يرى الباحث جميل هلال أن هزيمة 1948 تخطّت كونها مجرد هزيمة في سلسلة معارك بين حركة تحرر وقوى استعمارية، لأنْ تصبح هزيمة لمجتمع بكامله نجمَ عنها تلاشي وجوده كتشكيلة اجتماعية وثقافية تعيش وتنمو في إطار جغرافي محدَّد، أي في إقليم جيوسياسي.
فالمجتمع الفلسطيني منذ ذلك الحين خضع لتحولات متسارعة في المعالم الديمغرافية والسياسية والاجتماعية، حتى أصبح محكومًا بشبكة من العلاقات والاعتبارات الدولانية لحقول سياسية متعددة، وهذا ما يميّز خصوصية الهوية الفلسطينية، أنها نشأت وكانت استمراريتها غير مرتبطة بكيان سياسي أو دولاني معيّن، وكان عليها العيش والتجدُّد في ظل غياب دولة أو كيان سياسي موحَّد طوال فترة ما بعد النكبة حتى تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية.
كانت غزة شظية كبرى من شظايا المرآة الفلسطينية المنكسرة، أُلحقت بالإدارة المصرية، لتواجه مصيرًا في البحث عن هوية نضالية ارتبط بشكل أو بآخر بما يحدث في القاهرة.
الهيدرا الفلسطينية
معروفة الهيدرا في الأساطير الإغريقية بأنها الأفعى ذات الرؤوس الخمس أو أكثر، وهكذا كانت ملامح النضال الفلسطيني عقب النكبة.
ترتّب عن الانتشار في حقول سياسية مختلفة تنوُّع كبير في آليات تجديد الهوية الفلسطينية، وفق تجربة كل تجمع فلسطيني وشروطه، فالهوية في الشتات استمدّت مادتها من حياة المخيم وما رمزت إليه، كمكان إقامة مؤقت وفي انتظار العودة إلى الأرض السليبة مرة أخرى، بينما استمدت مادتها في مناطق عرب الداخل والضفة وقطاع غزة من ضرورة التوفيق بين متطلبات الحياة اليومية ومتطلبات المحافظة على الانتماء الوطني الجمعي.
في أعقاب النكبة، لجأ إلى غزة حوالي 200 ألف فلسطيني، وإلى مصر مباشرة ما يقارب 11 ألفًا، وكانت اتفاقية الهدنة الموقعة بين الحكومتيَن المصرية والإسرائيلية عام 1949 قد وضعت قطاع غزة تحت الإدارة المصرية، ومن جانبها منحت مصر حق الإقامة لما يقارب 7 آلاف لاجئ، ونقلت عددًا مماثلًا إلى القطاع، وقد ارتبط وضع اللاجئين الفلسطينيين في مصر بالأوضاع السياسية ومتغيراتها، فقد كانت الإدارة المصرية تلك مَلَكية في البداية سرعان ما تحولت إلى جمهورية عقب ثورة يوليو/ تموز 1952.
ظلت غزة من عام 1949 حتى عام 1962 تُعامَل كمنطقة عسكرية خاضعة لقانون الطوارئ المصري، وعلى الصعيد السياسي الداخلي لم تُقدِم الحكومة المصرية على اتخاذ أية خطوة نحو ضمّ أو إلحاق غزة، وكان هذا أمرًا ذا مغزى بالنسبة إلى التطورات السياسية الفلسطينية في المستقبل، وإن كانت البنى السياسية المُنشأة في غزة تشرّع القوانين بغرض خدمة مصالح السيطرة المصرية، لكنها كانت فلسطينية الجوهر.
فالفلسطينيون في غزة لم يعزلهم القانون عن النظام كما هو الحال مع فلسطينيي الداخل، ولم يرغَموا قسرًا على الدخول في المجتمع السياسي كما هو حال فلسطينيي المملكة الهاشمية، حيث استطاعوا رغم السيطرة العسكرية أن يحافظوا على هوية فلسطينية واضحة.
وكان يساعد هذا، خاصة في لحظات الاستياء في غزة، بعض أوجُه النشاط الاقتصادي والسياسي للإدارة المصرية، فكانت تمرّ تلك اللحظات دون اشتباكات مع الإدارة المصرية، ولم تنمُ معارضة منظَّمة ضدها.
الفدائيون
كان عاما 1952 و1954 عامَي صراع داخلي وتصفية حسابات، حيث تأكل الثورات أبناءها، هكذا كانت ثورة يوليو/ تموز في مصر حتى استقرت على عبد الناصر رئيسًا للجمهورية عام 1954، ولم يولد عبد الناصر حاملًا شعلة القومية العربية، بقدر ما دفعته السياقات التاريخية والجيوستراتيجية للعب هذا الدور، وبالتالي لم تكن غزة حتى هذا الوقت تتبنّى وعيًا قوميًّا عروبيًّا كهوية للقطاع في صراع القضية العادلة.
كان عام 1955 مليئًا بالأحداث وفارقًا في مسيرة عبد الناصر السياسية، ونظرة الإدارة المصرية للقطاع، حيث لم يحمل الضباط الأحرار تصورًا لمشروع واضح تجاه القضية الفلسطينية حين تولوا الحكم في مصر، وأُشيع عنهم تورّطهم في مشروع توطين اللاجئين الفلسطينيين في سيناء، ما تسبّب في اندلاع انتفاضة مارس/ آذار 1955 في غزة ضد الإدارة المصرية.
وفي القاهرة، سرعان ما خابت علاقات عبد الناصر بالغرب بعد كسر احتكار السلاح بصفقة الأسلحة التشيكية وتشكيل حلف باندونغ، فبدأت الحكومة المصرية نهجًا جديدًا ضد “إسرائيل”، بصفتها التمظهر الأبرز للإمبريالية في المنطقة العربية.
كان الفدائيون مجموعة من الفلسطينيين الذين استخدمتهم الاستخبارات العسكرية المصرية في تنفيذ عمليات استطلاع غير مسلحة داخل الأراضي المحتلة منذ عام 1949
بدأ حرس الحدود الفلسطيني/ المصري الاشتباك مع الإسرائيليين على خط الهدنة، وكانت “إسرائيل” دائمًا ما تتّهمُ الحرس بمساعدة المتسلّلين على نصب الكمائن وشنّ الهجمات التخريبية وزرع ألغام وإطلاق النار على الدوريات والمستعمرات الإسرائيلية، حيث كان سلوك الحرس مجسدًا للتوجه المصري آنذاك الذي خفّف القيود المفروضة على التسلل من القطاع وإليه، كوسيلة لردع “إسرائيل” وردّ غاراتها عن طريق العمليات الفدائية.
اقترح قائد حرس الحدود، الضابط المصري مصطفى حافظ، إنشاء قوة مهمات خاصة مدرَّبة ومسلَّحة للقيام بعمليات فدائية داخل فلسطين المحتلة، ما يجعل الحرس مركّزًا على مهمة معيّنة في صد الهجمات الإسرائيلية، وقد وافق مجلس قيادة الثورة على هذا الاقتراح، وكانت نواة تلك الفكرة هي حركة الفدائيين.
كان الفدائيون مجموعة من الفلسطينيين الذين استخدمتهم الاستخبارات العسكرية المصرية في تنفيذ عمليات استطلاع غير مسلحة داخل الأراضي المحتلة منذ عام 1949، وزاد عددهم وجُنِّدوا خاصة بعد الغارة الإسرائيلية على غزة عام 1955، وكان تلك المرة تدريبهم مسلحًا.
بدأ الفدائيون عملياتهم القتالية بالاشتراك مع حرس الحدود الفلسطيني/ المصري، وكان يُنظَر إليهم كجسم صغير ملحَق بالاستخبارات العسكرية المصرية، حتى أجاز قائد الجيش المصري، عبد الحكيم عامر، في آخر عام 1955 تحويلهم لوحدة عسكرية نظامية، وهي الكتيبة التي عُرفت برقم 141، وقد بلغ تعداد تلك الكتيبة 700 رجل ارتفع إلى 1000.
أحصى جيش الاحتلال الإسرائيلي 180 هجومًا بين ديسمبر/ كانون الأول 1955 ومارس/ آذار 1956، قادتها الكتيبة 141 ضد “إسرائيل” في تلك الفترة، ومع تصاعُد أعمال العنف قامت القوات الإسرائيلية بالانتقام بعمل لم يكن معهودًا من جانبها تجاه القطاع، إذ تعرّض وسط مدينة غزة إلى وابل من القذائف المدفعية في أبريل/ نيسان 1956، تسبّب في قتل 59 شخصًا وجرح 93 آخرين معظمهم مدنيين.
وردّت القيادة العسكرية المصرية على القصف بعشرات الهجمات التي نفّذتها كتيبة الفدائيين في الأسبوع التالي، أسفرت عن مقتل 12 إسرائيليًّا، ولم يَعُد الهدوء إلا بعد تدخُّل أمين الأمم المتحدة، وهنا عمدت مصر إلى نقل التركيز بعيدًا عن غزة، فهرّبت السلاح والمتفجرات لعناصر الفدائيين في الضفة الغربية تحت قيادة المجاهد صبحي ياسين.
من عبد الناصر إلى ناصر
لم يطلَق اسم “ناصر” على الرئيس جمال عبد الناصر اختصارًا للاسم الطويل، بل كان الاسم معبّرًا عن حالة كاملة من الإيمان بأنه ناصر العرب، خاصة أعقاب عام 1956 الفارق في مسيرة الأمة العربية ككُلّ.
كان ردّ “إسرائيل” على عمليات الفدائيين في الضفة الغربية باغتيال مصطفى حافظ، والعديد من الغارات الأخرى على القطاع التي أوقعت 161 إصابة في صفوف المدنيين، وظلت الأوضاع مشتعلة إلى أن شنّت “إسرائيل” هجومها على القطاع في أكتوبر/ تشرين الأول 1956، وتمكّنت من احتلال القطاع في أحداث ما عُرف فيما بعد بـ”العدوان الثلاثي” أو حرب السويس التي انضمّت إليها فرنسا وبريطانيا.
أعلنت “إسرائيل” عقب احتلالها القطاع عزمها على اعتقال الفدائيين ومعاقبتهم، بعدما أشاعت أنها عرفت هوياتهم، وخوفًا من العمليات الانتقامية، فرَّ نحو 1500 عنصر من الفدائيين من القطاع، وفي غزة اعتقل جيش الاحتلال نحو 4 آلاف من الفدائيين وحرس الحدود والجيش المصري، وأعدم العشرات من الفدائيين وقتل 275 مدنيًّا فلسطينيًّا في خان يونس خلال البحث عن الفدائيين، وعند انسحاب الجيش الإسرائيلي من القطاع في مارس/ آذار 1957، قُدّر عدد القتلى بحثًا عن الفدائيين ما بين 930 و1200 فلسطيني.
بعد الانسحاب الإسرائيلي من غزة وسيناء، وصلت قوات حفظ السلام للأمم المتحدة ووصل حاكم عامّ جديد من القاهرة بعد تظاهرات فلسطينية طالبت بعودة الإدارة المصرية، إلا أن عودة الفدائيين إلى الظهور بأسلحتهم في الشوارع عرّضت السلطات المصرية لإشكالية التعامل معهم، خصوصًا في السعي إلى تجنُّب حرب أخرى مع “إسرائيل” آنذاك.
وبالفعل جرى حل اللوائَين 86 و87 من حرس الحدود الفلسطيني، وأُعيد إنشاؤهما في لواء واحد هو اللواء 107، أما بالنسبة إلى الفدائيين فقد حوّلتهم الإدارة المصرية عن طريق جعل الكتيبة 141 وحدة شرطية، مهامّها حراسة المنشآت العسكرية ومنع التسلُّل وجمع المعلومات الاستخباراتية عن “إسرائيل”.
وبعد خروج عبد الناصر مزهوًّا بنصره السياسي، كان هناك وعي بمسار جديد يتشكّل، عبّرت فيه المفاهيم السياسية العامة الجديدة التي سادت في المنطقة عن نفسها من خلال تنامي حركة القومية العربية، وقد ساهم هذا الوضع في تحديد سمات النضال العربي الفلسطيني، وعكسَ نفسه على مجريات الأمور في قطاع غزة.
تبدُّلات مصيرية
مرحلة الذروة في تأثير المد القومي العروبي على القطاع، كما يراها حسين أبو النمل، تمتدّ بين عامَي 1957 و1963، حين استقرت الإدارة المصرية في القطاع، ومرت نحو 10 سنوات على قيام القطاع ما أدّى إلى اكتمال دورته لاقتصادية، ما نتج عنه حدوث تبدُّل في مجموع أوضاعه الاقتصادية التي انعكست على أوجُه النشاط السياسي.
تبلورت المفاهيم السياسية في قطاع غزة متأثرة بالجوّ العروبي العام، ومقابل تراجُع مشاريع الصلح والتوطين، كان واضحًا أن تحرير فلسطين ليس مهمة سهلة وليس موضوعًا آنيًا يُنجز بسرعة، وكان لهذه المسألة ما قبل عام 1956 دور كبير في خلق جوّ جماهيري ضاغط على القيادة المصرية.
وأكّد اجتياح “إسرائيل” للقطاع أثناء حرب 1956، أن مجابهة “إسرائيل” ليست أمرًا سهلًا، وتحتاج لفترة طويلة من الإعداد والتجهيز، وكان شعار “الوحدة العربية طريق لتحرير فلسطين” خير معبّر عن القناعة القائلة بضرورة الإعداد والحشد قبل المعركة الفاصلة، وعكست تلك القناعة نفسها على مجمل المفاهيم والنشاطات السياسية التي شهدها القطاع طيلة المرحلة اللاحقة.
أهم النتائج التي أسفرت عنها حرب السويس 1956، الهزة الكبرى لأُسُس الصراع السياسي التقليدي، فقد تقصلت القاعدة الجماهيرية التي كانت متأثرة بالحاج أمين الحسيني كزعيم وطني، لتُحلّ محله عبد الناصر، في الوقت الذي كانت قيادة الحاج أمين ترتكز على ارتباطات عشائرية وماضٍ وطني فقط.
وقد تشوّه الموقف السياسي لخصوم الهيئة العربية العليا، خصوصًا بعد تعاون عميد آل الشوا مع الاحتلال الإسرائيلي أثناء الحرب، وأنتجت البنية الاقتصادية الجديدة للقطاع غالبية من السكان اللاجئين الذين لا يرتبطون اقتصاديًّا بالزعامات التقليدية، فهبطَ مستوى الصراعات العشائرية إلى قضايا ذات طابع محلي صرف، وانتقل ولاء تلك الزعامات من الحاج أمين إلى عبد الناصر، وارتبطت مصالحها بمصالح الزعامة الناصرية.
تميّزت حركة القوميين بأن شعاراتها التي تصرخ بفلسطينيتها توازي تبنّيها التزام الخط القومي العروبي، ولأن بداية الحركة كانت في المخيمات، فقد استطاعت أن تتجاوز الحساسيات الاجتماعية التي كانت تحكم علاقة لاجئي غزة بمواطنيها الأصليين.
يؤكّد أستاذ علم الاجتماع في جامعة بيرزيت، مجدي المالكي، أن الهوية القومية العربية كانت سائدة لدى الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، لأن الفلسطينيين في تلك المرحلة من تاريخهم اعتبروا أن السبيل الوحيد لتحرير فلسطين هو التمسُّك بتلك الأيديولوجيا، بينما حلّت في المرتبة الثانية الهوية الفلسطينية في قطاع غزة، والهوية الأردنية في الضفة، وحافظ عرب الداخل على تماسّ مع الشعور القومي العروبي أيضًا، إذ لم تتناقض رغبتهم في تحسين الوضع الاقتصادي من خلال استيعابهم في السوق العمل الإسرائيلي، مع تأييدهم الكبير للحركة القومية العربية في تلك الفترة.
كانت القومية العربية في تلك الفترة، كما يرى البروفيسور إعجاز أحمد صمولة، المشروع الفلسطيني الذي ظلَّ مرتبطًا بها حتى عام 1967، وكان هذا مفهومًا جيدًا لدى اليسار الفلسطيني، خاصة أن هناك تداخلًا بين مشروع التحرير الفلسطيني والمشروع العروبي.
فبسبب قوة الدولة الاستعمارية الصهيونية، أصبح الفلسطينيون في غاية الضعف ومشتّتين، وبالتالي لا يمكنهم تولّي قيادة مشروع عربي موحَّد، فكان عليهم البحث عن التضامن في أماكن أخرى، وفي مرحلة ما مثّلت القومية العربية العلمانية الضامن لهم، وفي هذا المناخ شديد الزهو والاعتداد بمنهج القومية العربية، ولدت حركة القوميين العرب في قطاع غزة.
رجال جورج حبش
يبرر حسين أبو النمل أن المناخ الغزاوي كان أكثر تقبُّلًا وانجذابًا للخطّ الناصري، لأن الإدارة المصرية عزلته عمّا كان يجري من نقاشات في بقية المنطقة في خضمّ الحرب العربية الباردة، فكانت وسائل الإعلام المصرية هي الوجبة الوحيدة على مائدة المواطن الغزي، والأدبيات والمفاهيم الجديدة التي لم تكن على أرضية الناصرية سرعان ما تتعرض للمصادرة.
حيث كانت مصر المنور الذي تطلُّ منه غزة على العالم، كانت غزة تتأثر سياسيًّا بكل ما يحدث في مصر كنتيجة طبيعية، حيث تأثرَ القطاع بما حدث في مصر من قمع للحركة الشيوعية وحركة الإخوان المسلمين، فكان حمل عبد الناصر على هذه الحركات داخل القطاع أيضًا، ما جعل الجوّ خاليًا من تنامي تيار قومي في قطاع غزة.
لم يكن حزب البعث الاشتراكي، كما يرى حسين أبو النمل، قادرًا على أن يشكّل ظاهرة سياسية مميزة في غزة، ولم تُتَح له الظروف أيضًا ليكون معبّرًا عن مرحلة المد القومي، لذلك بدأت حركة القوميين العرب تشقّ طريقها في القطاع وفي الساحة الفلسطينية بسهولة.
وتميّزت حركة القوميين بأن شعاراتها التي تصرخ بفلسطينيتها توازي تبنّيها التزام الخط القومي العروبي، ولأن بداية الحركة كانت في المخيمات، فقد استطاعت أن تتجاوز الحساسيات الاجتماعية التي كانت تحكم علاقة لاجئي غزة بمواطنيها الأصليين.
كانت المفاهيم التي تطرحها الحركة ضمن المجرى العام الذي كانت تمثّله الناصرية، وحتى حينما توتّرت العلاقات بين الحركة وعبد الناصر في حرب اليمن مثلًا، لم تصل تلك التوترات إلى حد الصدام الذي يشهد تنكيلًا بهم، كالإخوان والشيوعيين والبعثيين.
يروي جورج حبش، زعيم القوميين العرب، في ذكرياته في كتاب “الثوريون لا يموتون أبدًا”، أن غزة كانت بؤرة قوية لتجمُّع الحركة، وقد ساهم التحالف مع الرئيس عبد الناصر في السماح للحركة بتطوير بنية تنظيمية قوية، حتى على المستوى العسكري، لذلك كان العمل العسكري للحركة ضد “إسرائيل” ينطلق من قطاع غزة، الذي أصبح مسرحًا لفدائيي حركة القوميين العرب ولسياسيها.
بداية الشكّ
شهدت الستينيات فكّ الارتباط بين أحلام العروبة وأحلام تحرير فلسطين على عدة مراحل، رسمَ ملمح كل مرحلة منها هزيمة لمشروع الحلم العربي.
عززت الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958 موقع عبد الناصر عربيًّا، ولدى الفلسطينيين ازدادت مكانته بشكل أكبر وأخصّ، لذلك شكّل الانفصال عام 1961 أولى الضربات لأحلام الفلسطينيين في خلاصهم من خلال الوحدة العربية، بالتوازي مع حرب الجزائر ضد فرنسا التي حازت فيها الجزائر استقلالها عام 1962 بعد صراع دموي طويل، فبدأ الاعتقاد أن الاعتماد على النفس أهم من الاعتماد على وحدة عربية.
يؤكّد ذلك يزيد صايغ، حيث يرى أن المجتمع الفلسطيني لم يستعِد القدرة اللازمة لتوليد نشاط سياسي علني خاص به، ودعم حركة وطنية مستقلة عن التيار القومي العروبي، إلا في أوائل الستينيات، حيث بلغ الفلسطينيون هذه المرحلة بعد وقت قصير من تحطُّم الأمل المعلَّق على القومية العربية بسبب انهيار الوحدة المصرية-السورية في سبتمبر/ أيلول 1961، وعودة الحرب العربية الباردة للنشوب من جديد، ودلَّ ذلك لدى الفلسطينيين على فقدان الأمل بالسياسة العربية.
وفي عام 1964، وافق رؤساء الدول العربية على تكوين منظمة التحرير الفلسطينية واختيار أحمد الشقيري رئيسًا لها، الذي تجاوز صلاحياته وواجه العرب بحقيقة أنه ينشئ هيئة شبيهة بالدولة لها دستور منظَّم، وسلطة تنفيذية، ومجلس تشريعي، ودوائر حكومية، وجيش، وميزانية مدقَّقة، ونُظُم داخلية، وقد تأثر قطاع غزة مباشرةً بمساعدة السلطات المصرية لمنظمة التحرير، حيث فرضت ضرائب محدودة، وتجنيدًا إلزاميًّا على السكان في القطاع.
ما بعد الأيام الستة
رغم أن تجريد الفلسطينين من أرضهم وحقوقهم لم يكن موضع شك في العالم العربي، على المستوى الشعبي والرسمي، إلا أن الأمر استغرق من الحركة الوطنية الفلسطينية بعض الوقت إلى أن تنفصل وتتحلل عن الحركة القومية العربية تمامًا، وتشكّل لنضالها الملامح المتمايزة.
هنا جاء دور هزيمة 1967، التي ظهر في أعقابها مشروع وطني فلسطيني على رماد الحركة القومية العربية، كما يرى المحامي والمفاوض زياد كلوت، بعد أن كان قبل ذلك الوقت يرتبط مصير الفلسطينيين ارتباطًا وثيقًا بالكفاح الأوسع، ضمن بؤرة ثورية تقدُّمية عربية من أجل التحرر والاستقلال.
كانت أحلام العروبة المذابة بنيران القصف في غزة، سائلًا رفدَ الهوية النضالية الجديدة في القطاع، بعد الانفصال عن الإدارة المصرية شكلًا ومضمونًا.
وتأتي كلمات جورج حبش، زعيم حركة القوميين العرب، كدليل: “كانت الدروس المستفادة من الهزيمة عام 1967 بالنسبة لنا أن الشعوب وحدها يمكنها أن تتحكم في التاريخ، فرغم الاحترام البالغ لعبد الناصر كقائد، إلا أن الشعوب يجب أن تكون هي القائد وتشكّل المحرك الأساسي للنضال ضد “إسرائيل””.
وكانت تلك الحالة بصفة عامة هي التي شكّلت وعيًا جديدًا بماهية الصراع، والذي يجب أن يكون مستقلًّا عن أي خط عربي، وألا يكون جزءًا من كل، وأصبحت حركة القوميين العرب ثمرة الجبهة الشعبية فيما بعد، وأعلنت انفصالها تمامًا عن النهج العروبي الناصري، وتبنّيها الماركسية والهوية الفلسطينية كمحدد رئيسي لنضالها.
وتجسّد نضال الجبهة الشعبية في غزة في شخص المناضل محمد الأسمر “جيفارا غزة”، الذي كان من لاجئي عام 1948 الذين تربّوا في مخيمات الأونروا في غزة، وكان من المعروف عنه قتاليته الشديدة وعناده وإرادته الصلبة، فبعد أن وقعت غزة تحت الاحتلال في حرب الستة أيام عام 1967 اُعتقل الأسمر، وأمضى 30 شهرًا في السجن خرج من بعدها ليتولى قيادة الجبهة في غزة.
وكان الأسمر بعبع الاحتلال الذي وجّه إليه ضربات قاسية طيلة 3 سنوات، جعلت موشي ديان يضرب الحصار على الأراضي المحتلة حتى يجد الأسمر الذي كان بارعًا في الاختباء، إلى أن قضى في مواجهة مفتوحة في مارس/ آذار 1973، وكان الأسمر متسببًا في العديد من العمليات أشهرها عملية مطار اللد.
تصدّر ياسر عرفات المشهد بدلًا من الشقيري، وأنشئ للفدائيين إطار مؤسسي قادر على جني الثمار السياسية لطلقات السلاح، لتبدأ مرحلة تاريخية جديدة في تاريخ النضال الفلسطيني والقطاع.
أما منظمة التحرير، فقد أثّر سلوك الشقيري السياسي الشخصي وعلاقاته الوثيقة بأنظمة المواجهة المنهزمة على دعم الفلسطينيين له كزعيم لمنظمة التحرير، وفي المقابل كانت تزداد شعبية المنظمات الفدائية وعلى رأسها حركة فتح.
رأت فتح أن أمامها فرصة للإفلات من السيطرة العربية بعد هزيمة 1967، فقد عادت القضية إلى صورتها الحقيقية كصراع فلسطيني-إسرائيلي، وقد رأى قادة فتح في الضفة الغربية وقطاع غزة قاعدة منشودة لإنشاء سلطة ثورية إذا أزيلت السلطة العربية عنهما، وتمثلت المهمة المتبقية بإجبار “إسرائيل” على الانسحاب.
قامت فتح بمحاولة لتنظيم انتفاضة عفوية شعبية مسلحة ضد الاحتلال الإسرائيلي، خلال الأشهر اللاحقة على الحرب في غزة والضفة، وقد فشلت تلك الانتفاضة، لكن فتح نجحت في تعزيز مكانتها كممثل للمشروع الفلسطيني بهويته الفلسطينية الصرفة.
وبعد معركة الكرامة عام 1968، تأكدت مكانة فتح وقدرتها لدى الفلسطينيين كحركة فدائية قادرة على إحداث حرب تحريرية على النسق الجزائري، وهنا تبنّى النظام المصري حركة فتح عن طريق وساطة مستشار الرئيس عبد الناصر، محمد حسنين هيكل، حيث دبّر اجتماعًا بين عبد الناصر وصلاح خلف نتجت عنه موافقة عبد الناصر لتوفير ما يلزم لتدريب فتح ومدّها بالأسلحة، وتصدّر ياسر عرفات المشهد بدلًا من الشقيري، وأُنشئ للفدائيين إطار مؤسسي قادر على جني الثمار السياسية لطلقات السلاح، لتبدأ مرحلة تاريخية جديدة في تاريخ النضال الفلسطيني والقطاع.