“ثورتنا على النظام السوري هي ثورة وعي وفكر وعلم بالمقام الأول، فهو يريد أن يبقينا في دائرة الجهل، ونحن نريد الخروج منها نحو أقصى درجات العلم، لنستطيع إعادة بناء ما دمّره ذاك النظام المجرم في بلادنا”، يقول عبد الله أبو علي لـ”نون بوست”، تعليقًا على انعقاد معرض الكتاب في مدينة إدلب.
أبو علي المهجَّر من ريف دمشق نحو إدلب، والذي خسر مكتبته التي احترقت مع منزله في مسقط رأسه، يرى في الفعاليات الثقافية في المناطق المحررة أنها أحد أشكال مقاومة النظام، وقد أتى لشراء كتب ليبني مكتبته من جديد، كنوع من التحدي أو الثأر من النظام، حيث أعاد شراء العناوين ذاتها التي كان قد جمعها في مكتبته على مدار سنوات عمره الخمسين قبل التهجير.
وبدأت مديرية الثقافة في إدلب يوم 18 أغسطس/ آب الجاري، فعاليات معرض إدلب للكتاب الذي أُقيم وسط قصف يطال أجزاء من المحافظة، نفّذته القوات التابعة لنظام بشار الأسد بمشاركة عسكرية روسية.
انعقد معرض الكتاب الأول في مقهى “كتاب كافية” في مدينة إدلب، شمال غربي سوريا، وسيستمر بين 18 و25 أغسطس/ آب الجاري، بمشاركة دور نشر ومكتبات محلية من المنطقة المحرَّرة وأخرى متمركزة في تركيا، وصل عددها إلى 15، عرضت ما يقارب 9 آلاف عنوان، ووصل عدد النسخ إلى 50 ألف نسخة.
أهمية المعرض
نبعت فكرة معرض الكتاب من كون الشمال السوري المحرر من سيطرة النظام منطقة شبه مغلقة، ما أدّى إلى وجود حاجة للمعرض ليكون صلة الوصل بين القرّاء ودور النشر والمكتبات، خاصة بعد زيادة أعداد القرّاء بسبب زيادة عدد طلاب الجامعات، بحسب عادل حديدي مدير الثقافة قي إدلب.
وبحسب الحديدي، لاقى المعرض إقبالًا شديدًا من الأهالي، وحضر عدد منهم من مناطق بعيدة، لأن هذا المعرض فرصة ذهبية للوصول لعدد كبير من الكتب الموجودة بمكان واحد، بالإضافة إلى أسعار الكتب المخفّضة توجد المعارض الفنية والندوات الثقافية المرافقة لمعرض الكتاب، كما يجري يوميًّا سحب كوبونات لزائري المعرض للفوز ببعض الهدايا.
ويأمل الحديدي مشاركة المزيد من دور النشر في السنوات القادمة، لتلبّي حاجة الشمال المحرر من المعرفة، والوصول إلى أمّهات الكتب، والاطّلاع على أبرز الكتب الجديدة وأحدث الأعمال الإبداعية والفكرية.
خطوة نحو العودة إلى القراءة
وبين رفوف مكتبات المعرض، تتجول حليمة أحمد باحثةً عن الكتب التي سجّلتها بشكل مسبق، لغرض اقتنائها كونها تهوى القراءة، فبسبب ظروف الحرب والتهجير والمعيشة ابتعدت عنها، لكنها قررت العودة بعدما رأت صور معرض الكتاب التي دفعتها إلى البدء من جديد.
وأضافت حليمة أنها جاءت إلى المعرض لاختيار مجموعة من الكتب، ككتب تربية الأطفال أو التنمية البشرية، ولكنها استغربت من كمية الكتب الكبيرة، حيث أثارت إعجابها روايات أيمن العتوم التي قرأت إحداها سابقًا بصيغة PDF عن طريق جوالها، واليوم استطاعت الحصول على تلك الروايات بشكل ورقي.
محمد العبود، طالب في جامعة إدلب، زار معرض الكتاب بغرض البحث عن المراجع الخاصة بدراسته، وقال لـ”نون بوست” إنه قام بزيارة المعرض لسببَين، الأول هو الأسعار الأقلّ من أسعار المكتبات بالأوقات العادية، خاصة في مجال الكتب المستعملة، والثاني وجود عناوين لم تكن متوفّرة إلا على محركات البحث الإلكتروني، مع سهولة التلاعب بها وعدم ضبط الدقة وتحرّي الصواب، بعكس الطبعات الموجودة في المعرض التي هي نسخ أصلية.
أحمد العلي، وهو أستاذ مدرسي وأحد زوّار المعرض، أبدى إعجابه، فعلى حدّ وصفه المعرض أنجح من جميع معارض الكتب التي أقامها النظام، ورأى في المعرض فرصة حقيقية للمهتمين بالعلم والثقافة للالتقاء بالمفكرين ورواد العلم والثقافة، ومعاينة أمّهات الكتب الأصلية والمنقّحة والاطّلاع عليها، بالإضافة إلى كمّية كبيرة من الكتب المتنوعة التي يوفرها المعرض في شتى المجالات، من السياسة والشريعة الاسلامية والصحة وبناء الأسرة والتنمية البشرية.
كما قال العلي لـ”نون بوست”: “إن المعرض مهم لنا في هذه المرحلة، كوننا نحاول إعادة بناء الإنسان، فاليوم نحن بحاجة غذاء للعقل بقدر حاجتنا لغذاء للجسد، والقراءة هي مصدر غذاء العقل الذي نستطيع من خلاله النهوض ببلادنا نحو الأفضل”.
وعبّر العلي عن إعجابه وغبطته لوجود كتب ممنوعة تاريخيًّا في سوريا الأسد، أبرزها كتب إسلامية وأخرى سياسية كانت تعتبر من المحرّمات في سوريا في عهد حافظ الأسد ووريثه بشار، وكانت تلك الكتب كافية كي تستبيح مخابرات النظام أي مكتبة تبيعها، وتغلقها بعد اعتقال صاحبها وكذلك اعتقال أي شخص يتواجد معه.
المعارض الرديفة
المعرض لم يقتصر على الكتب العلمية والأعمال الأدبية فقط، بل رافقته معارض عديدة، هي معرض الخط العربي ومعرض الفن التشكيلي ومعرض المجسّمات ومعرض الموزاييك والفسيفساء، وكانت مواضيع تلك اللوحات الثورة السورية ومعالم المدن السورية الثقافية والتاريخية.
وكانت تلك المعارض هي نتيجة للطاقات الفنية في الشمال السوري، ومحاولة لإفساح المجال لأولئك الفنانين لعرض إنتاجهم الفني للناس، بالإضافة إلى جمع تلك القطع الفنية في مكان واحد، ما يسهّل الاطّلاع وتسليط الضوء عليها.
ومن ضمن المشاركين بالمعرض، الفنان التشكيلي رامي عبد الرحمن عبر لوحتَين، الأولى لطفلة ناجية من مجزرة الكيماوي في الغوطة الشرقية، والثانية هي صورة أحد متطوعي الدفاع المدني السوري الشهداء، وسبب مشاركته بتينك اللوحتَين في هذا الوقت هو محاولات التطبيع مع النظام وتصاعُد بعض الدعوات للتصالح معه، حيث أراد رامي توصيل رسالة عن عدم قابلية الصلح مع نظام الأسد عبر تخليد ذكرى ضحاياه.
وكانت بارزة مشاركة عدد من الفنانات بالمعرض، كالفنانة يافا دياب التي شاركت بلوحة باسم “عين الثورة”، الحاصلة على الجائزة الدولية للسلام والدفاع عن حقوق الإنسان، والتي جسّدت فيها حال الثورة السورية.
كما يشكّل المعرض فرصة للمهجَّرين إلى مدينة إدلب للتلاقي، بعد أن هجّرهم نظام الأسد من قراهم، فالمعرض كان لهم بمثابة بصيص من الأمل ومكان للقاء، وسط أجواء الحرب التي تخيّم على بلادهم منذ أكثر من عقد من الزمن.