تتسم السياسية الخارجية لتركيا بالتغير المستمر، فمنذ مجيئه إلى السلطة عام 2002 إلى اليوم، مرّت سياسة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بتقلبات كثيرة، من صفر مشاكل إلى سياسة فتح الجبهات واتخاذ المواقف إلى صفر مشاكل مجددًا، وهذه الأخيرة كانت قد بدأت منذ سنتين بإنهاء الصراعات في المنطقة مع السعودية والإمارات والاحتلال الإسرائيلي والتقارب مع مصر، وأخيرًا مع النظام السوري.
وفي حين يشغل هذا التقارب بين النظام وتركيا موضع جدل بين المحللين السياسيين بين من يرى تحققه ويرى فيه فائدة للمصالح التركية، وبين من يراه مجرد رسائل لروسيا لتنفيذ أهداف تركية في الشمال السوري، يبقى السؤال عن المنطقة الآمنة ومآلها في خصم هذه العملية السياسية قائمًا، لا سيما أنه أحد الأهداف المعلنة لتركيا منذ حين.
في هذا التقرير سنحاول الإجابة عن تأثير المصالحة بين النظام وتركيا، في حال حدوثها، على المنطقة الآمنة المرتقبة.
من القطيعة إلى الحوار
يعود التوتر في العلاقات بين تركيا وسوريا إلى منتصف القرن العشرين، وحكمت قضايا لواء الإسكندرون والمياه والأكراد توتر العلاقات على طول القرن. ومنذ اتفاقية أضنة 1998 بدأت حدة العلاقات تخف تدريجيًا.
وفي عام 2002 بدأت العلاقات بالتحسن، فالرئيس التركي الجديد حينها رجب طيب أردوغان يريد إنهاء حالة النزاع مع المنطقة بسبب السياسات السابقة لتركيا التي كانت تتمثل بالتقارب مع المعسكر الغربي ضد المنطقة العربية المعادية لهذا المعسكر بسبب دعمه لإسرائيل، والرئيس السوري الجديد كذلك بشار الأسد بحاجة إلى الدعم الخارجي والإقليمي لتمكين شرعيته في حكم البلاد بسبب حداثة عهده بها ونشاط المعارضة.
تبع تحسن العلاقات تطور في الجوانب التجارية والسياحية، وزار كلا الرئيسين دولة الآخر، واستُقبل استقبالًا حسنًا. ولكن هذا لم يستمر سوى إلى العام 2011، فعشية انطلاق الثورة تغير هذا التقارب القلِق عندما دعمت تركيا الثورة السورية والمعارضة السورية على الصعيد السياسي والعسكري بوجه النظام، وذلك لمصلحتها في وجود حليف صادق في دولة مجاورة بدل النظام البعثي الذي أثار القلاقل الدائمة لها. لم تكن القطيعة الدبلوماسية تعني القطيعة الكاملة، فالاتصالات الأمنية والاستخباراتية كانت ما تزال مستمرة، وهي كذلك إلى اليوم، كما صرّح الرئيس التركي.
قبل عدة أيام ضجت مواقع الأخبار ووسائل التواصل السورية وغير السورية على تصريح وزير الخارجية التركي جاويش أوغلو الذي قال فيه: ” تركيا تواصل حربها ضد الإرهاب على الأرض في سوريا، لكن صيغة أستانا جاهزة للحل من خلال الدبلوماسية والسياسة في سوريا، علينا أن نصالح المعارضة والنظام في سوريا بطريقة ما وإلا فلن يكون هناك سلام دائم” وذلك بعد إعلانه عن اجتماع جمعه بوزير خارجية النظام السوري فيصل المقداد في العاصمة الصربية بلغراد سابقًا.
ورغم تأكيد الوزير أن الاتصال بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وبشار الأسد غير وارد حاليًا، بالرغم من طلب بوتين الملح لذلك، إلا أن الأمر لم يُحسم بعد، لا سيما بعد تصريح الرئيس التركي الذي تلا تصريح وزير خارجيته عندما قال: ” يتوجب علينا الإقدام على خطوات متقدمة مع سوريا يمكننا من خلالها إفساد العديد من المخططات في هذه المنطقة من العالم الإسلامي.. لا يمكن قطع الحوار السياسي أو الدبلوماسية بين الدول، حيث من الممكن أن تحدث مثل هذه الحوارات بشكل دائم وفي كل لحظة.. ليس لدينا مشكلة في هزيمة الأسد أم لا، نواصل مع روسيا المعركة ضد الإرهاب من شرق وغرب نهر الفرات إلى البحر المتوسط”. وفي ظل هذه تصريحات تتضارب آراء المحللين السياسيين بين إمكان قيام مصالحة كهذه أو عدم إمكانيتها. وبالأخص أن استهداف المواقع العسكرية والتصعيد بين الطرفين في الشمال السوري ازداد في المرحلة الأخيرة بدلًا من انعكاس بوادر المصالحة المرتقبة بين الطرفين.
ولكن يبقى ثمة سؤال يشغل بال كثير من السوريين على الأرض، الذين جابت مظاهراتهم شوارع الشمال السوري رفضًا للمصالحة، في حال حدوث هذه المصالحة ماذا سيكون مصير المنقطة الآمنة؟
تعسّر مشروع المنطقة الآمنة
يعود مشروع إنشاء المنطقة الآمنة في الشمال السوري على الشريط الحدودي مع تركيا بعمق 30 كلم وطول 432 كلم إلى عام 2019، ففي تشرين الأول من ذلك العام شنت تركيا عملية عسكرية تحمل اسم “نبع السلام” ضد قوات سوريا الديمقراطية، وأعلنت عن هدفها بإنشاء المنطقة الآمنة بالاتفاق مع كل من الولايات المتحدة وروسيا. ولكن العملية لم تتم كما رسمت تركيا، إذ لم تفِ روسيا والولايات المتحدة بما اتفقتا عليه مع الحكومة التركية، مما جعل الأخيرة دائمة التلويح بعملية عسكرية جديدة لتحقيق أهدافها.
تتحدث وكالة الأناضول عن الفوائد التي ستحققها تركيا من خلال هذه المنطقة الآمنة كالتالي: إبعاد التنظيمات العسكرية الكردية (واي بي جي- بي واي دي/ بي كي كي) عن الحدود التركية مما يعني تأمين الأمن القومي التركي، والمكاسب الاقتصادية وتتمثل بتوفير فرص استثمار الثروات النفطية والزراعية والحيوانية، وتوفير الأمن لحماية السوريين في حال رغبتهم بـ “العودة الطوعية” إليها من تركيا، وأخيرًا توحيد المناطق مما يفيد سوريي الشمال في تخفيف الأزمة السكانية عن مناطق ريف حلب وإدلب.
اللافت للنظر أن النظام أعلن في مطالبه رغبته بإعادة إدلب ومعبرَي كسب وباب الهوى الحدوديين إلى إدارته، وبالمقابل خلت مطالب تركيا من الحديث عن المنطقة الآمنة
عادت قضية المنطقة الآمنة على أولوية نقاشات السياسة التركية مع اقتراب الانتخابات وضغط المعارضة وتجييشها لمشاعر الأتراك ضد حكومة أردوغان من خلال ملف اللاجئين السوريين، فما كان من الرئيس التركي إلا أن أعاد دفع ملف المنطقة الآمنة إلى أولويات الدبلوماسية التركية. على الأرض، وعلى الحدود السورية التركية، كانت القوات المسلحة التركية تعمل على استكمال الاستعدادات للعملية.
وعلى الصعيد الدبلوماسي، حاولت الحكومة التركية من جهة استغلال الحرب الروسية الأوكرانية التي لم تأخذ طرفًا فيها لإرغام روسيا على الموافقة على العملية العسكرية الجديدة، ومن جهة أخرى استغلت ملف تقديم فنلندا والسويد طلب الانضمام إلى حلف الناتو لأخذ “ضوء أخضر” أمريكي للعملية، وغربي لخطة “العودة الطوعية”.
مؤخرًا، وفي ظل غياب الحديث التركي عن العملية العسكرية، يبدو أن الأمور تعرقلت بسبب مواقف الدول الفاعلة في سوريا: روسيا وإيران، ما أدى لظهور خطاب المصالحة -والذي يرتبط بأهداف أخرى كما سيتضح في السطور التالية- الذي بدأه وزير الخارجية التركي، وعززه الرئيس التركي نفسه، وذلك بعد قمّتَي طهران وسوتشي اللتين جمعتا الرئيس التركي بالرئيسَين الإيراني والروسي.
حيث يدفع هذا بالباحثين إلى الحديث عن تقارب روسي تركي بشكل مختلف عن السابق، وضغط روسي على تركيا لفتح الحوار مع النظام، وهو ما صرّح به وزير الخارجية التركي علنًا، ويؤكّده الباحث سعيد الحاج المختص بالشأن التركي، حيث يقول: “يبدو أن هذه المحادثات كانت بوساطة روسية، حيث إن ما قد يدعم هذه الفرضية هو أن التصريحات التركية المتلاحقة أتت بعد قمة سوتشي الأخيرة التي جمعت بين بوتين وأردوغان”.
مشروع المصالحة البديل
بعد التصريحات التركية عن التقارب، رد النظام السوري بخمسة مطالب لفتح قنوات التواصل بين البلدين، وردت تركيا بخمسة مطالب أيضًا. اللافت للنظر أن النظام أعلن في مطالبه رغبته بإعادة إدلب ومعبرَي كسب وباب الهوى الحدوديين إلى إدارته، وبالمقابل خلت مطالب تركيا من الحديث عن المنطقة الآمنة، بينما تحدثت عن “تطهير مناطق حزب العمال الكردستاني، وحدات الحماية الشعبية بالكامل” و”القضاء التام على التهديد الإرهابي على الحدود”، وأخيرًا عودة اللاجئين، بأن تكون” حمص ودمشق وحلب مناطق تجريبية لعودة آمنة وكريمة في المرحلة الأولى”.
بغضّ النظر عن الحديث عن مدى إمكانية تحقيق نقاط كهذه، وسط ربط المحللين الموضوع بفاعلين محليين ودوليين، يوضّح الباحث التركي إسماعيل جوكتان أسباب هذه التصريحات بقوله: “هناك هدفان من دعوة تركيا للنظام، أولهما الإظهار لروسيا عدم رغبة النظام في الجلوس إلى طاولة الحوار، والثاني إظهار عدم إمكانية الحل مع النظام، وذلك للمعارضة التركية التي تدعو إلى التطبيع مع النظام السوري، وتستخدم ملف اللاجئين ورقةً سياسيةً قبل الانتخابات”.
ورأي جوكتان يتطابق مع رأي كثير من المحللين، لكن في حال حدوث مصالحة، فما هو مصير المنطقة الآمنة؟ يجيب الباحث سعيد الحاج بكون المصالحة هي بديل العملية التي تهدف إلى المنطقة الآمنة، وذلك أثناء شرحه للنقاط الخمس ومشروع المصالحة ككُلّ، ضمن نطاق “فكرة المصالح المشتركة، مثل مكافحة المنظمات الانفصالية والإرهابية لحفظ أمن الحدود والأراضي التركية، وكذلك مشروع عودة/ إعادة السوريين المقيمين في تركيا، ومنها كذلك السعي الروسي للتوسُّط بين الجانبَين مؤخرًا، وتقديم النظام كبديل عن قوات سوريا الديمقراطية “قسد” في الشمال وعن العملية التي تلوّح بها تركيا منذ شهور”.
مكملًا: “ويدعم هذه الفرضية رفض روسيا وإيران العملية التي لوّحت بها أنقرة في الشمال السوري، وحاجة الحكومة التركية إلى تقديم إنجاز في هذا الإطار، ودفع موسكو لتحقيق أهداف العملية (إبعاد مقاتلي “قسد” 30 كيلومترًا عن الحدود) من خلال النظام وليس عبر عملية عسكرية”، وإن استطاعت تركيا تحقيق أهدافها في المنطقة الآمنة وأمّنت حدودها وأعادت مليون ونصف مليون لاجئ سوري من أراضيها، فلن تكون هناك حاجة ملحّة للحديث مع النظام.
أما بالنسبة إلى النظام، فيرى الكاتب التركي فائق بولوت “أن دمشق لن تمانع تطبيع العلاقات، شريطة أن تنسحب تركيا من الأراضي التي سيطرت عليها خلال السنوات الأخيرة الماضية، والتخلي عن الفصائل المسلحة المعارضة، وإن قامت بتنفيذ هذين الشرطَين، يمكن أن تبدأ اللقاءات بين الطرفَين”.
ويظهر هذا من تصريحات النظام عن التدخل التركي في سوريا، ففي آخر تصريحَين له فيما يتعلق بالتقدم بالعلاقة مع تركيا، قال فيصل المقداد، وزير خارجية النظام، إن “نية أنقرة إنشاء مناطق آمنة في سوريا سيضعها في صراع مع دمشق”، وقال قبل أيام: “على النظام التركي سحب قواته من الأراضي التي يحتلها في سوريا، ووقف دعمه للتنظيمات الإرهابية وتدخله في الشؤون الداخلية لسوريا”.
وما يؤشر على احتمالية التزام أنقرة بمطالب الانسحاب من الأراضي السورية، تصريح الرئيس التركي الأخير الذي قال فيه: “ليس لدينا أطماع في أراضي سوريا، والشعب السوري هم أشقاؤنا ونولي أهمية لوحدة أراضيهم، ويتعيّن على النظام إدراك ذلك”.
وهذا السيناريو المتوقع في حال قيام المصالحة بناءً على النقاط الخمس لكلا الطرفيَن، لكن ثمة سيناريوهات أخرى للتقارب أو المصالحة بين الطرفَين، التي هي بحسب الحاج: “تطوير العلاقات بشكل بطيء ومتدرّج، بحيث يشمل ذلك خطوات من قبيل إقرار تركيا بحلول النظام مكان “قسد” في بعض المناطق، وتعديل اتفاق أضنة بين الجانبَين، وبناء علاقات سياسية متدنّية المستوى في البدايات وتطويرها مع الوقت”، وكما هو ظاهر فإن هذا يتنافى أيضًا مع مشروع المنطقة الآمنة.
وأخيرًا، يشير الكاتب السوري رضوان زيادة إلى أن الخطوة التركية نحو المصالحة تتنافى مع متطلبات السوريين في الشمال، وقال إن تركيا “تحتاج إلى إعادة رسم للعلاقة ثمنها ملايين المدنيين في شمال سوريا، يبدو أن تركيا لم تضعهم في حسبانها أو كيفية التعامل معهم”، مشيرًا إلى أن السوريين الموجودين في المناطق الخاضعة للسيطرة التركية في سوريا، قد يضطرون للجوء إلى تركيا أو مقاومة رغبتها.