لا يمتلك الفلسطينيون منذ تدمير مطار غزة الدولي عام 2000 أي مطارات دولية أو محلية، إذ ينحصر سفرهم في قطاع غزة من خلال بوابة معبر رفح مع مصر، وفي الضفة الغربية عبر معبر الكرامة “جسر الملك حسين”. وخلال عمل مطار غزة الدولي لم يكن المطار متاحًا لسفر أهالي الضفة الغربية المحتلة، فكان يقتصر على سكان القطاع في غالب الأحيان، غير أن الشاهد الوحيد بالنسبة للفلسطينيين أن السفر قطعة من العذاب بالنسبة لهم.
ومنذ معركة سيف القدس في مايو/أيار 2021 عمد الاحتلال الإسرائيلي إلى اتباع سياسة جديدة مع الفلسطينيين تقوم على سياسة “السلام الاقتصادي” في مسعى منه لاحتواء الهبات الشعبية والضغط على المقاومة بالأوراق الاقتصادية. ومن بين هذه التسهيلات كان الإعلان الأخير في شهر يوليو/تموز عن قرار إسرائيلي بالسماح للفلسطينيين في الضفة الغربية بالسفر عبر مطار رامون الواقع أقصى جنوب فلسطين المحتلة دون الحاجة للمرور بمعبر الكرامة “جسر الملك حسين”.
ويبدأ سفر الفلسطينيين بالضفة المحتلة بما يعرف بـ”الاستراحة”، وهي نقطة يسيطر عليها الجانب الفلسطيني بالكامل، وهناك يُسلم حقائبه ويدفع رسوم نقلها إلى الجانب الأردني، ثم يدفع ضريبة المغادرة عن كل فرد يتجاوز عمره العامين قرابة 46 دولارًا.
وبعد ختم الجواز يتم نقل المسافرين عبر حافلة إلى منطقة الجسر التي يسيطر عليها الاحتلال، أو ما يسمى إسرائيليًا بـ”جسر اللنبي” أي “جسر الملك حسين”، وهناك يتم – في عملية أمنية دقيقة – تفتيش المسافر وفحص الأوراق الثبوتية ثم ينتقل المسافر عبر حافلات إلى الجانب الذي يسيطر عليه الأردن “جسر الملك حسين”، وهناك يتم فحص وختم الجوازات للمرة الثالثة.
وبعد الانتهاء من فحص الجوازات يدفع المسافرون الفلسطينيون الذين يحملون بطاقات السفر الخضراء (أي غير حاملي الجوازات الأردنية) 10 دنانير أردنية (ما يعادل 14 دولارًا)، بالإضافة إلى رسوم على الأمتعة، وفي حال كانت وجه السفر إلى أي دولة أخرى، ينتقل المسافر للمحطة الرابعة، وهي مطار الملكة علياء الذي يغادر منه إلى الخارج.
تاريخ مطار رامون
يقع مطار رامون الدولي على بعد نحو 18 كيلومترًا شمال مدينة إيلات في خليج العقبة، ويبعد نحو 340 كيلومترًا عن مدينة القدس المحتلة، وتم تسميته تخليدًا لذكرى إيلان رامون، وهو عالم الفضاء الإسرائيلي الأول الذي صعد إلى الفضاء، فبعد سنوات طويلة من الخدمة في سلاح الجو الإسرائيلي انتقل إلى الولايات المتحدة عام 1997 للتدرب على السفر إلى الفضاء، وقتل في تفجر مكوك كولومبيا عام 2019.
أقيم مطار رامون عام 2019، في مساعٍ إسرائيلية لاستبدال مطار إيلات الذي كان يقع داخل المدينة لصغر حجمه، ولاستبدال مطار “عوفدا” (الذي يقع على بعد 65 كيلومترًا شمال إيلات)، وهو مطار عسكري من المفترض أن يستقبل أيضًا طائرات مدنية.
ورغم صغر حجم مطار رامون (يحتوي على مدرج هبوط واحد بطول 3600 متر وعرض 60 مترًا)، فإنه يعتبر متطورًا جدًا، إذ يحتوي على برج مراقبة حديث جدًا وسوق حرة معفية من الضرائب (وليس فقط الجمارك، كما هي الحال في مطار اللد الدولي).
في أثناء بناء مطار رامون، تنكرت “إسرائيل” للبروتوكولات العالمية المتعلقة ببناء المطارات التي تشرف عليها المنظمة العالمية للطيران المدني، وذلك لأنها لم تراع المسافات الواجب الحفاظ عليها بين المطارات، وتجاهلت وجود مطار الملك حسين في مدينة العقبة الذي يبعد فقط كيلومترات معدودة، الأمر الذي قد يتسبب بحوادث جوية واضطرابات في حركة الطائرات بسبب المزاحمة على الإقلاع والهبوط في مطارين محاذيين.
في أعقاب الحرب على غزة عام 2014، وتنبّه الاحتلال لإمكانية إغلاق مطار اللد بسبب صواريخ الفصائل الفلسطينية التي وصلت تل أبيب، قرر وزير المواصلات الإسرائيلي حينها، يسرائيل كاتس، توسيع أعمال البناء في مطار رامون، التي كانت في بدايتها، حتى يكون هناك مطار بديل يحول دون أن تنقطع “إسرائيل” عن العالم في أوقات الحروب، ومن هنا، تم تحضير مطار رامون ليكون مطارًا دوليًا، وليس فقط مطارًا محليًا.
كلف المطار نحو 1.7 مليار شيكل، ومقام على مساحة تصل إلى نحو 14 ألف دونم قابلة للتوسيع، إلا أنه يعتبر مشروعًا فاشلًا، إذ سافر من مطار رامون عام 2019، 348 ألف مسافر، وفي عام 2020 هبط العدد إلى 126 ألفًا، ثم في العام 2021 هبط عدد المسافرين دوليًا إلى 4800 فقط، أما في العام 2022، فقد وصل عدد المسافرين في الربع الأول من العام (يناير/كانون الثاني – مالاس/آذار) إلى 20 مسافرًا فقط على متن 9 طائرات مختلفة.
الدوافع والأسباب
يعتبر القرار الإسرائيلي مفاجئًا للكثيرين في الأوساط الفلسطينية خصوصًا الشعبية والرسمية، على اعتبار أنه جاء بشكل أحادي ودون مطالبة من السلطة الفلسطينية التي وضعت في موقف محرج نتيجة لرفض الأردن من الأساس وجود هذا المعبر.
أما سيناريوهات القرار الإسرائيلي فتتجه نحو ثلاثة أسباب: السيناريو الأول يقوم على رؤية اقتصادية بحتة متمثلة في محاولة الاحتلال إحياء المطار الفاشل وتحصيل عوائد مالية من سفر الفلسطينيين من خلاله تمكنه من تعويض الخسائر الاقتصادية.
إذ تعكس تكلفة بناء المطار وتشغيله خسارة مالية لخزينة الاحتلال، وبالتالي قد يكون تشغيل المطار عبر المسافرين الفلسطينيين أحد دوافع هذا القرار خصوصًا أنه ووفقًا لتقديرات سياحية غير رسمية فإن عدد المسافرين الفلسطينيين الذين يتنقلون عبر جسر الكرامة “الملك حسين” يتراوح بين 2.5 – 3 ملايين مسافر فلسطيني سنويًا، مليونان منهم يستخدمون مطار علياء في عمان للسفر إلى وجهات مختلفة حول العالم.
السيناريو الثاني يميل إلى فكرة أمنية وسياسية تتمثل في تطبيق عملي من الاحتلال لضم الضفة الغربية وسكانها دون إعلان، وبالتالي تنفيذ قرارات إسرائيلية عليهم بشكل طوعي في البداية تمهيدًا لتحويلها جبرية مستقبلًا.
ويحاول الاحتلال في إطار هذا السيناريو ترويج المطار فلسطينيًا ضمن مجموعة من التسهيلات التي يقدمها للفلسطينيين، يمكنه من تشغيله والترويج له دوليًا ليصبح بديلًا عن المعابر التي تربط الفلسطينيين بدول مثل الأردن ومصر.
وتعزز فكرة السفر عبر المطار الإسرائيلي من قبضة الاحتلال الأمنية تحديدًا على سكان الضفة والقدس المحتلتين، وبالتالي التحكم في المسافرين ومنعهم من المغادرة وإن كان ذات الأمر قائمًا على معبر الكرامة “جسر الملك حسين”.
السيناريو الثالث، ينطلق من فكرة أن القرار محاولة إسرائيلية للضغط على الأردن الذي يستفيد اقتصاديًا بشكل كبير من سفر الفلسطينيين عبر أراضيه سواء من الرسوم المحصلة على المعبر أم من خلال سفرهم عبر مطار الملكة علياء.
وهنا يحضر الموقف الأردني الرافض بشدة لهذا المطار الذي تعرض لضربة أمنية في 2021 حينما وصلته أول صواريخ المقاومة الفلسطينية خلال معركة سيف القدس، إذ تضغط عمان على السلطة لاتخاذ خطوات جدية تمنع الفلسطينيين من السفر عبر هذا المطار.
الموقف الفلسطيني
منذ بداية الإعلان الإسرائيلي عن القرار، والموقف الفلسطيني الرسمي يبدو متخبطًا، فمن جهة أعلنت السلطة عبر مستويات مختلفة أبرزها رئيس الوزراء محمد أشتية ووزير النقل وقطاعات حكومية أخرى رفض المقترح الإسرائيلي باعتبار أنه من حق الفلسطينيين تدشين مطار خاضع لسيطرتهم الكاملة وبعيدًا عن السيطرة الإسرائيلية.
إلا أن السلطة في ذات الوقت لم تتخذ أي إجراءات بحق الرحلة الأولى التي غادرت من المطار واكتفت بموقف الإدانة والمطالبة الشعبية للفلسطينيين بضرورة عدم التجاوب مع المطار واستمرار التنقل عبر معبر الكرامة.
وتبدو السلطة أمام القاعدة الجماهيرية والشعبية أكثر إحراجًا مع سفر مسؤوليها عبر مطار اللد “بن غوريون” في تل أبيب، وهو ما عرضها لانتقادات واسعة في ظل عدم توافر البدائل والشكاوى الفلسطينية المتكررة من سوء المعاملة عبر المعابر مع الدول العربية.
أما شعبيًا، فيمكن قراءة الموقف الفلسطيني من منطلقين: الأول يتمثل في الممتنع عن السفر عبر هذا المطار على اعتبار خضوعه للاحتلال وترويجه فكرة السلام الاقتصادي وتعزيزه لفصل الضفة الغربية والتصاقها بالاحتلال.
وينطلق أصحاب هذا التوجه من ضرورة التصدي لهذه المقترحات لأن الاحتلال ينسف أي آفاق لمنح الفلسطينيين حقوقهم السياسية المتمثلة في السيادة ويتجه بشكل متصاعد نحو تسهيلات ذات طابع اقتصادي تربطهم بمؤسساته وكيانه أكثر.
تجربة السفر عبر هذا المطار لا يبدو أنها مشجعة كثيرًا لسكان الضفة الغربية المحتلة، إذ يبدو أن المنع الأمني القائم على معبر الكرامة هو ذاته الذي سيكون عبر هذا المطار وبالتالي فإنه لم يقدم أي جديد
أما المنطلق الثاني، فيرى أن حاجة الفلسطينيين إلى سفر أكثر سهولة تجعلهم يقبلون بالسفر عبر هذا المطار خصوصًا مع التسهيلات المقدمة لهم على الصعيد المالي والتكلفة الإجمالية وسرعة الوصول إلى الدول.
ويبرر أصحاب هذا المنطلق بسوء التعامل الواقع على المعابر خصوصًا معبري الكرامة ورفح والإجراءات المشددة المتبعة، مع الإشارة هنا إلى أن سلوك الاحتلال ليس أفضل حالًا، وهو ما يجعل هؤلاء يقبلون بفكرة السفر عبر المطار.
ويعتقد أصحاب هذا المنطلق أن الاحتلال ورغم فرضه وقائع جديدة على الأرض، فإن الفلسطينيين لا يمتلكون من أمرهم أي حلول بديلة في ظل افتقارهم لقيادة سياسية قادرة على خلق حلول بديلة، وعدم وجود موقف حازم من السلطة تجاه المطار.
ومع سفر الرحلة الأولى من الفلسطينيين التي حملت 40 شخصًا ومنع قرابة 5 آخرين، فإن تجربة السفر عبر هذا المطار لا يبدو أنها مشجعة كثيرًا لسكان الضفة الغربية المحتلة، إذ يبدو أن المنع الأمني القائم على معبر الكرامة هو ذاته الذي سيكون عبر هذا المطار وبالتالي فإنه لم يقدم أي جديد.
إلى جانب أن الكثير من الفلسطينيين في الضفة يحملون جوازات سفر أردنية وهو ما سيجعلهم يميلون للسفر عبر معبر الكرامة لاعتبارات عائلية وسياسية تتمثل في الحفاظ على جوازات سفرهم الأردنية وعدم الدخول في صدام مع المملكة الأردنية.