يومًا بعد آخر تتضح الرؤية السياسية للتيار الصدري، وتحديدًا زعيمه مقتدى الصدر، الذي على ما يبدو غير مهتم بالمبادرات السياسية التي يقودها زعيم تحالف الفتح هادي العامري، أو حتى مبادرة الحوار السياسي التي أطلقها رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، وإنما يطمح لإعادة تشكيل العملية السياسية العراقية وفق التوازنات والاستحقاقات الجديدة التي أفرزتها نتائج الانتخابات المبكرة.
فبعد اقتحام أنصار التيار الصدري لمبنى البرلمان العراقي نهاية الشهر الماضي، توجّهوا صباح الثلاثاء 23 أغسطس/ آب 2022 نحو مبنى مجلس القضاء الأعلى في محاولة لاقتحامه، مطالبين رئيس السلطة القضائية فائق زيدان بالاستقالة، وفكّ ارتباط الادّعاء العام بالمجلس، إلى جانب حلّ البرلمان، قبل أن يصدر وزير الصدر، صالح محمد العراقي، بيانًا يطالب فيه أنصار التيار بإقامة اعتصام مفتوح أمام مبنى المجلس.
الخطوة الصدرية الأخيرة أنهت من جهة أخرى على آخر ملامح الدولة في العراق، فإلى جانب حكومة تصريف الأعمال والبرلمان المعطَّل، مثّل إعلان إيقاف عمل مجلس القضاء الأعلى شللًا رسميًّا للدولة العراقية، إذ أصبحت ملامح العملية السياسية اليوم قاب قوسين أو أدنى من الفوضى، وبدأ الحديث عن تداول سيناريوهات عديدة في الشارع العراقي، ولم يكن السيناريو الليبي أو اليمني ببعيد عنها.
فسياسة الضغط العالي التي يعتمدها الصدر، جعلت هامش المناورة يضيق يومًا بعد آخر على قوى الإطار التنسيقي الشيعي، التي أصدرت بيانًا عقب محاولة اقتحام مبنى مجلس القضاء الأعلى، معلنة إيقاف أي مفاوضات أو تبادل للرسائل مع التيار الصدري، قبل أن يسحب التيار أنصاره من أمام مبنى المجلس.
الصدر يدرك أن المعضلة الدستورية والقضائية التي تقف أمامه لا يمكن تجاوزها، في حالة بقاء فائق زيدان في منصبه
ممّا لا شكّ فيه أن خطوة الصدر المتمثلة بمطالبة رئيس السلطة القضائية بالاستقالة تقف خلفها أسباب كثيرة، وتاريخ طويل من حالة عدم الثقة بين الطرفَين، وما زاد من حدة الخلاف بينها هو القرار الذي أصدرته المحكمة الاتحادية في يناير/ كانون الثاني 2022، الذي أعاد بدوره تعريف الكتلة الفائزة بالانتخابات.
حيث حرمَ هذا القرار التيارَ الصدري من فرصة تشكيل الحكومة عبر الأغلبية البسيطة التي يمتلكها، وأصبح مطالَبًا بتحقيق أغلبية الثلثَين، وهو ما أنهى أي فرصة أمام التحالف الثلاثي الذي كان يقوده الصدر، إلى جانب تحالف السيادة والحزب الديمقراطي الكردستاني، ما اعتبره الصدر أيضًا بمثابة انقلاب قضائي نُفّذ ضده بدعم وتأييد من قوى الإطار.
ولم تقف الأمور عند هذا الحد، بل أصدرت المحكمة الاتحادية قرارًا آخر في فبراير/ شباط 2022، والذي أقرّت فيه عدم دستورية قانون النفط والغاز الخاص بإقليم كردستان العراق، ما عمّق بدوره الخلاف بين الصدر والكرد.
هذه الأسباب وغيرها، جعلت الصدر يدرك أن المعضلة الدستورية والقضائية التي تقف أمامه لا يمكن تجاوزها، في حالة بقاء فائق زيدان في منصبه، والأكثر من ذلك الإحباط الذي واجهه الصدر بعد قيام السلطة القضائية بإهمال الدعاوى التي رُفعت على رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي، على خلفية التسريبات التي شنَّ فيها هجومًا لاذعًا عليه، ما اعتبره الصدر أيضًا محاباة من قبل القضاء للمالكي، ومجاملة له على حساب التيار وزعيمه.
إلى أين تتجه الأمور؟
يبدو أفق الحل السياسي معدومًا للغاية، على الأقل حتى هذه اللحظة، فبعد أن رفض الصدر المبادرات الإيرانية والأممية والإطارية، تزداد القناعة بأن الصدر ماضٍ بتحقيق مشروعه السياسي حتى لو اقتضى الأمر الصدام المسلح، ورغم أن تسوية سياسية تتضمن الحد الأدنى من الشروط التي أعلن عنها الصدر سابقًا، يمكن أن تخفف من حدة الأزمة الحالية، إلا أنه ليست هناك جرأة إطارية على تقديم هكذا تسوية حتى الآن، لأسباب عديدة، أهمها الخشية من سقوط رمزيتها السياسية أمام جمهورها وأمام إيران.
كما تتمثل الخشية الأكبر من دخول أطراف أخرى على خط الأزمة، وأبرزها هيئة الحشد الشعبي، إذ حمل البيان الذي أصدرته الهيئة نبرة التحدي لخطوة الصدر الأخيرة، وأعلنت الهيئة “استعدادها للدفاع عن مؤسسات الدولة التي تضمن مصالح الشعب، وعلى رأسها السلطة القضائية والتشريعية، وعن النظام السياسي والدستور، من مجاميع منظمة بينهم مسلحون”.
كما أكدت الهيئة أنها تُلزم “قيادات عمليات الحشد الشعبي جميعها وقيادة عمليات سامراء خاصة، بالواجبات المكلفة بها ضمن قاطع مسؤولياتها، وعدم الدخول في المعترك السياسي”، وأضافت أنها “ستقوم بمحاسبة المخالفين”.
الصدر طالب قائد فيلق القدس الإيراني، إسماعيل قاآني، في زيارته الأخيرة للعراق، بألّا يتدخل في الشأن السياسي، وأنه يرفض أية عروض إيرانية للتسوية مع قوى الإطار
وفي هذا السياق أيضًا، جاء قرار وزير الصدر بتجميد عمل اللجنة المشرفة على الاحتجاجات، ليحمل في طياته الكثير من التفسيرات، خصوصًا بعد دعوة قوى الإطار جماهيرها للاستعداد لأي طارئ، كما أنها قد تكون بمثابة ضوء أخضر لأنصار التيار باستخدام أي وسيلة ممكنة بالردّ على أي تصعيد ضدها، سواء من قبل جماهير الإطار أو من أي محاولة لمنعها من الاعتصام أمام مبنى مجلس القضاء الأعلى.
وهذا ما أوضحه بيان وزير الصدر، عندما أشار إلى أن تعليق عمل اللجنة المشرفة على الاحتجاجات جاء بعد قرار مجلس القضاء الأعلى بتعليق أعماله والمحاكم التابعة له، وهو ما يمثل تحولًا مهمًّا وتصعيدًا نوعيًّا في طريقة إدارة الظاهرة الاحتجاجية للتيار الصدري.
إجمالًا، إن إصرار الصدر وتعنُّت قوى الإطار قد يجعلان عملية المراهنة على الحلول المتطرفة خيارًا مقبولًا لدى الطرفَين، فرغم مرور 11 شهرًا على نتائج الانتخابات المبكرة، لا تزال عملية انتخاب رئيس الجمهورية وتشكيل الحكومة أشبه بالمستحيل، فإصرار كل طرف على شروطه السياسية مع تعثُّر واضح في بيئة وفرص الحوار، يشير إلى أن الصدر راغب بخيار التصعيد مع قوى الإطار.
ففي تقرير نشرته وكالة “رويترز” في 23 أغسطس/ آب 2022، تحدّثت فيه عن أن الصدر طالب قائد فيلق القدس الإيراني، إسماعيل قاآني، في زيارته الأخيرة للعراق، بألّا يتدخل في الشأن السياسي، وأنه يرفض أية عروض إيرانية للتسوية مع قوى الإطار، ما يعني أنه مع غياب فرص الحل الداخلي والإقليمي، أصبحت إمكانية تدخل مجلس الأمن الدولي في الشأن العراقي سيناريوًا مطروحًا بقوة، خصوصًا إذا ما تحولت الأزمة السياسية في العراق إلى أحد عناصر تهديد الأمن والسلم الدوليَّين، وهو سيناريو قد يعيد العراق مرة أخرى إلى الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.