الطفيلي هو كائن حي يعيش ويتغذّى على جسم عائل أو مضيف، لاجئ ضمن منظومة حيوية، يمكن أن يضرّ المضيف ولكن لا يملك القدرة على قتله، وعلاقة الطفيلي بالجسم المضيف علاقة تكافلية تخضع لتنويعات سلوكية يمكن رصدها، إنما الخلق الأكثر غموضًا هي العاطفة الطفيلية، التي تربيها العلاقة العرضية وتغذّيها الحاجة الإنسانية.
فعلاقة الفرد بالآخر علاقة شائكة لا يمكن رصدها بمعايير وخصائص حيوية، أو ربطها بسلوكيات أحادية، وهذا ما يصوغ عاطفة أساسية مثل الحب في شكل عشوائي وطفيلي، وفي ظروف استثنائية، ويؤسِّس للطفيلي البشري ككيان مستقل يحمل صفات العاطفة الطفيلية ويسير بمنهجها.
والطفيلي العاطفي أو الإنساني لا يملك جذورًا أصلية تمنحه هوية يقبض عليها، بل يتحرك بناءً على لحظة الآن، الحاجة الحالية والمتجددة، ما يخلق سياقًا مغريًا للفن والسينما، كنوع فني يطوّع ظروفًا استثنائية ليخلق سياقًا سرديًا خارجًا عن المألوف.
والحق أن موازاة الكائن الطفيلي مع شخصية ساو-راي (الممثلة الصينية تانج واي) لا تتّسم بالدقة الكافية، لكنها تبقى المقاربة الأكثر إحكامًا لرؤية المخرج بارك تشان ووك السينمائية في أكثر من موضع داخل فيلمه الأخير “قرار الرحيل (Decision to Leave)”، الحائز على أفضل إخراج في مهرجان كان السينمائي، في منتَج إبداعي يضع كل المعاني المجردة محل شكّ، القانون والعاطفة والحب والضمير، يختبر حدودًا جديدة للاصطلاحات المعرفية، وينبّهنا أن الألفاظ المجردة مصطلحات فضفاضة لا تنقل الموضوع في شكل كلّي موحّد.
فالحب في فيلم بارك تشان ووك ليس حبًّا بمعناه السائد، ربما يعتمد في جزء منه على الانجذاب الجسدي، بيد أنه ينمو في مساحة ضيقة ويشتبك مع جزئية فردية لا يمكن تعميمها، ليكشف عمّا يحمله من تركيبات معقدة حتى مع محاولة تشريحها وتفكيكها تبقى غامضة، إنها أشبه بغريزة مركّبة، حدسية الحب لا يمكن الوقوف على تعريف صريح لها.
يدور الفيلم حول المحقق هاي-جن (الممثل الكوري بارك هاي إل) الذي يحقق في واقعة موت رجل سقط من سفح الجبل، وخلال مباشرته للتحقيق يقابل زوجة الرجل المقتول ساو-راي كمشتبه بها، وينجذب إليها بشكل آلي دون أن يشعر.
يحاول هاي-جن كشف ملابسات الواقعة، فيقرّر مراقبة الزوجة، مراقبة تتجاوز المعنى المعتاد وتصل إلى مرحلة التجسُّس والإلمام الكلي بالشخص، وخلال هذه العلاقة الغريبة والشائكة تتطور أنصاف المشاعر إلى عواطف جياشة، تحثُّ العاطفةُ القصةَ إلى الأمام وتدفعها من طبقة إلى أخرى مختلفة تمامًا، وتجرّ خلفها وقائع أخرى تزيد القصة تعقيدًا.
خلق المخرج بارك تشان ووك ورفيقته في الكتابة جونغ سيو كيونغ قصة محمَّلة بعدة طبقات، ومحاولة التعرض للنسق السردي تستوجب ضرورة تفكيك دوافع الشخصيات الملتبسة، فإذا نظرنا إلى هاي-جن سنلاحظ اتّسامه بطبيعة هادئة ورقيقة تكره منظر الدماء، لا تعكس خواص مهنته التي تتعرض بالضرورة لجثث القتلى في مواقع الجريمة.
هناك خلل في المنظومة، يشير إلى علاقة مضطربة بينها وبين الفرد، فجهاز الشرطة يخضع لمنهجية معيّنة في التعامل، منهجية سلطوية تتسلح بقوة القانون، في علاقة متبادلة مع الأفراد خارج المنظومة، أي أن الشرطة تجرّد الشعب من قوته البدائية في تقرير الحقوق، في المقابل يخلع الشعب عن نفسه مهمة الحماية والأمن، ويمنحها للشرطة بشكل كامل في هيئة القانون الذي يحمي الشرطة في المقام الأول.
بيد أن الأمر هنا يحدث بشكل مختلف، فالمحقق يطوّع القانون والشروط المحيطة بعلاقة المحقق والمشتبه به لأجل التقرُّب من امرأة، أي أنه يختزل البيروقراطية والأمور اللوجستية لغرض في نفسه، ينحرف عن القيمة الأساسية لجهاز الشرطة وهو تحقيق العدالة، وهنا تحدث موازاة بين العدالة الاجتماعية العامة والعدالة الخصوصية.
فللمحقق عدالته الخاصة، تنفلت عن غريزة خاصة، تسعى إلى ما يُسمّى رمسنة العدالة -أي وضعها في قالب رومانسي-، وهنا تتبدّى بوضوح سيولة المصطلحات المجردة، وقدرتها على المراوغة الشكلانية، فالعدالة بالنسبة إلى المحقق هاي-جن هي الحصول على قلب ساو-راي، عدالة ذاتية، مستقلة عن المعنى السائد للعدالة، وهنا تقع إشكالية فلسفية، انهيار المنظومة القيمية تجعل من الصعب تحديد جوهر الشيء، فإلى أي مرجعية أخلاقية يستند المحقق ليجعل امرأة مجرمة تفلت من العقاب؟
إذا دققنا في حياة المحقق الاجتماعية، سنجد أنه يعاني من الاغتراب، محاط بزملاء لا يفهمون دوافعه ولا نمط التحقيق الذي يتعاطى من خلاله مع المشتبه بهم -حتى لو كانت ظروف التحقيق استثنائية هذه المرة-، حتى في منزله يتعامل بشكل آلي مع زوجته، فمنظومة الزواج بالنسبة إليه فقدت بريقها مع البزوغ الأول لساو-راي، وتحولت إلى حقوق وواجبات فقط.
لكن هل ساو-راي هي السبب الرئيسي في هذا التغيُّر، أم أن شخصية المحقق نفسها تعاني من هذا الاغتراب الاجتماعي منذ سنوات؟ فقدان القدرة على تحقيق الذات ليس ماديًّا أو اجتماعيًّا، لأن مهنة الشرطة مهنة مرموقة، ولكن نفسيًّا وروحيًّا، الروتين اليومي والموقف الملتبس اتجاه المهنة يجردان المحقق من الامتيازات الاجتماعية بشكل صوري.
فهو شخصيًّا يقع خارج تلك المنظومة، ولكن كان عليه الاتجاه نحو الداخل مرة أخرى مع ظهور المرأة التي خبلته ومرّت على روحه، لكن هل فقد وعيه بالحقائق؟ هل فقدَ الاتزان والقدرة على التفريق بين الصواب والخطأ؟ ربما؛ يقول نيتشه في الفصل الأول من كتابه “ما وراء الخير والشر”:
“كذلك لا يكون (الوعي) مناقضًا على نحو صارم للأشياء الغريزية، فالجزء الأكبر من التفكير الواعي لفيلسوف ما، يظلُّ مسيّرًا على نحو سرّي بغرائزه، ومرغمًا على المضيّ على درب بعينه”.
يفترض نيتشه أن الوعي ليس مستقلًّا عن الغرائز بشكل كامل، ويضع وعي الفلاسفة محل شكّ خلال جملة بسيطة، يقصد بها أن الوعي ينقاد في سياقات معيّنة هدفها الحفاظ على نمط أو نوع معيّن من الحياة، ربما كان يتحرك المحقق هاي-جن بناءً على تلك الغريزة المستترة، مدفوعًا بعاطفة مشوَّهة تجعل المفاهيم أكثر سيولة، وتسير الأحداث بمعزل عن الفوقية القانونية والسائد الاجتماعي، كان يرى هاي-جن الخلاص متجسّدًا في امرأة، حاول بكل ما أوتي من قوة الحفاظ على هذه الطاقة من الفناء، الطاقة التي تجعله يتحرك كل يوم خطوة نحو المجهول.
كان المحقق هاي-جن طرفًا في علاقة حب مشوَّهة، طرفها الثاني معقّد وملتبس، شخصية المرأة محمَّلة بعدة طبقات تمنحها فرادة وجاذبية على مستوى التركيب، فالجانب التاريخي حاضر في التكوين، حيث ساو-راي لاجئة صينية داخل كوريا، تعيش في بلدة لا تنتمي إليها اجتماعيًّا أو ثقافيًّا، لكنها نجحت في الانخراط داخل المجتمع بزواجها من الضحية وعملها داخل دار رعاية مسنين.
ورغم أن قيود اللغة ما زالت تعيق التواصل بشكل كامل مع البيئة المحيطة، تتجاوز جزءًا كبيرًا من مشكلة اللغة عن طريق تطبيق إلكتروني على الهاتف يترجم المحادثات صوتيًّا، لكنها هي الأخرى تعاني من الاغتراب، بداية من اللغة مرورًا بعلاقتها المعقدة بزوجها السابق، نهايةً بالبيئة الاجتماعية الأجنبية والتكتُّلات الصينية من العصابات التي كانت تتعامل معها ساو-راي داخل كوريا، لهذا كانت المقاربة بين هذه الشخصية والطفيلي، فكلاهما يتغذّى على مضيف، كلاهما لاجئ، ولكن الفارق أن الطفيلي لا يقتل مضيفه، ولكن ساو-راي قتلت زوجها، إلا إذا حسبنا أن الظرف المكاني -كوريا الجنوبية- هو الحاضن والمضيف الأساسي.
يحتكّ الجمهور بهذه الظروف خلال مشاهدته للفيلم، التأسيس التاريخي المتفاوت لكل شخصية، الفردانية والاغتراب الاجتماعي، ليكوّن ملمحًا عامًّا عن ترابط الشخصيتَين، ومن خلال ذلك يمنح الدراما مبررًا للوجود، رغم كل الظروف الاستثنائية، يقبل المتفرج وجود هذا النوع من العلاقات التي تنتهك المهنية والضمير، وتشطح عن الواقع بشاعرية غريبة على بنية الموقف.
فللجانب العاطفي جاذبية مفرطة تجعل موازاة الواقع بالأقصوصة غير متكافئة، وتمنح القصة خصوصية فنية ومرونة، فيتجاوز المشاهد كل الفوضى السردية ويتغافل عمّا لا يفهمه بشكل واضح، ليعرف ما سينتهي إليه الإعجاب الذي ينمو مثل نبتة شيطانية على أجساد الأشخاص.
المُشاهد يتورّط في القصة من الناحية العاطفية التي كان يحسبها مجرد تفصيلات هامشية، ليفاجَأ بها تحمل الفيلم بالكامل، لذا المُشاهد كان يغرق في التداعيات، ولكن فوق هذه التداعيات، على سطحها، كان الحب في موقف محايد، يحاول الأبطال الوصول إليه لينعموا بالخلاص.
إلى جانب ذلك، ينجح المخرج في الزجّ بالمُشاهد داخل أروقة شعورية هادئة، ليتوحّد المتفرج مع الهوية العاطفية التي تخلّفها الجريمة وراءها، يرتقي اللغز الجنائي إلى لغز عاطفي، ويؤكد بارك تشان ووك على ذلك من خلال تهميشه للجرائم بشكل يزيح الفيلم من نوعية الجريمة، فتتبدّى الجرائم كأشياء ثانوية عارضة، رغم احتفاظها بالقيمة الفعلية داخل السردية، كركيزة أساسية في تسيير الأحداث.
لكن المخرج يتجاوز هذه الركائز من خلال خلق المزاج والحالة الشعورية لفيلم رومانسي، داخل نمط بصري يلتزم بلغة “النوار” والجريمة ويحتفظ بغموضه وإمكاناته المرئية، ما يصنع خلطة حداثية متفرّدة، يوظف الرومانسية في غير مكانها لكنها تتعشّق مع الصورة بشكل مثالي، وتنقل الفيلم إلى حيّز مختلف تمامًا، حيّز يجعل الصورة -بإمكاناتها في رصد تفاصيل تعنى بالعاطفة أكثر من الجسد- تبرز المعنى المناقض، تثيره، لكن لا تلغيه.
لذلك يبدو الفيلم مثل حلم طويل، لا نعرف إلى أين يأخُذنا، ولا نتذكر منه إلا تفاصيل رئيسية، ستختلط الطبقات والتفاصيل، بشكل يوحي بأننا نسير وراء حلم المخرج، فنستيقظ وفي ذاكرتنا الجبل والبحر والمشاعر، بقايا حلم، ولا يمكن تجميع شتات الفيلم إلا بمشاهدة ثانية وثالثة إذا تطلّب الأمر، ولكن الفيلم لا يحتاج إلا لمشاهدة واحدة حتى يخلّف أثرًا قويًّا على المُشاهد.
يقوم الفيلم على التداعيات، تداعيات الذاكرة والماضي والتاريخ، لهذا تتبدّى الوقائع الرئيسية التي تتعلق بالمادّي هامشية، فالمنتَج الإبداعي يتعاطى مع الذاكرة والماضي في جزئية مهمة، وهذه الجزئية هي ما يحدث التناصّ بين المهنة الشرطية التي تختزَل -داخل الفيلم- في أفعال التحقيق والاستجواب والمراقبة، وعلاقة الحب ذاتها التي يمكن اختزالها أيضًا -بشكل صوري- في الأفعال ذاتها.
لكن دوافع كلا المهنتَين مختلفة تمامًا، فالأولى تبتغي تحقيق العدالة، وهي غاية عمومية تعنى بالمجتمع ككُلّ، والثانية ترمي إلى ما هو مجرد، تهدف تحقيق الغاية الفردية التي تخصّ الفرد، وهي تحقيق التوازن العاطفي، الأفعال المذكورة هي التي تحدث التماسّ بين ما هو عامّ وما هو خاصّ، ليقع الحب بين هذه الأفعال، ولكنه ليس حبًّا شائعًا، إنما -هو أيضًا- حبًّا طفيليًّا على الجريمة، فالحب ذاته ككلمة مجردة لا يمكن تعيين حدودها بشكل دقيق، يتعشّق بالجريمة، ويأخذ شكلها، ويكتسب هويته وقيمته منها.
ومثلما يحشد هاي-جن دلائل واستجوابات وصورًا في نسق بنيوي ليبقي الجريمة قيد التحقيق، يرصد بعينَيه دمعة أو كلمة أو حركة شفاه أو رمشة عين أو حركة إصبع، ليحافظ على شعلة الحب مشتعلة، ينكشف تأثير الجريمة على عنصر الحب خلال أحداث الفيلم، فكلّما حضرت الجريمة تلازمها أفعال بيروقراطية وأدوات وإشارات، وتقع تلك الأحداث بمثابة المحرك الدوار لعجلة الحب، وزوالها يعني سكون العجلة وتلاشي العاطفة، فالسكون ينبئ بالانتهاء، والحركة تعنى بالحفاظ على الموجود.
لهذا نقول إن الحب يتغذى على الجريمة ليكبر، فعندما أغلق المحقق القضية الأولى، ارتكبت ساو-راي الثانية، لتنفخ في النار، وبهذا تأخذ الجريمة وجهَين، الأول يتعلق بالجانب الاجتماعي والدوافع الخارجية الظاهرة، والآخر يبطن الوجه الأول، ويحرّك الأمور في الخفاء، فعلاقة المحقق والمشتبه به علاقة محدودة، مساحة محصورة في الجانب القانوني والجنائي، أما علاقة المحب بمحبوبه فهي علاقة لا تلتزم بإطار، مثلما لا تلتزم لفظة الحب بمعنى واحد، وإذا وضعنا اللفظ إزاء المعنى ستظهر الفجوة الكبيرة بين الكلمة والمراد.
فالحب هنا ينمو على جسد الجريمة، ما يمنحه موقفًا جديدًا، فيقف الحب في الفيلم حيث يكون الشك حاجةً أولى، وهنا تظهر إشكالية ثانية، هل يمكن أن ينشأ الشيء عن نقيضه؟ يرتكز الحب على الثقة والأمان، عكس الجريمة التي تمضي في مذهب شكوكي، ومن خلال ذلك سنجد أن الذنب الذي تخلفه مهنة الشرطة هو ما يضع هذه العلاقة محل شك، هو ما ينبذ العلاقة ويردّها إلى الحيّز الطبيعي، لذا العلاقة ذاتها قائمة على الارتياب الجنسي والارتباك العاطفي، تجربة عاطفية غير مكتملة، لأن هامش التفاعل خارج مساحة التحقيق قليلة.
فحتى مع توفُّر الوقت الذي يندرج تحت مسمّى التحقيق، الممارسات والأفعال التي تختبر التجربة غير موجودة، فالأمر لا يتوقف على الموضع الشكلي للتجربة العاطفية -لا وجود لموضع شكلي يعبِّر حصرًا عن الحب-، بل يتجاوز إلى حدود الوعي والاندماج الروحي ليخلّف نوعًا من الاتكالية العاطفية، وهي نوع من الممارسات التي تتبدّى مع تطور الحب، ليست موجودة، لأن التجربة ذاتها مبتورة، ومحصورة في مساحة جديدة وربما طازجة نستكشفها على الشاشة.
يستخدم بارك تشان ووك أكثر من تقنية حكائية داخل الفيلم، أولها التجاوز البصري للواقع، ومدّ تأثير الأداة إلى الصورة، ما يجعل الأداة نفسها تتجاوز وظيفتها الفيزيائية المصمَّمة لها، منظار المراقبة لا يقرّب الصورة فقط، بل يضع المحقق داخل المكان والزمان المراد رصدهما، أي يسيل الظروف الفيزيائية الحيوية التي تمنعه من التنقل الشبحي داخل الجدران، ومسجّل الصوت أيضًا يقوم بالفعل نفسه، يتجاوز خصائصه الفيزيائية ويزجّ بالمحقق داخل الحدث.
وفي هذه المواقف إعمال للخيال بشكل واضح، سواء خيال المحقق أو المشاهد، والثانية هي التماهي الرمزي مع الموجودات، وتمرير الإشارات عبر الرؤية الازدواجية للعالم، ويحقق بارك رؤيته الفنية من خلال موازاة أشكال طبيعية محمَّلة بالرموز والإشارات مع شخصياته الرئيسية، فوظف عنصرَين طبيعيَّين، البيئة الحجرية المتمثلة في الجبل، والتجمعات المائية المتمثلة في البحر، وجرّد كل عنصر بإسقاطه على إحدى الشخصيات.
هاي-جن الذي ينتمي إلى منظومة هرمية محصورة داخل إجراءات بيروقراطية حجرية، حتى في منزله يمارس وجوده كأداة وليس كروح حرة لها إرادة مستقلة، يتجمّد كحجر ساكن داخل المنظومة، يكتسب قيمته من الشكل الخارجي القاسي والراسخ بشكل صوري للمبادئ والقيم العامة، التي تخلق القانون وتمنحه وجاهة اجتماعية، يعاني من أرق مزمن، أرق اجتماعي يقتل النوم في عينَيه، متيقّظ مثل عين الجبل، يشهد على موته كل يوم.
أما ساو-راي، فهي ذات طبيعة رخوة مائية، تأخذ من البحر جماله وغموضه، لا يمكنك الإمساك بالبحر حتى لو بنظرة، وفي الوقت نفسه لن تشبع من النظر إليه، في جماله خطر جدّي وفي سكونه أسرار منفلتة، كان على هاي-جن أن يهجر طبيعته الحجرية، ويتحول إلى بحّار يخوض في لُجّة المجهول، ساو-راي امرأة، لا يمكنك التفتيش عن المرأة إذا كانت أمامك، بيد أنك مهما فتّشت عنها لن تجدها، وهذه المرأة المذهلة تذكّرني بفقرة من كتاب “فلسفة البحر”، اقتبسها الكاتب غونتر شولتس من كتاب “الجمهورية” لأفلاطون:
“ورغم معرفتنا أن الروح مبدئيًّا من أصل سماوي وخالدة، لكننا لا نراها إلا في حالة مثل حالة إله البحر غلاوكوس في الميثولوجيا الإغريقية، الذي يسكن الماء، وكانت طبيعته الأصلية غير معروفة تمامًا، “لأن أطراف جسده القديمة قد تحطمت، وبعض منها تضرر بكل الطرق بفعل أمواج البحر. وعندما نمت له من جديد أصداف وأعشاب وأحجار، بدا كوحش أكثر ممّا كان عليه من قبل، لذلك نرى نحن أيضًا أرواحنا التي صنعتها الآلاف من الشرور””.
ساو-راي وحش جميل، نمت له براثن وأنياب، بعد أن كسر جناحَيه، إنها ساحرة، تتلاعب بالحب، تغازل حبيبها، وعندما يفصح ويسلِّم تبتره، تثبّته في مكانه ليراقبها من بعيد وهي تنثر حبها، غير قادر على لمسها، لا يمكن عقلنة الميل إلى المحبوب، ولا يمكن عقلنة العلاقة بين الشخصيتَين، كل ما يمكن فعله هو رصد ما وراء الجسد، كما في مشهد الاستجواب، حين تتكلم إحدى الشخصيات يظهر انعكاسها في المرآة داخل بؤرة الكاميرا، المحقق يتحدث إلى محبوبته، والمشتبه بها تتحدث إلى الرجل المنكسر، يتحدثان إلى أماني وتخيُّلات، إلى أشباح.
لكن طالما نرصدهما بأعيننا، فهما ليسا شبحَين، إنهما يتلاعبان بنا، لنصل في النهاية إلى مشهد شاعري في قسوته، يتعرض لفكرة الانغمار والغواية، يجد المحقق نفسه -وهو ذو طبيعة نظيفة ومنظَّمة- ضائعًا وسط الطبيعة الرخوة العشوائية، تحوّلت طبيعة البحر الفاتنة إلى هجوم وهيجان، مدّت أذرع الغواية البحرية أمواجها حتى حجبت الحب، ولم تخلِّف وراءها سوى الأسى.
لم تشكل هوية البحر سوى تراجيديا من التلاعب الخطر بمصائر البشر، وإذا كان هذا المدّ المائي هو الكلية التي تأكل الصخر وتواصل امتدادها داخل الحفر والفجوات لتأخذ شكل إله بحري، فساو-راي هي الحورية، التي تستجلب ضحاياها للوجود الأول والكلية اللانهائية، فكل إله يستلزم قرابين وضحايا، ولكن حين تصاب الحورية باليأس، تعود إلى الماهية الأولى، البحر، إلى الأبد.