يومًا بعد يوم يزداد الحضور الإيراني في سوريا، ولا تخلو محافظة سورية من أقصى الشمال إلى الجنوب من الميليشيات والأذرع الإيرانية، التي تسعى إلى إيجاد موطئ قدم لها في مختلف الجغرافيا السورية، بما يخدم مشروعها الاستراتيجي الذي يتمدد في البلاد وصولًا إلى مياه المتوسط.
ولم تكن محافظة الحسكة شمال وشرق سوريا بمنأى عن محاولات التغلغل الإيراني، الذي بدأ يتوسّع بشكل تدريجي منذ مطلع العام الحالي 2022، بعدما كان محدودًا خلال الأعوام السابقة، ومقتصرًا على عمل المستشارين الإيرانيين لميليشيات موالية للنظام السوري، التي تسيطر على بعض الأحياء والقرى والبلدات في المحافظة.
مناشير ورقية مناهضة لإيران
دفعت التحركات الإيرانية الواسعة في محافظة الحسكة شمال شرق سوريا، ناشطين سوريين إلى وضع مناشير ورقية مناهضة للوجود الإيراني على جدران الأبنية السكنية، في أحياء المطار والمحطة وشارع الماركات وشارع الجامع الكبير وشارع فرع حزب البعث، التي تسيطر عليها قوات النظام السوري في محافظة الحسكة شمال شرق سوريا.
جاء في المناشير التي أُلصقت فجر الاثنين 22 أغسطس/ آب الجاري، تحت عنوان “الحسكة لنا”: “إن نشاطات وانتهاكات الميليشيات الإيرانية هو تهديد للنسيج الاجتماعي والعشائري في الحسكة، ويأتي ضمن مساعي إيران لإحداث تغييرات اجتماعية من أجل إضعاف عشائر الحسكة وسهولة السيطرة عليها”.
وأشارت إلى “أن شباب الحسكة الحر أقوى وأذكى من الميليشيات الإيرانية وحزب الله اللبناني اللذين يقومان باستغلال الواقع الاقتصادي السيّئ من أجل تجنيد أبناء الحسكة كمرتزقة ودفعهم إلى الموت في سبيل المشروع الإيراني”، كما أكّدت “أهمية تذكير أبناء الحسكة بتاريخ هذه المدينة العظيم ونبل وشهامة عشائرها التي لا تقبل الظلم والإرهاب، ولا تقبل بفرض أي أمر واقع خارج إرادة أبنائها لتحقيق الحرية والديمقراطية والعدالة”.
وتستغل طهران الظروف المعيشية السيئة التي يرزح تحتها معظم الأهالي في محافظة الحسكة عبر إغرائهم بالمال، حيث تحاول تجنيد الشباب والعمل على تهيئة أرضية صلبة لوجودها تسهّل انتشارها بشكل واسع، لذلك من الضروري توعية الناس من مخاطر الوجود الإيراني في المحافظة، بحسب ما يرى الصحفي زين العابدين العكيدي.
وقال العكيدي خلال حديثه لـ”نون بوست”: “تسعى الميليشيات الموالية لإيران إلى تهيئة ظروف مناسبة لنشاطها، لكن المناشير الورقية تهدد استمرارية عملها لذلك تعمل على إزالتها بشكل مباشر، ويجب على الأهالي مناهضة مشروع إيران الذي بدأ يتمدد في المحافظة، قبل أن يصل إلى مرحلة يصعب مواجهته، كما هو الحال في محافظة دير الزور التي تقع أجزاء واسعة منها تحت رعاية إيران”.
وأضاف: “تعوّل الميليشيا على عامل الوقت للانتشار الكثيف، فوجودها خلال الأعوام السابقة لم يكن يحظى بكل هذا الاهتمام وكان مقتصرًا على دعم وتعاون محدودَين، لكنها اليوم باتت على مشارف منبج في ريف حلب وتل تمر تحت راية الحرس الثوري الإيراني، ما يعني أنها تعمل على التمدد مستغلة الظروف والخلافات السياسية التي تعيشها المنطقة”.
حضور إيراني واسع في الحسكة
تشهد محافظة الحسكة شمال شرق سوريا حضورًا إيرانيًّا متصاعدًا منذ مطلع العام 2022، حيث تحاول إيران الحصول على موطئ قدم في المنطقة التي تتزاحم فيها القواعد العسكرية والقوات الأجنبية، فضلًا عن الوجود العسكري المتمثل بـ”قسد” التي تسيطر على معظم المحافظة، وقوات النظام السوري التي تحتفظ بمربّعَين أمنيَّين في القامشلي والحسكة.
بالإضافة إلى قطعتَين عسكريتَين في كوكب بريف الحسكة وطرطب قرب القامشلي، حيث تسيطران على نحو 30 قرية بمحيطهما والمطار، والأخير تحول إلى قاعدة عسكرية روسية عززته موسكو مؤخرًا بطائرات وأنظمة دفاع جوي متطورة، واتخذته قاعدة عسكرية لقواتها.
وتنتشر مقارّ الميليشيات الموالية لإيران في المربّعَين الأمنيَّين اللذين تتواجد بهما ميليشيا الدفاع الوطني، التي أعلنت ولاءها لإيران بعد تخلي النظام وروسيا عنها خلال الخلافات السابقة التي جرت في الحسكة بين نظام الأسد من جهة في حي طي و”قسد” من جهة أخرى، ما دفع إيران إلى استغلال قبيلة طي بهدف التغلغل في المحافظة.
أكدت مصادر محلية من محافظة الحسكة لـ”نون بوست”، شريطة عدم الكشف عن اسمها، “أن الميليشيات الإيرانية افتتحت مركزَين للاستقطاب في المربع الأمني في مدينة الحسكة، بقيادة الحاج مهدي اللبناني، بهدف تجنيد أبناء العشائر العربية في الحسكة، إضافة إلى مراكز أخرى تعمل لصالح إيران بقيادة إياد الخلف، المقرَّب من حزب الله اللبناني، وأخرى تتبع لميليشيا الدفاع الوطني بقيادة عبد القادر حمو”.
وأضافت المصادر “أن العناصر المقاتلة في صفوف الميليشيا الموالية لإيران تحصل على 400 ألف ليرة سورية شهريًّا إلى جانب تسهيلات وإعفاءات، برعاية الحاج مهدي اللبناني الذي يتبع لـ”حزب الله”، بعدما كان يقدم لها النظام أثناء تبعيتها لقواته تحت لجان الدفاع الوطني نحو 30 ألف ليرة سورية”.
كما تنتشر العديد من مكاتب الاستقطاب في القامشلي وعلى الطريق M4، في مكتب النقل المعروف بمركز القيادة للحاج مهدي، بالإضافة إلى مكتب آخر في المشفى الوطني بقيادة أحد وجهاء عشيرة البوعاصي، والتي تعمل على تجنيد شبّان المنطقة في صفوفها لقاء مبالغ مالية.
ويبدو أن المحاولات الإيرانية في إيجاد موطئ قدم لها في الحسكة لا تقتصر على العام الحالي، وإنما تعود إلى العام 2013، عندما بدأت إيران التغلغل في المنطقة بشكل فعلي، لمواجهة الجيش السوري الحر بعد سيطرته على أجزاء واسعة من المحافظة، ومع سيطرة تنظيم “داعش” على أغلب أجزاء المحافظة وشرق الفرات انسحبت الميليشيات الإيرانية إلى دير الزور.
ومع تشكيل قوات سوريا الديمقراطية “قسد” ودعمها من التحالف الدولي ضمن الحرب على “داعش”، وطرد التنظيم من المنطقة في أواخر العام 2018، بدأت الميليشيات الإيرانية تتودد إلى عشائر الحسكة عبر أذرعها، مستغلة الخلافات بين العشائر الرافضة لوجود “قسد” لدعمها ومحاربة وجودها.
العشائر وسيلة إيرانية للتغلغل في الحسكة
تتخذ إيران العشائر في محافظة الحسكة شمال شرق سوريا وسيلة للتغلغل في المحافظة، مستغلة الظروف والخلافات التي تعيشها المنطقة بين العشائر وسلطات الأمر الواقع، التي لم تكن بمنأى عن محاولات الاستقطاب العشائرية التي تحقّق فاعلية كبيرة وتختصر الطريق عليها.
إلا أن الأحداث والخلافات التي قامت في حي طي بمحافظة الحسكة خلال العام 2019 بين ميليشيا الدفاع الوطني، وهي ميليشيا من قبيلة طي الموالية للنظام السوري ورافضة لوجود “قسد”، دفعت العشائر إلى البحث عن جهات أخرى لتبنّيها ودعمها في المنطقة عوض روسيا والنظام.
ويرى الصحفي سامر الأحمد، أن إيران مثلها مثل أي قوى دولية في المنطقة، لديها رجال يمكّنونها من شراء ولاءات محلية، لا سيما العشائر التي تحاول البحث عن داعم لموقفها كونها لا تخضع لأي سلطة سياسية، خصوصًا بعد زيارة عدد من وجهاء العشائر في الحسكة إلى إيران، من بينهم أمير عشيرة طي، خلال الأسابيع القليلة الماضية، والتي تهدف إلى تكثيف الوجود الإيراني.
وقال الأحمد خلال حديثه لـ”نون بوست”: “عمليًّا، العشائر هي المدخل الوحيد أمام إيران للتغلغل في محافظة الحسكة، ولا يمكنها إثبات وجودها دون التعاون مع العشائر، لما لها من تأثير محلي على أهالي المحافظة”.
وأضاف: “عملت إيران على تفكيك مجلس العشائر بقيادة حسن المسلط الذي كان يحظى بعلاقات جيدة مع روسيا والنظام، وأعادت هيكلته من جديد، وصار رئيس المجلس شيخ قبيلة طي، ضاري محمد الفارس الطائي، ونائبه محمود الحسناوي، بالإضافة إلى عدد آخر من العشائر الذين تمكنت إيران من شراء ولائهم، كما تسعى إلى توثيق علاقاتها مع العشائر بالتعاون مع العشائر العراقية التي زارت الحسكة خلال هذا العام”.
ماذا تريد إيران من الحسكة؟
تتعدد أهداف الوجود الإيراني في محافظة الحسكة شمال وشرق سوريا، كونها تشهد خلافات سياسية دولية على رأسها أمريكا وروسيا وتركيا، التي تسيّر دوريات مشتركة على الحدود السورية التركية، إلى جانب انتشار عشرات القواعد لكل القوى الفاعلة بالشأن السوري.
وقال الصحفي سامر الأحمد: “من أبرز الأهداف التي تحققها إيران من وجودها في مناطق شرق الفرات والحسكة على وجه التحديد، توسُّع نفوذها في الأراضي السورية، وبناء جسر علاقات بين مناطق سيطرتها في العراق والجزيرة السورية، لخدمة مشروعها الاستراتيجي”.
وأضاف: “تسعى إيران إلى افتتاح معبر آخر بديل عن معبر القائم، يهدف إلى دعم ميليشياتها في تجارة المخدرات، إلى جانب الأهمية الاقتصادية التي تتمتع بها المحافظة من حيث الثروات الباطنية، والسلّة الغذائية التي تساعدها على التحكم بالنظام السوري، كما تحاول نشر أيديولوجيتها شرق الفرات وجعل المنطقة تحت رعايتها، في محاولة منها لمحاربة الوجود الأمريكي و”قسد” عبر تشجيع الأهالي على اعتراض الدوريات الأمريكية”.
في الختام، يشكّل الوجود الإيراني المتصاعد في مناطق الجزيرة السورية خطرًا على المنطقة ويهدد هويتها ونسيجها الاجتماعي، والذي سيصل إلى آثار كارثية في نهاية المطاف، لن تقف عند التجنيد القائم حاليًّا من أبناء المنطقة، وإنما ستعمل على تشييع السكان وتغيير البنية الديموغرافية للمنطقة كما هو الحال في محافظة دير الزور، التي تغيرت هويتها مع دخول إيران على الخط وأصبحت بلدات وقرى بأكملها تحت مظلة إيرانية، فيها من المزارات ما يكفي بلدًا بحاله.