تحيي أوكرانيا اليوم (24 أغسطس/آب) ذكرى عيد الاستقلال عن الاتحاد السوفيتي، ويتزامن هذا اليوم مع مرور نصف عام على الحرب الروسية الأوكرانية، أول حرب عدوانية واسعة النطاق في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية، انتهت مرحلتها الخاطفة الأولية، ما أفسح المجال لحرب استنزاف أبطأ في جنوب أوكرانيا.
رغم أن آمال الرئيس الروسي في النصر السريع لم تتحقق حتى اليوم، وتراجعت روسيا عن مساعيها للاستيلاء على كييف، غيَّر أول غزو إقليمي لدولة ذات سيادة في أوروبا منذ 80 عامًا، أوكرانيا وروسيا والعالم بشكل لا رجعة فيه خلال الأشهر الست التي تلت ذلك، وترك هذا القرار المصيري بصماته على مختلف نواحي الحياة السياسية والاقتصادية، وخلَّفت الحرب أيضًا العديد من التأثيرات غير المتوقعة التي تردد صداها في جميع أنحاء العالم.
الاقتصاد العالمي على حافة الانهيار
بعد ستة أشهر من غزو روسيا لأوكرانيا، تشكل العواقب تهديدًا مدمرًا للاقتصاد العالمي، وتشعر الحكومات والشركات والعائلات في جميع أنحاء العالم بالآثار الاقتصادية للحرب التي أعقبت عامين فقط من تفشي جائحة كورونا التي دمرت التجارة العالمية.
دفعت الحرب الروسية صندوق النقد الدولي الشهر الماضي إلى خفض توقعاته للاقتصاد العالمي للمرة الرابعة في أقل من عام، إذ يتوقع الصندوق نموًا بنسبة 3.2% هذا العام، مقارنة بنسبة 4.9% التي توقعها في يوليو/تموز 2021، وأقل بكثير من 6.1% في العام الماضي، ما يجعل العالم يتأرجح قريبًا على حافة ركود عالمي، بعد عامين فقط من الركود الأخير.
وقال برنامج التنمية التابع للأمم المتحدة إن ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة التي أعقبت الغزو الروسي لأوكرانيا ألقى بـ71 مليون شخص في أنحاء العالم إلى الفقر في الأشهر الثلاث الأولى من الحرب، وكانت دول البلقان وإفريقيا جنوب الصحراء الأشد تضررًا.
حتى قبل أن يأمر الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بغزو أوكرانيا، كان الاقتصاد العالمي تحت الضغط، فقد ارتفع معدل التضخم بشكل كبير حيث طغى الركود الوبائي على المصانع والموانئ وساحات الشحن، ما تسبب في التأخير والنقص وارتفاع الأسعار، ردًا على ذلك، بدأت البنوك المركزية في رفع أسعار الفائدة في محاولة لتهدئة النمو الاقتصادي ومحاولة ترويض نسب التضخم المرتفعة.
فرضت الصين، التي تتبع سياسة خالية من فيروس كورونا، عمليات إغلاق أدت إلى إضعاف ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وفي ذلك الوقت، كانت العديد من البلدان النامية لا تزال تكافح ضد الوباء والديون الثقيلة التي تحملتها لحماية سكانها من كارثة اقتصادية.
كل هذه التحديات كان من الممكن التعامل معها، لكن عندما غزت روسيا أوكرانيا في فبراير/شباط الماضي، رد الغرب بفرض عقوبات شديدة، وأدى كلا الإجراءين إلى تعطيل التجارة في الغذاء والطاقة.
في يونيو/حزيران الماضي، خفضت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية توقعاتها للنمو العالمي هذا العام من 4.5% في ديسمبر/كانون الأول إلى 3%، وضاعفت توقعاتها للتضخم إلى ما يقارب 9% لدولها الأعضاء البالغ عددهم 38 دولة، وفي عام 2023، تتوقع المنظمة – التي لم تصدر توقعات كاملة في أبريل/نيسان بسبب حالة عدم اليقين السائدة – أن يتباطأ النمو إلى 2.8%.
وحذر التقرير، الذي يردد أصداء تحذير مماثل من البنك الدولي، من أن سعر الحرب قد يكون “أعلى”، ووصف قائمة طويلة من المخاطر التي تتراوح من الانقطاع المفاجئ للإمدادات الروسية في أوروبا إلى نقاط الضعف في الأسواق المالية من الديون المرتفعة، وأشار إلى تداعيات اقتصادية أعمق وأوسع نطاقًا من الغزو الروسي ستجعل من الصعب وضع السياسات المالية والنقدية الصحيحة.
تقدِّر وزارة الدفاع الأمريكية أن ما يصل إلى 80 ألف جندي روسي قُتلوا وأُصيبوا في الحرب
لقد أجبرت الآثار المبكرة لارتفاع الأسعار البنوك المركزية بالفعل على تشديد السياسة النقدية، حيث رفع الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي، على سبيل المثال، أسعار الفائدة بوتيرة متسارعة بلغت 75 نقطة أساس، في زيادة هي الأكبر منذ 28 عامًا، وفي غضون ذلك، تعيد الحكومات التفكير في خطط الإنفاق وهي تحاول إيواء الأسر اللاجئة.
لم تنج من هذه الأضرار روسيا، التي يتوقع صندوق النقد الدولي أن ينكمش اقتصادها بنسبة 6% هذا العام على وقع العقوبات الغربية، ويشير المسؤول السابق في البنك المركزي الروسي سيرجي ألكساشينكو، إلى أن مبيعات التجزئة في البلاد تراجعت بنسبة 10% في الربع الثاني مقارنة بالعام الذي سبقه مع تقليص المستهلكين.
تواجه البلاد مستقبل سلع ذات نوعية رديئة مع معايير أمان متدنية واستثمار أجنبي مباشر ضئيل وتراجع في الدخل الحقيقي، فعلى سبيل المثال، استبدلت سلسلة مطاعم “ماكدونالدز” الأمريكية بـ”فكوسنو إي توتشكا”، بعد أن قررت الانسحاب من روسيا في ظل ضغوطات العقوبات الغربية المفروضة عليها.
حان الوقت لتقييم الخسائر
جاءت العقوبات الغربية على الاقتصاد الروسي بتكلفة باهظة، فقد جُمدت نصف الاحتياطات الأجنبية للبلاد، وانسحبت مئات الشركات الغربية من السوق الروسية، ويتم الآن بيع صادرات النفط والغاز الرئيسية بأسعار مخفضة للمشترين الانتهازيين، وبالنسبة للخسائر البشرية، تقدِّر وزارة الدفاع الأمريكية أن ما يصل إلى 80 ألف جندي روسي قُتلوا وأُصيبوا في الحرب، ويعتقد المحللون الغربيون أيضًا أن آلة الحرب الروسية قد استنفدت بشكل خطير مع انخفاض مخزونات الذخيرة.
كل هذه الخسائر المادية والبشرية مجرد عزاء بارد للأوكرانيين الذين دفعوا ثمنًا لا يمكن تخيله للدفاع عن حق أمتهم في الوجود، وشهدت الحرب التي استمرت نصف عام مقتل الآلاف، وارتكبت القوات الروسية فظائع وجرائم حرب مزعومة، ووفقًا لبيانات “رويترز”، قُتل أكثر من 46 ألف شخص حتى الآن في الحرب، بينهم أكثر من 5000 مدني.
على الرغم من مرور أسوأ الشهور – كما يبدو – من حيث الخسائر المدنية، فإن مئات المدنيين الأوكرانيين لا يزالون يفقدون أرواحهم كل شهر، ويتعرض عدد أكبر منهم للإصابة.
قبل بدء الحرب، كان من المقدَّر أن مليون إلى 5 ملايين لاجئ يمكنهم الفرار من أوكرانيا، لكن هذا التوقع انتهى به الأمر إلى كونه متحفظًا للغاية، إذ يوجد حاليًّا نحو 6.8 مليون لاجئ مسجل منتشرين في جميع أنحاء أوروبا، ودون احتساب أولئك الذين عادوا إلى ديارهم، سجَّلت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين نحو 11 مليون حالة عبور حدودي خارج أوكرانيا إلى جانب ما لا يقل عن 7.7 مليون نازح داخليًا.
بعد الفرار في البداية إلى البلدان المجاورة، واصل 3 ملايين على الأقل رحلتهم، فوفقًا للمفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، وبصرف النظر عن بولندا، تستضيف ألمانيا وجمهورية التشيك حاليًّا أكبر عدد من اللاجئين الأوكرانيين، بما يقارب 727 ألف و348 ألف على التوالي، اعتمادًا على شبكة الأمان الاجتماعي لكل بلد، على الأقل لبعض الوقت.
الحرب تعمق أزمة الغذاء
تمنع الحرب الروسية في أوكرانيا الحبوب من مغادرة “سلة خبز العالم”، وتجعل الغذاء أكثر تكلفة في جميع أنحاء العالم، ما يهدد بتفاقم النقص والجوع وعدم الاستقرار السياسي في البلدان النامية.
تصدر روسيا وأوكرانيا معًا ما يقرب من ثلث القمح والشعير في العالم، وأكثر من 70% من زيت عباد الشمس، وهما موردان رئيسيان للذرة، وفقًا لوزارة الزراعة الأمريكية، تمثل أوكرانيا 15% من التجارة العالمية في الذرة و10% من تجارة القمح العالمية، وروسيا هي أكبر منتج عالمي للأسمدة.
كانت أسعار الغذاء العالمية في ارتفاع بالفعل، وزادت الحرب الأمور سوءًا بقطع مثل هذه الصادرات، مع استمرار روسيا في حصار الحبوب في موانئ أوكرانيا على البحر الأسود، ومنع نحو 20 مليون طن من الحبوب الأوكرانية من الوصول إلى الشرق الأوسط وشمال إفريقيا وأجزاء من آسيا.
لم تحرز شهور من المفاوضات بشأن ممرات آمنة لإخراج الحبوب من موانئ أوكرانيا على البحر الأسود إلا تقدمًا طفيفًا حتى الآن، فمنذ بدء الحرب، تمكنت أوكرانيا من تصدير 1.5 مليون إلى مليوني طن فقط من الحبوب شهريًا، مقارنة بأكثر من 6 ملايين طن قبل الحرب.
يمكن أن يؤدي ارتفاع أسعار المواد الغذائية ونقصها الذي تفاقم بسبب قطع شحنات الأسمدة والحبوب من أوكرانيا وروسيا التي تستأنف ببطء، إلى انتشار الجوع والاضطراب على نطاق واسع في العالم النامي
كذلك الأمر بالنسبة للحبوب الروسية التي لا تغادر صوامعها، وتجادل موسكو بأن العقوبات الغربية على صناعاتها المصرفية والشحن تجعل من المستحيل عليها تصدير المواد الغذائية والأسمدة وتثني شركات الشحن الأجنبية عن حملها، ويصر المسؤولون الروس على رفع العقوبات لإيصال الحبوب إلى الأسواق العالمية، لكن رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين وزعماء غربيين آخرين يقولون إن العقوبات لا تمس الطعام.
يمكن الشعور بالآثار المترتبة على ذلك بشكل خاص في البلدان النامية الأكثر عرضة لارتفاع التكلفة ونقص الإمدادات، التي تعتمد على واردات الحبوب وزيت الطهي من البلدين المتحاربين، مثل مصر والهند على التوالي، وبشكل عام، يعتمد 400 مليون شخص في جميع أنحاء العالم على الإمدادات الغذائية الأوكرانية، ومع ذلك، فإن الآثار المتتالية تذهب إلى نطاق أوسع بكثير.
يحذر البعض من أن الصراع، إلى جانب الطقس القاسي بسبب تغير المناخ والصدمة الاقتصادية الناجمة عن الوباء، يؤجج أزمة غذاء عالمية، ففي مايو/أيار الماضي، حذَّر مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة من أن مستويات الجوع في جميع أنحاء العالم قد وصلت إلى “ارتفاع جديد”، مضيفًا أن عشرات الملايين قد يواجهون مجاعة طويلة الأمد بسبب الحرب.
يمكن أن يؤدي ارتفاع أسعار المواد الغذائية ونقصها الذي تفاقم بسبب قطع شحنات الأسمدة والحبوب من أوكرانيا وروسيا التي تستأنف ببطء، إلى انتشار الجوع والاضطراب على نطاق واسع في العالم النامي، فتشير تقديرات منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو) إلى أن ما يصل إلى 181 مليون شخص في 41 دولة قد يواجهون أزمة غذائية أو مستويات أسوأ من الجوع هذا العام.
من يفوز بمعركة الطاقة؟
تنبع العديد من مشاكل أوروبا من نفس عدو أوكرانيا: بوتين، الذي تعد بلاده أكبر مصدِّر للغاز الطبيعي في جميع أنحاء العالم، وثاني أكبر مورد للنفط الخام، وثالث أكبر مصدِّر للفحم، فحتى الحرب، كان ثلاثة أرباع غازها ونحو نصف نفطها الخام يتجه إلى أوروبا، وفي عام 2020، شكَّل النفط والغاز والفحم الروسي ربع استهلاك الطاقة في الاتحاد الأوروبي.
بينما يرسل بوتين القنابل إلى أوكرانيا، نجح أيضًا في استخدام إمدادات الطاقة كسلاح اقتصادي، فقد تلقت أوروبا، التي اعتمدت لسنوات على النفط والغاز الطبيعي الروسي في اقتصادها الصناعي، ضربة قاصمة، وتواجه التهديد المتزايد بالركود، حيث يخنق الكرملين تدفقات الغاز الطبيعي المستخدمة لتدفئة المنازل وتوليد الكهرباء وإشعال المصانع.
وصلت الأسعار إلى 15 ضعف ما كانت عليه قبل أن تحشد روسيا قواتها على الحدود الأوكرانية، لكن الغاز ليس أكثر تكلفة فحسب، فقد لا يكون متاحًا على الإطلاق إذا قطعت روسيا تمامًا الإمدادات عن أوروبا للانتقام من العقوبات الغربية، أو إذا كانت المرافق لا تستطيع تخزين ما يكفي لفصل الشتاء.
ارتفع سعر الكهرباء القياسي للعام المقبل في ألمانيا خلال الأشهر الست الماضية إلى أعلى مستوى له على الإطلاق، ولا يظهر إلا القليل من الدلائل على التباطؤ، وقد تضطر ألمانيا إلى فرض تقنين الغاز الذي يمكن أن يشل الصناعات من صناعة الصلب إلى المستحضرات الصيدلانية.
لقد قامت ألمانيا بعمل جيد لملء مخزونها من الغاز، ويبدو قرار ملء جميع مرافق تخزين الغاز الألمانية بنسبة 95% بحلول نوفمبر/تشرين الثاني المقبل ممكن التحقيق على أرض الواقع، لكن خبير النفط الإستراتيجي جوليان لي يقول في مقال نشرته وكالة “بلومبرج” إن خطر حدوث شتاء بارد ومظلم يعاني من انقطاع التيار الكهربائي يظل حقيقيًا للغاية بالنسبة للكثيرين في القارة، ذلك لأن التوافر المادي هو جزء واحد فقط من المعادلة، والجزء الآخر هو السعر.
تبدو النظرة المستقبلية لأسواق الطاقة قاتمة للغاية، لكن يبدو أن بوتين يفوز بمعركة الطاقة
تفرض كوسوفو بالفعل قيودًا على استخدام الكهرباء بسبب نقص الإنتاج وعدم القدرة على تغطية أسعار الاستيراد، وخلال الأشهر الست المقبلة، من المحتمل أن نرى المزيد من الدول تحذو حذوها، إذ تخطط المملكة المتحدة بالفعل لانقطاع التيار الكهربائي في يناير/كانون الثاني القادم كجزء من خطة الطوارئ الشتوية، وسط توقعات بأن الغزو الروسي لأوكرانيا قد يغرق 6 ملايين أسرة بريطانية في انقطاع التيار الكهربائي هذا الشتاء.
وفي حين يعرّض الغزو الروسي لأوكرانيا أمن الطاقة الأوروبي للخطر، تختبر الأزمة عزم الحكومات الغربية على كبح إدمانها على النفط والغاز الروسيين، حين يسعى الاتحاد الأوروبي إلى إنهاء اعتماده على الطاقة الروسية، وقالت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين في مارس/آذار: “لا يمكننا ببساطة الاعتماد على مورد يهددنا صراحة”.
بالفعل في مارس/آذار، حددت المفوضية نواياها لتخلي الاتحاد الأوروبي تمامًا عن الوقود الأحفوري الروسي بحلول عام 2030، بالإضافة إلى خطط لخفض كبير في استخدام الغاز الروسي بنسبة الثلثين بحلول نهاية هذا العام، ويعتبر استيراد الغاز الطبيعي السائل، على سبيل المثال من الولايات المتحدة، خيارًا مؤقتًا آخر، وفي غضون ذلك، يتوقع بعض الخبراء نقصًا في الغاز واحتمال تقنينه.
يرى الكثيرون في الصراع فرصة للاتحاد الأوروبي ليس فقط لتحرير نفسه من الاعتماد على الطاقة الروسية، لكن أيضًا للوفاء بالتزام الدول الأعضاء لحماية المناخ من خلال بناء الطاقات المتجددة وزيادة كفاءة الطاقة، ومع ذلك، هناك حدود لمدى سرعة القيام بذلك.
تبدو النظرة المستقبلية لأسواق الطاقة قاتمة للغاية، لكن يبدو أن بوتين يفوز بمعركة الطاقة، كما يقول كبير مراسلي الطاقة في وكالة “بلومبرج” خافيير بلاس، فروسيا لا تزال تجني مئات الملايين من الدولارات كل يوم من بيع النفط لتمويل الغزو، وهذا يعني أن بإمكانها التخلي عن الدخل من مبيعات الغاز الطبيعي وممارسة المزيد من الضغط على برلين وباريس ولندن، التي تستعد للزيادات الهائلة في أسعار الطاقة وانخفاض الوارد منها.
مزيد من ارتفاع الأسعار والتضخم
أدى نقص الغذاء والطاقة إلى تغيير كبير في حياة الكثيرين منذ بدء حرب أوكرانيا، كما أدى الطلب المتزايد على مصادر الطاقة غير الروسية إلى ارتفاع الأسعار في جميع المجالات، فعندما يكون هناك القليل من شيء ما، تزداد قيمته، وعندما يصبح الطعام والوقود أكثر تكلفة، تزداد أيضًا قيمة كل شيء آخر.
أسعار المواد الغذائية على وجه الخصوص آخذة في الارتفاع، فقد ارتفعت أسعار القمح بنسبة 45% في الأشهر الثلاث الأولى من العام مقارنة بالعام السابق، وقفزت أسعار الزيوت النباتية بنسبة 41%، بينما ارتفعت أسعار السكر واللحوم والحليب والأسماك بنسبة مضاعفة.
وصل مؤشر أسعار الغذاء لمنظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة (الفاو)، الذي يقيس التغير الشهري في أسعار سلة من السلع الغذائية، إلى أعلى مستوى له على الإطلاق في مارس/آذار من هذا العام، ما يجعل السلع الحيوية أكثر تكلفة ويزيد التكاليف على أصحاب المطاعم الذين اضطروا إلى زيادة الأسعار.
وتؤدي الزيادات إلى ارتفاع معدل التضخم – أي انخفاض القوة الشرائية مع ارتفاع الأسعار – في جميع أنحاء العالم، وفي منطقة اليورو، وصل التضخم إلى 8.1% الشهر الماضي، مسجلًا رقمًا قياسيًا، في حين أن التوقعات الأخيرة من صندوق النقد الدولي توقعت تضخمًا بنسبة 5.7% للبلدان الصناعية، فإن هذا الرقم للبلدان النامية هو 8.7%، ويعني هذا أن التضخم يصيب البلدان ذات الدخل المنخفض بدرجة أكبر.
تحاول بعض الدول حماية الإمدادات المحلية، فقد قيدت الهند صادرات السكر والقمح، بينما أوقفت ماليزيا صادرات الدجاج الحي، الأمر الذي أثار قلق سنغافورة، التي تحصل على ثلث الدواجن من جارتها، واعتبارًا من مايو/أيار الماضي، فرضت نحو 23 دولة قيودًا على تصدير الغذاء، وهو مؤشر على تراجع الأمن الغذائي.
يقول المعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية إنه إذا ازداد نقص الغذاء حدة مع استمرار الحرب، فقد يؤدي ذلك إلى مزيد من قيود التصدير التي تؤدي إلى زيادة الأسعار.
يتوقع بعض الخبراء تجدد الانقسام إلى تكتلات جيوسياسية واقتصادية شرقية وغربية، مع روسيا والصين من جهة، والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة يقودان الجانب الآخر
يبدو الأمر كما لو أن التكاليف المتزايدة لم تكن سيئة بما يكفي، إذ يتوقع الخبراء أن الأسعار قد تظل مرتفعة لسنوات قادمة، ما قد يهدد بعدم الاستقرار السياسي في مثل هذه البلدان، فقد كانت أحد أسباب الربيع العربي، وهناك مخاوف من تكرارها.
الباحث في المعهد الدولي لبحوث السياسات الغذائية في واشنطن جوزيف جلوبر يقول في هذا الصدد إنه يتعين على حكومات الدول النامية إما أن تدع أسعار المواد الغذائية ترتفع وإما أن تدعم التكاليف، فدولة مثل مصر، أكبر مستورد للقمح في العالم، يمكنها تحمل تكاليف الغذاء المرتفعة لكنها لم تفعل، أما بالنسبة للدول الفقيرة مثل اليمن أو دول القرن الإفريقي، فهي بحاجة إلى مساعدات إنسانية، فقد ارتفعت أسعار القمح في بعض تلك البلدان بنسبة تصل إلى 750%.
المجاعة تلاحق ذلك الجزء من إفريقيا، حيث تزيد أسعار المواد الغذائية الأساسية مثل القمح وزيت الطهي في بعض الحالات بأكثر من الضعف، في حين أن ملايين الماشية التي تستخدمها العائلات للحليب واللحوم قد ماتت، في السودان واليمن، جاء الصراع الروسي الأوكراني على رأس سنوات شهدها البلدان من الأزمات الداخلية.
حذرت منظمة “اليونيسف” من زيادة وفيات الأطفال إذا ركز العالم فقط على الحرب في أوكرانيا ولم يتحرك، وقدرت وكالات الأمم المتحدة أن أكثر من 200 ألف شخص في الصومال يواجهون “جوعًا ومجاعة كارثية”، وأن ما يقرب من 18 مليون سوداني قد يعانون من الجوع الحاد بحلول سبتمبر/أيلول، ويواجه 19 مليون يمني انعدام الأمن الغذائي هذا العام.
وفي آسيا، حذر وزير الزراعة الإندونيسي سياهرول ياسين ليمبو هذا الشهر من أن سعر المكرونة سريعة التحضير، وهي مادة أساسية في الدولة الواقعة جنوب شرق آسيا، قد يتضاعف ثلاث مرات بسبب تضخم أسعار القمح، وفي ماليزيا المجاورة، ارتفعت أسعار الأسمدة بنسبة 50%، وفي باكستان، بعيدًا عن ساحات القتال في أوكرانيا، فقدت العملة المحلية ما يصل إلى 30% من قيمتها مقابل الدولار، ورفعت الحكومة أسعار الكهرباء بنسبة 50%، وتعيش الغالبية العظمى من الناس في فقر.
تمزيق الجغرافيا السياسية
ترك الغزو الروسي لأوكرانيا بصماته على الجغرافيا السياسية أيضًا، ويتوقع بعض الخبراء تجدد الانقسام إلى تكتلات جيوسياسية واقتصادية شرقية وغربية، مع روسيا والصين من جهة، والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة يقودان الجانب الآخر من خلال منظمة “حلف الناتو” التي كانت طفلة الحرب الباردة، وأصبحت مظلة للديمقراطية والأسواق الحرة في أوروبا، مع توسع كبير نحو الشرق في عام 2004.
يقول بعض المراقبين إنه بينما انحسر ملف الناتو إلى النقطة التي وصفها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عام 2019 بأنها “ميتة”، فإن الحرب في أوكرانيا تجعل أقوى تحالف عسكري في العالم يحتل مركز الصدارة الآن.
نظرًا للمخاوف إلى حد كبير من مشروع بوتين الإمبريالي لروسيا، أعلنت فنلندا والسويد مؤخرًا نيتهما الانضمام تحت مظلة التحالف العسكري الرائد في العالم، محطمتان ما يقارب 70 عامًا من الحياد.
أثار توسع الناتو في أوروبا الشرقية غضب بوتين، الذي حذر من صعود حركة “مناهضة لروسيا” فيما يسميه “بلدنا القديم”، فهو يرى أن الناتو يمثل تهديدًا لروسيا، وحذر مرارًا وتكرارًا من العواقب إذا سمح الحلف لأوكرانيا بالانضمام، ويقول منتقدو التحالف إن توسعه في الشرق كان بمثابة استفزاز.
وفي دول البلطيق، بدأت السلطات المحلية في تفكيك المعالم الأثرية من الحقبة السوفيتية، فقد حفَّزت الحرب عملية “إنهاء الاستعمار” التي طال انتظارها لأوكرانيا وبعض جيرانها، الذين بدوا متحمسين لتفكيك الادعاءات المفروضة على بلادهم من خلال إرث القهر لموسكو.
رغم ذلك، يصعب القول ما إذا كانت عزلة روسيا ستزداد أم تتقلص في الأسابيع والأشهر المقبلة، ففي قمة مجموعة العشرين للاقتصادات الكبرى هذا العام في إندونيسيا، من المتوقع أن يظهر هناك كل من بوتين والرئيس الصيني شي جين بينغ، الذي يخوض نزاعًا مع الولايات المتحدة بشأن تايوان.
كان الناتو يمد أوكرانيا بالأسلحة والمعدات، رغم رفضه طلب الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي لفرض منطقة حظر طيران فوق البلاد، وفي الوقت الحاليّ، يواصل رقصته الدقيقة المتمثلة في البقاء صامدًا، لكنه يسير برفق حتى لا يشعل الحرب العالمية الثالثة.
لكن هذا الدعم لم يوقف إراقة الدماء حتى الآن، وقد يتلاشى في أي وقت، ففي أوروبا، يثير اقتراب فصل الشتاء واليقين الكئيب بارتفاع تكاليف الطاقة بشدة تساؤلات عما إذا كان الغرب قادرًا على الحفاظ على نفس العزم في دعم المجهود الحربي الأوكراني على مدى الأشهر الست المقبلة كما فعل في النصف الماضي.
من الآمن أن نقول إن الأشهر الست الماضية غيَّرت حياة الملايين، بل النظام العالمي بأكمله بشكل لا يقاس، والشيء الوحيد الذي يجب قوله على وجه اليقين أن الأشهر الست المقبلة تهدد بفعل الشيء نفسه، أو كما يقول المعلق الجيوسياسي برونو ماسايس “ستة أشهر من الحرب الطويلة، وما زلنا نشعر بأنها مجرد مقدمة”.