بعد الغزو الإسرائيلي للبنان في يونيو/ حزيران 1982، تشكّلت لجنة مؤلَّفة من 9 أفراد (3 عن التجمع العلمائي في البقاع اللبناني، و3 عن اللجان الإسلامية التي كانت موجودة في ذلك الوقت، و3 عن حركة أمل الشيعية) أُطلق عليها فيما بعد “اللجنة التساعية”، وضعت وثيقة موحَّدة لانطلاق كيان وليد تحت اسم “حزب الله” يلتزم بخطّ ولاية الفقيه بقيادة الزعيم الإيراني روح الله الخميني شكلًا ومضمونًا، متخذًا من مقاومة الاحتلال الإسرائيلي شعارًا عامًّا له.
ظل هذا الكيان سريًّا لمدة 3 سنوات تقريبًا، قبل أن يتمَّ الإعلان عنه رسميًّا عام 1985، ليتحول عامًا تلو الآخر إلى لاعب أساسي في المشهد اللبناني، بل اللاعب الأكثر تأثيرًا وصاحب الكلمة العليا في كثير من المواقف، في ظل ترسانته العسكرية التي تفوق قدرات الجيش اللبناني نفسه، وخارطة اقتصاده المتشعّبة، بعدما بات ذراع طهران الطولى، ليس في لبنان فقط، بل خارج حدود الدولة، ليتحول من حزب يدّعي الوطنية والدفاع عن مصالح بلاده إلى ميليشا مسلحة لتنفيذ أجندة إيران في المنطقة، ولو كان على حساب مصالح وطنه الأمّ.
ومع مرور 40 عامًا على ميلاد الحزب، احتفى أنصاره بما أسموه “الانتصار التاريخي” للحزب وتحقيقه للأهداف التي أُنشئ لأجلها، منصّبًا نفسه زعيمًا للمقاومة ضد “إسرائيل”، بعدما تحول إلى دولة داخل الدولة، أو كما يصفه البعض “الابن غير الشرعي” للبنان، كونه صناعة إيرانية بحتة، فكرًا وهيكلة وتمويلًا.. فهل حقق الحزب أهدافه فعلًا في أربعينيته؟ وما هي أبرز المحطات في مسيرته؟
نشأة براغماتية
لم تكن نشأة حزب الله استجابة لنداء المقاومة كما يعزف أنصاره وآلته الإعلامية، بل هي نشأة براغماتية بحتة، كان مرجعها تراجُع نفوذ الشيعة في لبنان، وتفرُّقهم بين التيارات السياسية الأخرى، لا سيما التيار القومي الذي نال إعجاب الكثير من شيعة لبنان خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي، ما أثّر سلبًا بطبيعة الحال على طهران التي كانت تعزز علاقتها في ذلك الوقت مع دولة الاحتلال، حتى وصل الأمر إلى دعم الشاه محمد رضا بهلوي، الإمام الزيدي في حرب اليمن نكاية في العرب.
وفي ظل هذا المأزق، كان لا بدَّ من ذراع إيرانية قوية داخل الأراضي اللبنانية للحفاظ على الكتلة الشيعية وضمان ولائها للشاه في طهران، حتى جاءت الثورة عام 1979، لتجد الدولة الجديدة مدفوعة للبحث عن ولاءات أكثر داخل مناطق النفوذ المجاورة، ومن هذا الرحم الأيديولوجي جاءت هيكلة حركة أمل الجديدة، وزعيمها موسى الصدر الذي تربّى وترعرع على أيدي عمائم قُم ومرجعيات أقطاب الثورة الإسلامية.
كان النفوذ الإيراني داخل إيران في ذلك الوقت محل جدل وخلاف بين التيارات الداخلية في حركة أمل، حيث انقسم القادة بين داعم ومتحفّظ ورافض لهذا النفوذ المتنامي، حتى جاء الاجتياح الإسرائيلي للجنوب اللبناني عام 1982 لترفع الحركة شعار المقاومة، على عكس الخط العام للتوجُّه الإيراني في ذلك الوقت، ما اُعتبر بداية انفراط عقد التبعية الأيديولوجية للحركة لولاية الفقيه وخروجها عن دائرة السيطرة، ما دفع المرشد الإيراني للبحث عن وليد جديد أكثر ولاءً، لتبدأ مرحلة الانفلات والتفكك الحقيقي للحركة.
استمرت محاولات التفتيت قرابة 3 سنوات، حتى جاء الإعلان رسميًّا عن الانشقاقات السياسية داخل الحركة عام 1985 لتشمل 3 حركات جديدة، أولها وأقواها “حزب الله” بقيادة حسن نصر الله، والتي اعتبرت نفسها ممثل إيران الرسمي في البلاد، والثانية حركة أمل الإسلامية التي كانت تتبنّى خط الحزب ذاته، ما دفعها في النهاية تحت ضغوط إيرانية إلى الاندماج تحت قيادة حزب نصر الله عام 2004، وهو الموقف نفسه الذي اتُّخذ مع حركة أفواج المقاومة المؤمنة.
الولاء لإيران.. الرسالة المفتوحة
بداية لا بدَّ من الإشارة إلى أن الحزب نشأ عمليًّا عام 1982 رغم الإعلان رسميًّا عن تشكيله في 16 فبراير/ شباط 1985، وقد ارتأى قادة الحزب العمل سرًّا طيلة تلك السنوات الثلاث حفاظًا على هيكله وقدراته من الاستهداف الإسرائيلي، وحتى يتمّ الانتهاء من بناء بنيته التحتية وتسليحه بشكل يؤهّله للدفاع عن نفسه، حسبما أشار نائب الأمين العام للحزب، نعيم قاسم، في حوار سابق له مع قناة “الميادين”.
كان تشكيل الحزب في ظروف يغلب عليها في المجمل “توجه المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي”، ما ساعده على الانتشار سريعًا وتحقيق شهرة كبيرة في ضوء تبنيه لخطاب شعبوي استطاع من خلاله توسيع دائرة شعبيته، إذ إن أول عملية مسلحة قام بها كانت تفجير مقرّ القوات الأمريكية والفرنسية في لبنان في أكتوبر/ تشرين الأول 1983، وقد أسفرت تلك العملية عن مقتل 300 جندي أمريكي وفرنسي، وهي العملية التي قدّم بها الحزب أوراق اعتماده للشارع اللبناني والعربي حينها.
وما إن رسّخ الحزب الوليد أقدامه في المشهد السياسي اللبناني، حتى كشف صراحة عن هويته الجديدة، حين طرح ما أطلق عليه “الرسالة المفتوحة”، وهي الوثيقة التي أعلن عنها الحزب في فبراير/ شباط 1985 تبيِّن رؤيته الفكرية والجهادية والسياسية، والتي أكّد خلالها أن الحزب “ملتزم بأوامر قيادة حكيمة وعادلة تتجسد في ولاية الفقيه، وتتجسد في روح الله آية الله الموسوي الخميني مفجر ثورة المسلمين وباعث نهضتهم المجيدة”.
الرسالة كانت واضحة، والدلالة أكثر وضوحًا، ليتحول الحزب بعد ذلك إلى ذراع إيران المسلحة داخل لبنان، لتبدأ مرحلة التبنّي الكامل للكيان الوليد، دعم مادي مكتمل الأركان، احتواء لوجستي وأيديولوجي، ومن ثم تبعية سياسية في المطلق، لينطلق هذا الكيان من مجرد حزب يدافع عن استقلالية بلاده، متصديًا لتحريرها من الكيان المغتصب، إلى جسر كبير للاحتلال، لكن بوجه آخر وعنوان بديل.
الهيكل التنظيمي.. إمارة مصغّرة
يرفع الحزب شعار “مصير ومستقبل لبنان” كلافتة كبيرة يتحرك تحتها، كما أشار زعيمه حسن نصر الله، غير أن خارطة تشكيل هذا الكيان تتشابه إلى حد كبير مع مرجعيته الأمّ في طهران، حتى بات أشبه بإمارة إسلامية مصغّرة، تتكون من هيكل تنظيمي يضمّ عددًا من الكيانات الفرعية، أبرزها: هيئة قيادية، مجلس سياسي، مجلس تخطيطي، كتلة النواب، مجموعات تنفيذية، فضلًا عن هيئات استشارية متخصصة.
ويعتبر مجلس شورى الحزب الذي يتكون من 12 عضوًا، تُسنَد إليهم مسؤولية متابعة أنشطة الحزب الأخرى الاقتصادية والاجتماعية والاقتصادية، هو الجهة الأعلى تنظيميًّا داخله، فيما يُعتبر الشيخ محمد حسين فضل الله المؤسِّس الحقيقي للحزب، عبر توغُّله داخل صفوف الشيعة في فترة 1982-1985.
أما الأمين العام الأول له فهو صبحي الطفيلي (1989-1991)، الذي أُجبر على الاستقالة بعد إعلانه العصيان المدني على الحكومة اللبنانية في ذلك الوقت، ليخلفه عباس الموسوي الذي لم يستمرَّ أكثر من 9 أشهر، حيث اغتالته “إسرائيل” عام 1992، ليقود الحزب بعد ذلك حسن نصر الله القابع في مكانه حتى اليوم.
انطلق الحزب في تحركاته من قاعدته الخدمية، حيث ارتكز على المسار الخدمي في توسيع دائرة نفوذه السياسي والعسكري، ما زاد في شعبيته، إذ يمتلك منظومة خدمية خيرية، تعليمية واجتماعية وصحية، هائلة، كان لها صداها في اتساع رقعته الجماهيرية.
ومن أبرز تلك المؤسسات الخدمية التي يرتكن إليها الحزب، مؤسسة “جهاد البناء” التي تأسست عام 1988، وتتخصص في حفر الآبار وإعداد الدورات التدريبية في مجال الزراعة والبيطرة، كذلك “الهيئة الصحية الإسلامية” التي تقدم الخدمات الصحية للمواطن اللبناني في البقاع والجنوب إضافة إلى بيروت، ولها عدة فروع بلغت 47 فرعًا.
أيضًا جمعية “القرض الحسن” التي تأسست بهدف تقديم القروض غير الربوية للمحتاجين، وجمعية “الإمداد الخيرية الإسلامية” التي تهدف إلى مساعدة الأسر على الاكتفاء ذاتيًّا، ورعاية الأيتام والعجزة والأرامل، ومعها مؤسسة “الشهيد” المعنية بأُسر الشهداء تربويًّا وتعليميًّا، فضلًا عن “المؤسسة الإسلامية للتربية والتعليم” التي تأسست عام 1993 وتهتم ببناء المدارس في مختلف المناطق اللبنانية، ثم “هيئة دعم المقاومة الإسلامية” ومهمّتها جمع التبرعات للمقاومة، وتعقد الندوات وتقيم المعارض لزيادة الوعي بأهمية المقاومة.
كما يمتلك الحزب قاعدة مؤسساتية كبيرة في مجال الرياضة والفنون والإعلام، ساهمت في تعزيز حضوره وتجميل صورته في الداخل والخارج، ومن أبرز تلك المؤسسات مركز الإمام الخميني، وجريدة “العهد”، وقناة “المنار”، وغيرها من المؤسسات والشراكات الإعلامية والثقافية في الخارج اللبناني.
ويلاحَظ أن معظم تلك المؤسسات التي ساعدت الحزب على الهيمنة على خارطة القوى الناعمة في البلاد، تأسست في السنوات العشر الأولى من التأسيس، أي بين عامَي 1982 و1992، رغم النشأة الوليدة للكيان الصغير في بلد يعاني من الفقر والاقتصاد الهشّ، ما يكشف طبيعة التمويل والدعم الكبيرَين من قبل إيران لتأهيل ذراعها الجديدة وتقوية شوكتها مقارنة بأقرانها من الكيانات والأحزاب الأخرى، حتى المنضوية تحت عباءتها كذلك، إذ كانت تنظر إلى الحزب على أنه “أداتها الأقوى” وامتدادها في المنطقة.
ماذا عن التمويل؟
باعتراف نصر الله، فإن إيران هي المموّل الرئيسي والوحيد للحزب منذ تأسيسه عام 1982، غير أن ذلك لا يمنع وجود مصادر أخرى تعزز قدراته، في ظل اتساع رقعة أنشطته الداخلية والخارجية التي تمَّ رصدها من قبل العديد من الجهات الرقابية الغربية، كما أشار “نون بوست” في تقرير له.
ذكرَ التقرير أن الحزب كان يتلقى سنويًّا نحو 100 مليون دولار في فترة الثمانينيات، زادت القيمة بعد ذلك حتى وصلت إلى عتبة 600 مليون دولار، فيما أشارت التقارير الأمريكية أن ميزانية الحزب السنوية المعتمَدة لدى طهران تتجاوز 200 مليون دولار، تذهب للرواتب والمصاريف العامة، منوّهة أن هذا الرقم زاد بصورة كبيرة بعد اغتيال رفيق الحريري وحرب 2006.
وكشف مجلس النواب الأمريكي، عام 2012، عن مصادر أخرى لتمويل الحزب، منها عائدات تهريب وتجارة المخدرات، والتي أشار إلى أنها تمثل 30% من مداخيل الحزب، وقبل ذلك، عام 2004، كتبَ مدير برنامج “ستاين” لمكافحة الإرهاب في معهد واشنطن، معلقًا على نشاط الكيان في أفريقيا: “إنّ ناشطي حزب الله في أفريقيا يقومون باستثمار وغسيل كميات كبيرة من الأموال، ويقومون بتجنيد ناشطين محليين، وجمع معلومات استخباراتية”، منوّهًا أن اختيار أفريقيا تحديدًا كان بهدف دعم نشاط الحزب في القارة، بجانب الاستفادة من الإمكانات المادية الجيدة للبنانيين الشيعة الأثرياء المقيمين في غينيا وسيراليون وليبيريا ودول أفريقية أخرى.
النفوذ المتنامي وحرب الجنوب
تحرّكَ حزب الله وطهران التي تقف من خلفه بمنطق براغماتي بحت، حتى لو كان على حساب الأشقاء والحلفاء وأبناء الأيديولوجيا الواحدة، وهو ما يمكن قراءته في تنامي الصراع بين الحزب وحركة أمل الأمّ منذ ثمانينيات القرن الماضي وحتى قبل سنوات، بعدما أحكم الحزب قبضته الكاملة على المشهد الجنوبي.
وقد أثار الدعم الإيراني المستمر والمكثَّف للحزب، ما زاد من نفوذه داخليًّا، حفيظة التيارات الشيعية الأخرى التي استشعرت الخطر من تنامي هذا النفوذ، خاصة بعد موجة الانشقاقات التي شهدتها والنزوح الكبير لصالح “حزب الله”، ما أثار الضغائن بين كافة التيارات والقوى في الجنوب، الذي تحول إلى ساحة كبيرة لمعارك دامية بين أبناء الكيانات الشيعية.
استعرضت الكاتبة الصحفية رجا أمين، في تحليل لها، تبعات تصاعد نفوذ الحزب جنوبًا على خارطة الصراع بين مختلف القوى، لافتة إلى محاولة حركة أمل إحراج الحزب من خلال توريطه في بعض الجرائم أبرزها خطف المسيحيين في بيروت الغربية، هذا بجانب تحول ضاحية بيروت الجنوبية إلى ميدان ملتهب للمواجهة، حيث سيطر الحزب على مقرّات أمل في الضاحية، فيما لجأ الطرفان إلى سياسة الاستهداف المباشر كما حدث مع رئيس جهاز الأمن والاستطلاع في القوات السورية العاملة في لبنان، غازي كنعان، الذي أُطلق النار على موكبه خلال عودته من اجتماع لفضّ الاشتباك بين الطرفَين.
وتُرجع الكاتبة هذا النزاع في حقيقته إلى كونه معركة بالوكالة، أو كما أسمتها “معركة ظل” بين إيران وسوريا، فالتقارب بين الحزب وطهران ودعم الأخير المستمر للأول، دفعا أمل إلى البحث عن داعم أو ممول جديد، لذا كان الاستقواء بالنظام السوري، ليتحوّل المشهد إلى صراع إيراني سوري بأيادٍ لبنانية.
اتفاق الطائف.. الانخراط في العمل السياسي
رغم أن الحزب لم يكن طرفًا في الحرب الأهلية اللبنانية، إلا أنه كان أبرز المستفيدين منها، ففي تلك الفترة توطّدت علاقته بقوة مع النظام السوري الذي دخل على خطة الأزمة لحلحلتها أواسط سبعينيات القرن الماضي، وما إن هدأت الأمور ونجحت جهود الوساطة في نزع أسلحة الفصائل اللبنانية وحلّ الميليشيات العسكرية، احتفظت سوريا بأسلحة تلك الفصائل بأيدي “حزب الله” الذي كان حينها مشغولًا بالمقاومة جنوبًا باعتباره كيانًا محايدًا.
مع الوقت، تحول “حزب الله” من كيان محايد بالنسبة إلى النظام السوري، إلى ورقة ضغط يمكن استخدامها في التعاطي مع “إسرائيل”، وهو الهدف ذاته الذي لجأت إليه طهران لاحقًا، وذلك لتحقيق حزمة من المكاسب السياسية من وراء التحرش المتباعد من قبل الحزب مع دولة الاحتلال.
ويعدّ توقيع اتفاق الطائف عام 1990، وهو الاتفاق الذي أيّده الحزب رغم تحفّظه على بعض النقاط، نقطة الانطلاق نحو الانخراط الرسمي في العمل السياسي، حيث وقف “حزب الله” في صفّ المعارضة، ليحصل في أول انتخابات برلمانية شارك فيها عام 1992 على 12 مقعدًا، وكانت مفاجأة كبيرة في ذلك الوقت، إلا أنه تراجع في الجولة الثانية عام 1996 ليحصل على 8 مقاعد فقط.
وفي التشكيل الحكومي عام 2008، حين اضطرت البلاد تشكيل حكومة وحدة وطنية بعد الاحتجاجات التي شهدتها عام 2006، حصل الحزب وحلفاؤه على 11 حقيبة وزارية من إجمالي 30 حقيبة، كما وافقت الحكومة بالإجماع على الاعتراف بالحزب كمنظمة مسلَّحة لها الحق في “تحرير الأراضي المحتلة أو استردادها”.
2006.. المرحلة الفاصلة في شعبية الحزب
قاد “حزب الله” لواء المقاومة المسلحة في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي، وعمل إلى جوار بعض القوى الأخرى على التصدي للانتهاكات العسكرية الإسرائيلية في الجنوب، ونجح في تكبيد المحتل خسائر فادحة في الأرواح والعتاد، ما أجبره في النهاية على الانسحاب تدريجيًّا عام 2006، ليحقّق الحزب شعبية جارفة بعدما تحول إلى حديث الشارع العربي في ذلك الوقت، وملأت صورة زعيمه حسن نصر الله أروقة وجدران معظم المؤسسات السياسية والإعلامية في العواصم العربية.
وساعد في إبراز الانتصار الكبير للحزب على الاحتلال الآلة الإعلامية التي يمتلكها نصر الله ورفاقه، حيث نجحت في إبراز النجاحات التي حققها الحزب، وفي المقابل فضحت الخسائر الكبيرة في صفوف الاحتلال، وهو على عكس العادة في ذلك الوقت الذي كانت تعربد فيه “إسرائيل” كيفما شاءت دون رادع.
تلك النجاحات الكبيرة غطّت في كثير من مساراتها على الخلافات الأيديولوجية مع الحزب وخلفيته الشيعية، ليصبح الانتصار هو الشعار الأكبر الذي يجبّ تحت لوائه أي تبايُنات في وجهات النظر، ما ساعد في أن أصبح الحزب وزعيمه أيقونة المقاومة العربية، قبل أن تعود الأمور إلى نصابها حيث المطامع السياسية غير المحدودة والانتصار للمكاسب الفردية على حساب الأمن القومي للبلاد.
وما إن وضعت الحرب أوزارها، وانسحبت قوات الاحتلال من الجنوب اللبناني، ثارت عدة تساؤلات حول مستقبل تسليح الحزب بعد الانسحاب، وهل ما زال بحاجة إلى امتلاك تلك الترسانة القوية من السلاح التي كان يبررها باستمرار خط المقاومة المسلحة.
إلّا أن الإجابة كانت واضحة، وهي أنه لن يتخلّى عن سلاحه مهما كان السبب، مرتكزًا في ذلك على خطاب شعبوي رسم من خلاله صورة شديدة التوهج لجهوده في مقاومة المحتل، مبررًا ذلك باستمرار حالة الخطر الإسرائيلي حتى إن كان الهدوء هو السمة الحالية، الأمر الذي وضعه في مرمى الانتقادات المحلية والدولية ليقبع في قائمة الكيانات الإرهابية للكثير من الدول حتى اليوم.
قدرات عسكرية هائلة
يمتلك “حزب الله” قوة عسكرية هائلة، تفوق في كثير من مساراتها قوة الجيش اللبناني النظامي، ورغم السرّية التي يفرضها الحزب على قدراته العسكرية والتسليحية، والبعيدة تمامًا عن المراقبة والمحاسبة، إلا أن بعض التقارير الاستخباراتية الغربية وعدد من المواقع المتخصصة في الشؤون العسكرية، تناولت بصورة عامة قدرات الحزب وإمكاناته التسليحية من خلال رصد كمّي وكيفي لها.
ومن أبرز المواقع التي تطرقت إلى هذا الملف موقع “ميثيل ثريت” الأمريكي، الذي أوضح أن الحزب يعدّ القوة التسليحية الأكبر عالميًّا بعيدًا عن الجيوش النظامية، مستعرضًا أبرز الوحدات العسكرية التي تنبثّ عن الحزب، ومنها: وحدة النصر التي تتمركز في الجنوب من حدود فلسطين المحتلة حتى نهر الليطاني، ثم وحدة بدر التي تتمركز قواتها من شمال نهر الليطاني إلى مدينة صيدا، يليها وحدة العزيز الممتدة حتى منطقة البقاع الغربي، كذلك وحدة حيدر التي تتمركز في وسط البقاع وبعلبك والهرمل، وتتنوع تلك الوحدات ما بين صاروخية ومضادة للدروع ومدفعية وسلاح جو ودفاع جوي، بجانب وحدات أخرى مسلحة لم يتمَّ الكشف عنها.
وعن القوة الصاروخية لـ”حزب الله”، يشير التقرير إلى أنه وحتى حرب 2006 كان لدى الحزب 15 ألف صاروخ، تضاعف العدد تباعًا حتى تجاوز 130 ألف وفق تقديرات حديثة، تتنوّع الصواريخ من حيث أنواعها واستخداماتها، فيما تهيمن عليها 4 فئات أساسية، أولها: صواريخ أرض-أرض ومنها كاتيوشا؛ صاروخ فلق 1/ 2، شاهين-1؛ صاروخ عيار 333 ملم، تايب-81؛ صاروخ عيار 122 ملم، صاروخ فجر-3، صاروخ فجر-5.
ثانيًا: صواريخ مضادة للسفن، ومنها سي-802؛ صاروخ مجنّح مضاد للسفن متوسط المدى؛ ياخونت، صاروخ مجنّح مضاد للسفن حصل عليه “حزب الله” من سوريا، ثالثًا: صواريخ مضادة للدبابات، والتي كانت مسؤولة عن تدمير نحو 20% من دبابات “إسرائيل” في حرب لبنان 2006.
ذراع إيران في المنطقة
أثبتت التجربة على مدار 4 عقود كاملة أن “حزب الله” أكثر ولاءً لطهران منه إلى لبنان، وهو يعترف بذلك صراحة بين الحين والآخر، وإن كان بشكل غير مباشر، حيث سقطت الكثير من الأقنعة التي كان يتشدق بها الحزب لتمرير سياساته الداخلية، فما عادت مصلحة لبنان هي همّه الأول الذي تأسَّس من أجله، كما أن وحدة التراب الوطني ليست هدفه المزعوم كما تعزف آلته الإعلامية.
وعلى مدار عشرات السنين حوّل الحزب لبنان إلى منطقة نفوذ إيراني، وورقة ضغط يمكن استخدامها في مواجهة خصوم طهران ولخدمة مشروعها التوسعي الإقليمي، ولو كان على حساب مصلحة الوطن العليا، فشوّه صورته وقوّض تماسكه وفتّت أركانه وأدخله في دوامة صراع داخلي لا ينتهي، بل وصل الأمر إلى ترويع أبنائه وترهيب شعبه لخدمة أجندته الخاصة التي لا تراعي إلا مصلحته فقط، دون أي اعتبارات أخرى.
وتجاوز الحزب اللبناني إطاره الجغرافي الضيّق ليتحول إلى وكيل طهران الإقليمي المفضّل، وذراعها الممتدة في الشرق الأوسط، فكان المتحدث الرسمي باسم طهران والقائم بأعمال الوكالة للحرس الثوري الإيراني في البقاع الساخنة في المنطقة، وعلى رأسها مثلث “سوريا-العراق-اليمن”.
ففي الملف السوري، كان مقاتلو الحزب من أوائل الفصائل التي انخرطت سريعًا في الحرب السورية دعمًا للأجندة الإيرانية هناك، إذ قُدِّر عدد مقاتلي الحزب بين عامَي 2013-2014 بأكثر من 5 آلاف شخص، كانوا يتلقّون تدريبهم في لبنان كمرحلة أولى، ثم ينتقلون إلى إيران كمحطة ثانية قبل التوجُّه إلى سوريا، حسبما نشرت وكالة الصحافة الفرنسية (أ. ف. ب) في تقرير أعدّته في وقت سابق.
وعلى الساحة العراقية، يُعتبر حزب الله العراقي الذي تأسس عام 2006 على وقع الحرب الطائفية في العراق، إحدى أذرع إيران لتمدد نفوذها الإقليمي، كما يعدّ امتدادًا لحزب الله اللبناني، ويضمّ عددًا من الميليشيات العراقية (كتائب السجاد – كتائب كربلاء – كتائب علي الأكبر – لواء أبو فضل العباس)، ويضطلع هذا الكيان بمهامّ استخباراتية عسكرية، علنية وسرّية، في العراق ولبنان وسوريا.
الوضع ذاته في اليمن، حيث شكّل الحزب وحلفاؤه ركيزة إيرانية قوية في الحرب اليمنية، ويعدّ حسن نصر الله العقل المدبّر لمعظم المواجهات الدائرة على الحدود اليمنية السعودية حسبما نشرت “فورين بوليسي” الأمريكية في تقرير لها في مايو/ أيار 2015، حيث كشفت أن الحزب كان يدير منصات الصواريخ، وأن قادته كانوا يتولّون وبشكل مباشر العمليات المسلحة هناك بأنفسهم، وقد كان قائد المقاومة الوطنية التابعة للجيش الوطني اليمني، العميد الركن طارق محمد عبد الله صالح، قد أشار في تصريح سابق له أن هناك أكثر من 300 من خبراء حزب الله دخلوا إلى صنعاء منذ عام 2011 لتدريب ميليشيات الحوثي.
وبعد 40 عامًا على التأسيس، ينشد زعماء الحزب وأنصاره على ترانيم نجاحهم في تحقيق أهداف التنظيم، غير أن القراءة المتأنّية لتلك المسيرة الملطَّخة بالدماء والقائمة في الأساس على أشلاء الضحايا وسراديب الخيانة والبراغماتية الفجّة، تشير إلى أن النجاح الوحيد الذي حققه هذا الكيان منذ نشأته هو القيام بالمهام المطلوبة منه إيرانيًّا كإحدى أبرز أذرعها في المنطقة، فقوّض الداخل وحاربَ بالوكالة في الخارج، فاستحقَّ عن جدارة أن يكون “ذيل طهران الطويل” وكلبها الوفي الذي تطلقه على خصومها كلّما استدعت الضرورة.