعتت نفسها بالكتلة الديمقراطية فقدت سندها الأقوى، أي المظلة النقابية، فالنقابة في مرمى الرئيس.
أما بقية الأسماء الحزبية، فهي من صنف حزب الرجل الواحد التي لا تغلق دائرة حول طاولة مقهى، هذا المشهد الحزبي الذري اتّخذه قيس سعيّد ذريعة لكي يبقى خارج كل انتظام معلَن، واستعمله بعد الانقلاب لمزيد الطعن في جدوى مشهد سياسي ديمقراطي تعدُّدي، ثم يتخذه الآن طريقًا نحو تجريف كل المشهد نحو سلطة الشخص الواحد، حيث ننتظر تعديلًا جذريًّا في قانون الأحزاب لقطع الطريق على “الفوضى السياسية”، وهي النغمة التي يرددها أنصاره المتبقّون من حوله هذه الأيام.
الحال تعود إلى ما كانت عليه قبل الثورة
كأنه قانون طبيعي سابق الوجود على الفاعلَين: حزبان كبيران قد يتنافسان على مستقبل الحياة السياسية بعد قيس سعيّد (إذ توجد حياة سياسية بعد قيس سعيّد)، الذي لن يؤسِّس له حزبًا من شتات أنصار لا نرى ملامحهم، بل تصلنا بذاءاتهم فقط على السوشيال ميديا (رغم أنه كذب في كل ما قاله وقد يكذب في هذه أيضًا).
في اللحظة السياسية الراهنة، نعاين ما يلي:
تلاشي الأسماء الحزبية الناشئة، أو بتعبير أدق انكشاف ضعفها على التحشيد عندما فقدت أهم نقطة في جدول نشاطها، وهي الحرب على النهضة، فبعد أن سكتَ حزب التيار عن تسقُّط عيوب النهضة ولعن شيخها على المنابر، لم يجد ما يقوله للناس وقد توقف الإعلام عن استعمال نجوم الحزب اللعّانين، وينطبق الأمر على فلول الجبهة الشعبية اليسارية (أحزاب الأجندة الواحدة ماتت أو تكاد).
الأحزاب التي نعتت نفسها بالكتلة الديمقراطية (الجمهوري وأمل والتكتل والتيار) فقدت سندها الأقوى، أي المظلة النقابية، فالنقابة في مرمى الرئيس ولا معنى للاتّكاء عليها، وكلما اقتربت أكثر من الرئيس (كما تفعل الآن تحت الطاولة) لإنقاذ نفسها، فقدَ هؤلاء سبب معارضتهم للانقلاب.
ونراهم ينتهون إلى حيث كان اليسار زمن بن علي، خطاب ثورجي يُباع للشارع، وتقاسُم غنائم مع السلطة سواء قيس أو من يليه ولو بعد حين، وهو المكان الذي اختاره اليسار منذ أول الثمانينيات ويعود إليه بلا عناء ما لم يدعُ ثانية إلى حرب استئصالية، مع ملاحظة مهمة في السياق، أجندة اللبرلة المطلوبة دوليًّا من الرئيس وحكوماته ستضع هؤلاء في زاوية ضيقة تنهي وجودهم.
من الباقون بالمشهد إذًا؟ أو من هما الحزبان غير القابلَين للمحو بقرار رئاسي؟
أولًا حزب التجمع الذي يشبه تحرُّكه تحرُّك سرب ترد الزيتون (طير مهاجر في أسراب كبيرة، يأتي تونس في فصل نضج الزيتون ليتغذى عليه)، فهم يتفرّقون ثم يلتقون في أحزاب جديدة منذ الثورة، استخلصت منهم الفاشية نواة صلبة لا تزال متماسكة بقوة الدعم الخارجي المكشوف، لكنهم موجدون، ومنهم كثير يقف خلف الرئيس ويموّل صفحاته، ويمسكه أن يسقط من فوق عرش لويس الخامس عشر الذي اقتناه مؤخرًا.
إنهم قوة سياسية لا يستهان بها، ومثلما التقوا في حزب النداء، قد يدفعهم الانقلاب إلى التجمع ثانية تحت اسم حزب ليبرالي يميني يزكي الإصلاحات الاقتصادية الليبرالية ويستفيد منها، فهم ماسكون فعلًا بالإدارة العميقة، ولديهم خبرات اقتصادية ذكية خاصة لجهة المناولة مع هوامش الاقتصاد الفرنسي، وهم الرجال الحقيقيون لفرنسا، المتحكم الحقيقي بالمشهد التونسي، فهم حجابها ودثارها.
الحزب الثاني هو حزب النهضة، يعاني الآن مصاعب كبيرة في داخله ومن خارجه، أما من خارجه فالأجندة الاستئصالية لم تفقد الأمل في تدمير الحزب ومحوه من المشهد، رغم أن الرئيس لم يطبّق أجندتها كما رغبت منذ ليلة الانقلاب، وأهون الشرور عليه هي أن فلول التجمع تريد استعماله في المعارضة الهادئة، فلا يموت ولا يحيا ولا تنفق جهدًا ولا عناء في مطاردته، وهي التي خبرت التأثير الإيجابي لمحاولة قتل الحزب زمن بن علي إذا عاد إليها سليمًا معافى وحكمًا.
ربما على حزب النهضة أن يتعلم تحديد موقفه بالاستهانة لا بالمزايدات اليسارية الشعبوية التي تعرّت بالانقلاب.
أما من داخلها، فزعامة الغنوشي محل جدل عميق، وقادة الحزب يدفعونه إلى إنجاز المؤتمر ليتمَّ إخراجه من المشهد بطريقة لائقة، إذ إن بقاءه وزعامته لم يعودا محل ترحيب شامل، فضلًا عن أن أصواتًا كثيرة تحمّله مسؤولية وقوع الانقلاب، وتتهمه بالميوعة في التصدي له (الغريب أن بعض من ينعته بالميوعة يرسلون رسائل غزل للانقلاب).
لكن رغم كل الصعوبات، قاعدة الحزب متماسكة بقدر كبير (والنصف مليون ناخب ماكثون في مواقعهم وعلى ثغورهم بروح قتالية)، نلاحظ حالة كمون وانتظار، والبعض في داخل الحزب يقول دعِ الانقلاب يأكل نفسه، لكن هناك درسًا وجب أخذه بعين الاعتبار.
الأزمات تقوّي الحزب (وتجعله أكثر تماسكًا)، وأي حل سياسي مستقبلي يدفع فيه الحزب ثمنًا مثل إقصاء الغنوشي، كما يروَّج في كواليس كثيرة تسمع السفارة الفرنسية، سيكون بمثابة لاحم جديد للضحايا (وكم يحبّ الإسلاميون أن يتحركوا في وضع الضحية).
لكن في كل الحالات، نتوقع أن الحزب باقٍ، سيكون بوزن أقل في المدى المنظور حتى يستوعب الهجوم ويردّ عليه، وقد يفلح في عملية الانتقال القيادي، وهي أمر حساس ومربك ولن يمرَّ بسهولة.
نذكر هنا أنه عام 2011 بعد الثورة، وبعد ربع قرن من معركة ابن علي الاستئصالية، أكمل الحزب انتشاره في كل قرية وحي بسرعة مذهلة ليفوز في انتخابات 2011 بالأغلبية، كأن لم يدخل سجونًا ولم يعش منافيًا، وهي خدمة يتقنها أنصاره.
لقد تحرر الحزب من كثير من الوافدين غير ذوي الماضي النضالي، ولم تبقَ إلا النواة الصلبة التي تتماسك بالضغط الخارجي، أما إذا تظاهر الحزب بالغياب في مرحلة تكريس اللبرلة، واجتنب دفع ثمن التحول ليعود لاحقًا، فسيجد مشهدًا بلا نقابات يسارية منعته من الحكم وطاردته في كل زاوية.
إذًا، حزبان كبيران، واحد بالمال والنفوذ، والآخر بالقاعدة المتماسكة، ثم فتات حزبي بلا أهمية (خارج التلفزة)، كما كان الأمر زمن بن علي، مهما حاول الرئيس تجريف المشهد بدعوة فساد الديمقراطية التمثيلية.
نختم بخيال روائي: لو لحست النهضة معارضتها المبدئية والحادة للانقلاب ودستوره، وتحالفت مع بقايا التجمع أو القوة المالية الصلبة (وهي التسمية الأدق) حول مرشح رئاسي واحد، فستكون الحياة السياسية بعد قيس سعيّد في مرمى النظر، ربما على حزب النهضة أن يتعلم تحديد موقفه بالاستهانة لا بالمزايدات اليسارية الشعبوية التي تعرّت بالانقلاب.