تشهد الساحة اللبنانية مؤخرًا حراكات داخلية وخارجية من أجل التهيئة لانتخاب رئيس جديد للبنان، فكما جرت العادة تبدأ بورصة تداول الأسماء قبل أشهر من الاستحقاق الرئاسي، الذي يفترض أن يجرى قبل انتهاء ولاية الرئيس الحالي ميشال عون، في نهاية أكتوبر/ تشرين الأول المقبل.
وتتعسّر ولادة رئيس للبلد المنهار، حتى يتمّ التوافق الداخلي الذي يأتي بعد مباحثات خارجية، وأثناء ذلك تُسمع أسماء عواصم عربية وأجنبية في الإعلام كالرياض ودمشق كما فرنسا وأمريكا، ولا ننسى اللاعب الأكبر إيران القابضة على لبنان منذ سنوات ممثَّلة بـ”محور الممانعة”، فلا بدَّ هنا من استشارات وقرارات خارجية تدخل على خط الرئاسة، وإلا حصل الفراغ الطويل.
لكن من المؤسف أن كل المقاربات لهذا الاستحقاق الدستوري الهام، قد جرت من قبل سياسيين ينتسبون إلى أحزاب وتيارات سياسية مارونية، فكما هو العرف منذ إقرار الميثاق الوطني عام 1943، ينتمي الرئيس اللبناني للطائفة المارونية.
وتظهر للعلن عناوين طائفية، مع إعادة الشعارات التقليدية “الرئيس القوي” و”المرشح صاحب التمثيل الأقوى في بيئته”، وتغاضى جميع المرشحين الذين برزوا من هذه البيئة السياسية التقليدية عن كل ما حلَّ بالبلاد والعباد في ظل الرئيس القوي والعهد القوي من انهيارات وويلات، مع ترقب المزيد منها قبل نهاية العهد.
ومع بدء العدّ العكسي لانتخابات رئاسة الجمهورية اللبنانية، ما زالت ولادة الحكومة متعثّرة بعد 3 أشهر من انتهاء الانتخابات النيابية، ما ينبئ بعدم المرونة في الاستحقاق الرئاسي، ولكن بطبيعة الحال هناك مرشحين بارزين للرئاسة اللبنانية، في وقت تبقى فيه الأمور مفتوحة على كل الاحتمالات بانتظار ساعة الصفر.
وفي هذا التقرير، نستعرض أبرز ثلاثة مرشحين لمنصب رئيس الجمهورية اللبنانية، وحظوظ كل واحد منهم.
رجل سوريا.. سليمان فرنجية
المرشح الدائم للرئاسة، والذي يتداوَل اسمه في كل استحقاق رئاسي، اللافت بالمرشح علاقته القوية برئيس النظام السوري بشار الأسد التي تعود إلى أيام الطفولة، عندما كان جدّه الرئيس الراحل سليمان فرنجية يصطحبه في رحلات إلى دمشق لزيارة صديقه الرئيس حافظ الأسد، واعتاد فرنجية على القيام برحلات الصيد مع باسل الأسد الشقيق الأكبر لبشار الأسد، والذي توفي في حادث سير عام 1994.
وبرز فرنجية في الفترة التي هيمنت فيها سوريا على لبنان، عقب الحرب الأهلية التي دارت بين عامَي 1975 و1990، وعمل وزيرًا بالحكومة عدة مرات، وانتهى ذلك العهد بانسحاب القوات السورية من لبنان عام 2005، عقب انتقادات دولية بسبب اغتيال رفيق الحريري، وكان فرنجية وزيرًا للداخلية في ذلك الحين.
ويترأّس سليمان فرنجية اليوم تيار المردة، وتشير المعلومات إلى أن موافقته على انتخاب الرئيس عون عام 2016 أتت بعد وعود تلقّاها من حليفه “حزب الله” بأنه سيكون “الرئيس المقبل”، وفي الفترة الأخيرة تشير المعلومات إلى جهود يقوم بها “حزب الله”، حليف فرنجية ورئيس التيار الوطني الحر النائب جبران باسيل، لتقريب وجهات النظر بينهما والاتفاق على انتخاب رئيس المردة، وهو ما لا يبدو سهلًا.
وقد أورث سليمان فرنجية مؤخرًا مقعده النيابي لابنه طوني، وعلاقة الصداقة العائلية مع بشار الأسد تجعله مرشح “حزب الله” والنظام السوري على حد سواء، وكان في السابق قد تلقّى دعم كل من الحريري وبري وكذلك جنبلاط، لكن يبقى أمام أقطاب مسيحية قوية لديها قاعدة شعبية أكبر، وهي حزب القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر، اللذين يملك كل منهما مرشحَين قويَّين.
الرجل الأكثر جدلًا.. جبران باسيل
رئيس التيار الوطني الحر، النائب جبران باسيل، هو صهر رئيس الجمهورية الحالي ميشال عون، تولّى رئاسة التيار بعد عمّه، ويتهمه خصومه بأنه “رئيس الظل” في عهده، بحيث يجمع حلفاؤه وخصومه على أن له اليد الطولى في القرارات التي تُتّخذ في رئاسة الجمهورية، ومنها التفاوض في أبرز القضايا السياسية، كتأليف الحكومة والحصص الوزارية وغير ذلك.
خسر باسيل مرتين في الانتخابات النيابية في عامَي 2005 و2009، قبل أن ينجح ويصبح نائبًا عام 2018 كما عام 2022، ويكاد يُطرح اسم باسيل كمرشح لرئاسة الجمهورية منذ بدأت ولاية عمه، وفي الفترة الأخيرة تراجعت حظوظ باسيل لأسباب داخلية وخارجية مرتبطة بالعقوبات الأميركية التي فُرضت عليه لاتهامه بالفساد، حيث بات يعتبر أكثر الشخصيات السياسية إثارة للجدل في لبنان والأكثر استهدافًا شعبيًا، وهو ما ظهر جليًّا في الانتفاضة الشعبية عام 2019، حيث كان حينها المستهدف الأول واتُّهم بقضايا فساد كبيرة ناهيك عن ثرائه الفاحش بعد تسلُّمه وزارة الطاقة.
ومؤخرًا زار باسيل المقرّ الصيفي للبطريركية المارونية في الديمان لكسب البطريرك في صفه، وحدّد مواصفاته لرئيس الجمهورية المقبل، مشددًا على أن القرار في انتخاب الرئيس يجب أن يكون عند الممثلين المسيحيين الفعليين، داعيًا بكركي إلى القيام بمبادرة في هذا الإطار.
وفُهم من تصريح باسيل أنه يستبعد منافسه رئيس تيار المردة سليمان فرنجية، ويحصر المنافسة بينه وبين رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع، معتبرًا أن قوة موقع الرئيس مرتبطة بالصلاحيات التي لديه، وتتجه الأنظار إلى موقف “حزب الله” من الاستحقاق الرئاسي والشخصية التي سيدعمها، وهو حتى اللحظة لم يعطِ أيًّا من حلفائه أي وعد بهذا الخصوص، ولم يتلقَّ باسيل دعمًا حتى الآن من “حزب الله” كما دعمَ عمّه وأوصله الى سدّة الرئاسة في الانتخابات الماضية، ما يضعف حظوظه.
رئيس حزب القوات.. سمير جعجع
سياسي لبناني، يُعتبر أحد أبرز المشاركين في الحرب الأهلية اللبنانية، سُجن بتهمة إصدار أوامر القيام بعدة اغتيالات سياسية مهمة راح ضحيتها رئيس وزراء لبنان رشيد كرامي عام 1987، له رصيد كبير في عدد المجازر المرتكبة أثناء الحرب، أبرزها قتل ابن رئيس لبنان السابق سليمان فرنجية، طوني فرنجية مع زوجته وابنته، وقتل ابن رئيس لبنان السابق كميل شمعون، داني شمعون مع زوجته وأطفاله، وقتل 23 مدنيًّا على جسر نهر الموت في ضاحية بيروت.
هذا بالإضافة إلى مجزرة صبرا وشاتيلا التي اختار الموساد الإسرائيلي سمير جعجع لتنفيذها، نظرًا إلى إبداعه في المجال الإجرامي، أيضًا لا نستطيع أن ننسى الراجمات التي كانت موجَّهة على المناطق المسلمة والمسيحية المختلفة عن توجُّهه، وكيف دمّر المنازل.
وأخيرًا وليس آخرًا، قتل ما يزيد عن 1000 مواطن لبناني عُزّل، فقط لأن على الهوية مكتوب “مسلم”، حيث كانت قواته تقوم بتنصيب حواجز في العديد من المناطق، فرمى بعضهم في البحر والبعض الآخر رماهم في المقابر الجماعية، وقد أُدين وسُجن في سجن انفرادي في زنزانة في قبو تحت مبنى وزارة الدفاع لمدة 11 سنة.
وبعد ثورة الأرز عام 2005، والانسحاب اللاحق للقوات السورية من لبنان، صوّت البرلمان اللبناني المنتخب للعفو عن سمير جعجع، وعاد ليمارس دورًا في الحياة السياسية اللبنانية.
كغيره من رؤساء الأحزاب الموارنة، يُطرح اسم رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع كمرشح للرئاسة، رغم قناعة معظم الفرقاء بانعدام حظوظه لأسباب سياسية ترتبط بشكل أساسي بخصومته مع “حزب الله”، الذي من الصعب أن يصل أي رئيس إلى موقع الرئاسة في لبنان ما لم يكن راضيًا أو موافقًا عليه.
تباعُد واشنطن وطهران اليوم في فيينا سيجعل تلاقيهما على مرشّح توافقي للرئاسة اللبنانية أمرًا صعبًا.
وبعد إعلان القوات عن تأييد ترشيح ميشال عون لرئاسة الجمهورية عام 2016، بدأ يُطرح جعجع وفريقه السياسي على أنهما صانعا الرؤساء، وهو ما بدأ يتكرّس أكثر مع حصول القوات على كتلة نيابية كبيرة في البرلمان نتيجة الانتخابات النيابية الأخيرة عام 2022.
لكن مع فشل العهد وتبدُّل العلاقة بين الحليفَين السابقَين، بدأت ترتفع المواقف العالية السقف من قبل جعجع وفريقه ضد العهد والتيار الوطني الحر، فيما يحرص رئيس القوات منذ الانتخابات النيابية على دعوة المعارضة للاتفاق على مرشح لرئاسة الجمهورية في وجه مرشح “حزب الله”، وكان لافتًا قبل حوالي أسبوعَين إعلان جعجع أنه قد يؤيد انتخاب قائد الجيش جوزيف عون للرئاسة، إذا كانت حظوظه متقدمة.
بالإضافة إلى المرشحين السابقين، هناك أسماء أخرى يتم التداول بها وتُطرح على الطاولة، كحاكم مصرف لبنان رياض سلامة، كونه مسيحيًّا مارونيًّا، لكن حظوظ قائد الجيش العماد جوزيف عون أوفر، حيث يعتبر مرشحًا طبيعيًّا لرئاسة الجمهورية، وهو الماروني الذي يتولى رئاسة المؤسسة العسكرية التي سبق أن أوصلت عددًا من الرؤساء إلى هذا الموقع، و هو أحد أبرز المرشحين خصوصًا التوافقيين، رغم تأكيد المقرّبين منه أنه لم يطرح نفسه لهذا الموقع.
وتتجه الأنظار حاليًّا إلى ما سيكون عليه الوضع مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية، وسط تخوفات من عدم إجرائها وتكرار سيناريو عام 2016 عند انتخاب عون، وما صاحبَ ذلك من أزمة فراغ رئاسي دامت عامَين ونصف العام.
لكن الوضع اليوم مختلف عمّا كان عليه عام 2016، إذ جاء انتخاب عون وفقًا لتفاهم أميركي-إيراني مولود من الاتفاق النووي الموقّع عام 2015، لكن اليوم تباعُد واشنطن وطهران في فيينا سيجعل تلاقيهما، أقلّه حاليًّا، على مرشّح توافقي للرئاسة اللبنانية أمرًا صعبًا.