ربما كانت عبقرية ثورة يناير/ كانون الثاني 2011 في أنها انتزعت الجدار أخيرًا من السلطة، لتدوّن عليه التاريخ الشعبي للأحداث، فقد استطاع الثوار في شارع محمد محمود الأيقوني برسوماته وأحداثه خلال شهور الثورة، أن يسجّلوا تاريخًا حيًّا لما حدث، كما يراه الناس، وكما تراه الثورة، لا السلطة.
إلا أنه يبدو أن حكومة الرئيس عبد الفتاح السيسي انتزعت الجدار من الشعب، ليضرب بعرض الحائط التزامات مصر بحرية التعبير الفني، بعد أن صادقت على عدد من المواثيق الدولية التي تكفل حرية التعبير وحرية الإبداع، كالعهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية الذي يكفل حرية التعبير بموجب المادة 19.
الغرافيتي كأداة احتجاج
الغرافيتي هو فن الرسم والكتابة على الجدران، وهو نوع من الفنون ضارب بجذوره في العديد من الثقافات على كوكب الأرض، كما أنه فن “شوارعجي” حيث يُرسَم على جدران الأماكن العامة التي يملكها الجميع.
لا يحتاج الغرافيتي لرسمه إلى تصريح من إدارة الحي أو من أي جهة حكومية، أو هكذا كان، ولا تتم ممارسته في معارض مغلقة، حيث أصبح فنًّا متمرّدًا، يهدف بالأساس للتواصل المباشر مع كل من يمرّ في الشارع، معبّرًا عن فكرة الفنان الخاصة الذي يضع رسمته على الحائط.
والغرافيتي هو فن تغيب عنه النزعة التجارية، فهدف رساميه لا يدور حول الربح، إنما هو حالة حرة من التعبير تكون بغرض الفن أو السياسة أو الثورة لمساندة قضية ما، وهو أيضًا ليس فنًّا خالدًا، فالرسمة أو كلمة قد يمحوها عمّال الحي بقرار سياسي أو أمني لأنها تخالف توجّهًا معيّنًا، أو لأنها تشويه بصري، ويمكن أيضًا الردّ عليها برسمة أخرى بديلة.
توجد في مصر بعض الرسومات الساخرة منذ زمن الحرب مع “إسرائيل”، ولكنها كانت تتسم بأن كلها تخدم غرضًا واحدًا نبيلًا، وهو السخرية والتحريض ضد العدو الإسرائيلي، ولم تكن تحمل مضامين سياسية ضد النظام.
اعتبر فنانو الغرافيتي أنه بالنسبة إليهم رد فعل ثوري تجاه المنظومات التقليدية، سواء السياسية أو الأبوية، المحافِظة في الفن، وكان نتيجة ذلك الإيمان معرض الثورة المفتوح في شارع محمد محمود.
ولكن الغرافيتي بمعناه الحديث في مصر يعود إلى عام 2007، حيث تأسست مجموعة تُدعى “الكاتاليست” نشرت رسوماتها وأفكارها على جدران منطقة مصر الجديدة، وقامت بلدية الحي بمشاركة المواطنين بمسحها وطلاء الجدران، رغم أنها لم تكن تحمل مضامين سياسية.
وكانت روابط مشجّعي كرة القدم في مصر (ألتراس أهلاوي وألتراس الفارس الأبيض) الخاصة بناديَي الأهلي والزمالك، قد استخدمت فن الغرافيتي هي الأخرى لتعرّف بنفسها وبحبها وانتمائها إلى فرقها، ولكنها كانت تُنشر داخل الحارات والشوارع التي يسكنها أحد المشجّعين المتحمسين، ولم تكن منظَّمة أو فارقة في شيء حتى لحظة الثورة.
وانتشر الغرافيتي الذي يحمل مضامين ثورية للمرة الأولى بعد شعار “كُن مع الثورة”، الذي تحوّل إلى رمز وأيقونة لأحداث ثورة يناير 2011، لكن المفارقة أن الشعار كان أسبق على الثورة بـ 3 سنوات، فمحمد جابر الذي رسم الشعار، نشره قبل أيام قليلة من إضراب المحلة الشهير في 6 أبريل/ نيسان 2008 بمنطقة سور مجرى العيون.
انتشر الشعار حتى وصل إلى محافظة الإسكندرية، وتمَّ تحريفه ليصبح “كُن مع الفن”، ليكون باكورة إنتاج ورشة “فوق وتحت” للرسامة آية طارق، وانطلق من الاستوديو الخاص به العديد من الرسومات التي زيّنت جدران الإسكندرية.
اعتبر فنانو الغرافيتي أنه بالنسبة إليهم رد فعل ثوري تجاه المنظومات التقليدية، سواء السياسية أو الأبوية، المحافِظة في الفن، وكان نتيجة ذلك الإيمان معرض الثورة المفتوح في شارع محمد محمود.
حق الثوار في شارع محمد محمود
شارع محمد محمود بميدان التحرير بلا شكّ هو شارع الغرافيتي، فقد تمَّ شغل جدرانه من أوله إلى آخره برسومات ضخمة عقب اندلاع أحداث محمد محمود الأولى في نوفمبر/ تشرين الثاني 2011 أثناء حكم المجلس العسكري.
وقد غطت مساحة الغرافيتي المرسومة من سور الجامعة الأمريكية إلى سور وزارة الداخلية والجدران التي بنتها، وقد نطقت الكتل الخرسانية تاريخًا لما كان يحدث، تاريخًا يحتفي بالشهداء الذين سقطوا، والمظالم التي طمسها الإعلام الرسمي عمّا ارتكبه المجلس العسكري من جرائم في حق الثوار.
اهتمّت أعمال الغرافيتي في وقت الثورة بمقاومة محاولة الديكتاتورية تجهيل الناس واعتبار الضحايا مجرد أرقام إحصائية، ومن أشهر أعمال الغرافيتي التي زيّنت شارع محمد محمود لوحة الشاب إسلام رأفت الذي دهسته سيارة الأمن يوم 28 يناير/ كانون الثاني 2011، ولوحة البقرة الضاحكة للرئيس حسني مبارك.
أيضًا رسمة وجهَين لعملة واحدة التي جمعت صورة المشير طنطاوي بنصف وجهه إلى جانب صورة الرئيس مبارك بنصف وجهه الآخر، لتوعية الثوار بأن المجلس العسكري ليس إلا وجهًا آخر للنظام، وحفلت الجدران أيضًا بصور لضحايا ذوي عين واحدة، وهي دلالة على ضابط الداخلية الشهير آنذاك قنّاص العيون، الذي كان يستهدف المتظاهرين في شارع محمد محمود.
ولقد كانت حالة الغرافيتي في مصر حالة ثورية منتظمة تجلّت في تجربة “أسبوع الغرافيتي العنيف”، التي بادر الناشطين إلى تنظيمها بعد انتهاء الثورة، وقد ارتكزت على نشر صور الشهداء وأسمائهم في أنحاء المدن المصرية، وقد تكررت بعدها بسنة في ذكرى الثورة السنوية الأولى للتعبئة ضد المجلس العسكري للتوعية بالثورة التي تُسرَق.
لقد تغيّرت ثقافة الشعب الذي كان يغضب من الرسومات على الجدران قبل الثورة، وأصبح أكثر قبولاً لها، حيث إنها تعبِّر عن غضبه المتراكم تجاه السلطة، لذلك كانت الفترة الذهبية للغرافيتي في مصر هي الفترة منذ ثورة يناير إلى سقوط حكم الإخوان.
ويعدّ عام 2013 هو العام الأسخن في حرب الغرافيتي في الشارع المصري، فقد بدأ بنشر الغرافيتي الشهير “إخوان كاذبون”، وانتهى بالغرافيتي الذي انتشر كالنار في الهشيم في مصر “CC قاتل”، خاصة بعد أحداث مجزرة رابعة العدوية، وانتشر أيضًا شعار الكفّ الأصفر الذي يرمز إلى أحداث رابعة.
لقد استخدمت الفصائل السياسية في مصر آنذاك قوة كتابة الجدران بكمّيتها غير المحدودة ووجودها في كل مكان، على واجهات المباني ومحطات المترو وجدران المدارس والشرفات واللوحة الإعلانية والمباني الحكومية، حتى اعتقد البعض أنه لن يفلت سطح واحد من الإدانات.
وكانت تلك الإدانات والاتهامات الموجَّهة لقائد القوات المسلحة المصرية عبد الفتاح السيسي آنذاك، في فترة لم يترسخ فيها حكمه بعد، وكان من شأن تلك الجداريات أن تؤثر على شعبيته في مصر.
بدأت القصة من محافظة الجيزة، حين فرض محافظ الجيزة، علي عبد الرحمن، غرامة قدرها 10 آلاف جنيه لمن يضبَط متلبّسًا بطلاء الجدران، حيث برّر ذلك قائلًا إنه تدمير للممتلكات العامة وتشويه للطبيعة العمرانية، وقد شاع آنذاك مصطلح روّجته الحكومة لتبرر حربها ضد الكتابات على الجدران: “التلوث البصري”.
وفي نوفمبر/ تشرين الثاني 2013، أصدر الرئيس عدلي منصور قانونًا جديدًا للتظاهر يمنع التظاهر باختصار، ويسمح بالقبض على المتظاهرين، وبموجب هذا القانون أُلقي القبض على الكثير من فناني الغرافيتي في مصر، وبدأت مرحلة جديدة من الصراع.
غسيل الشوارع
في نوفمبر/ تشرين الثاني 2013، صرّح اللواء عادل لبيب، وزير التنمية، بانتهاء الوزارة من إعداد مشروع قانون يجرّم الكتابة على الجدران، التي تشمل رسوم الغرافيتي والكتابات التعبيرية “الخادشة للحياء”، إلا أن القانون لم يتمَّ تفعيله.
أما الغرافيتي، فقد تمَّ تجريمه في المادة 361 من قانون العقوبات رقم 58، بتأويل نصها “كل من خرّب أو أتلف عمدًا أموالًا ثابتة أو منقولة لا يمتلكها وجعلها غير صالحة للاستعمال، يعاقَب بالحبس مدة لا تزيد عن 6 أشهر وغرامة مالية”.
وقد قامت وزارة الداخلية بتضييق الخناق على رسّامي الغرافيتي وملاحقتهم، حيث تعرّض الكثير للاحتجاز والحبس، فالفنان هشام رزق اختفى وبعد أسبوعَين عُثر على جثته في نهر النيل، وفنان غرافيتي آخر هو عيسى عصام مات أثناء بحث والده عنه، والفنان أحمد فتحي تمَّ القبض عليه 6 مرات، واُعتقل أيمن عبد الرحمن وأحمد محمد في مايو/ أيار 2016.
ولرسم جدارية في مصر حاليًّا، تحتاج الحصول على تصريح من إدارة الحي الذي تتبع له، وهو ما لا يفعله رسّامي الغرافيتي، لأن إدارة الحي تطلب هويتهم ورقمهم القومي وتقدّمها للأجهزة الأمنية، التي تقوم بعملية القبض عليهم.
رغم أن القانون المصري يعرّض رسام الغرافيتي إلى حبس وغرامة، إلا أنك تجد رسومات الغرافيتي ما زالت تزيّن أماكن شهيرة في وسط البلد.
وفي عام 2015، قامت السلطات بهدم سور الجامعة الأمريكية بشارع محمد محمود في شهر سبتمبر/ أيلول واستبدلته بقضبان حديدية لا يمكن الرسم عليها، وهو ما ضاع بعده الكثير من التاريخ المصوَّر البيلوغرافي لأحداث ثورة يناير.
ولم تكتفِ السلطات المصرية عند هذا الحد، فقد قامت بعمل ما يمكن تسميته غسيلًا للشوارع والجدران، فابتداء من سبتمبر/ أيلول 2019 استثمرت مصر ما يقارب الـ 150 مليون جنيه لما سُمّي بإعادة تجديد ميدان التحرير، فأُزيلت كل ذكريات التمرُّد، وأُعيد طلاء المباني وزُرعت المئات من أشجار النخيل، وتمَّ تركيب مسلّة مركزية جديدة من عهد الملك رمسيس في وسط الميدان.
وأحاط النظام المصري شوارع القاهرة بسيل من كاميرات المراقبة، خصوصًا في الميادين الحيوية التي كانت تحفل بالثورة من قبل، فالمساحات العامة التي كانت ذاكرة جماعية لمصر، أصبح مدانًا من تلتقطه الكاميرات وهو يقوم بتعليق منشور أو يرسم رسمة فيها، وحلّت رموز سلطة النظام محل الكتابة على الجدران الثورية.
رغم أن القانون المصري يعرّض رسام الغرافيتي إلى مدة حبس قد تصل إلى 4 سنوات، وغرامة 50 ألف جنيه، بالإضافة إلى مصادرة أدواته، إلا أنك تجد رسومات الغرافيتي ما زالت تزيّن أماكن شهيرة في وسط البلد، ولكن يبدو أنها الوجه الجمالي الذي ترغب السلطة في أن تراه، حيث تستخدم الحكومة نفسها فن الغرافيتي في تزيين محطات المترو الجديدة الخاصة بها، كما أنها تسمح استخدامها في الدعاية التي تروِّج لشخصيات ورموز الدولة، مثل محمد صلاح والغرافيتي الشهير الخاص به في حي الحطابة.
كما أنها تترك المساحة للطلبة الرسّامين برسم الغرافيتي ما دام لا يحمل أي مضامين سياسية، مثل تلك الأنواع من الرسومات التي تنتشر في شوارع العباسية خلف جامعة عين شمس، وجدران جامعة الإسكندرية، وفي مفارقة ساخرة، سمحت السلطة لفناني الغرافيتي بالرسم على الجدران التي كانت تحمل سبًّا للرئيس السيسي من قبل جماعة الإخوان.