هو أحد الأضلاع الرئيسية في علوم الرياضيات والحساب، له أكثر من 85 مؤلفًا في هذا المجال، حتى تحوّل إلى أيقونة لدى علماء الغرب المعاصرين، قدّم للفلك والهندسة والجبر ما لم يقدّمه آخرون ممّن يُشار لهم بالبنان، ورغم أنه غاب عن دوائر اهتمام المؤرخين العرب والمسلمين، إلا أنه ظلَّ -عبر مؤلفاته الخالدة- قلعة شامخة تزيّن مكتبات ألمانيا وإسبانيا، إنه العالم المسلم أبو أحمد بن محمد بن عثمان الأزدي، المعروف بابن البنّاء المراكشي (1256-1321م).
ولد أبو العباس في مراكش، وعاش فيها معظم فترات حياته، وعُرف بين الناس بـ”ابن البنّاء” نسبة إلى جده الذي كان يعمل بنّاءً، جمع بين العلوم الشرعية كالقرآن والحديث والفقه والشريعة، وبين العلوم التطبيقية كالطب والهندسة والفلك والتنجيم، وقد حظيَ بتقدير ملوك الدولة المرينية في المغرب لعدة سنوات.
في هذا التقرير من ملف “أعمدة منسية”، نلقي الضوء على هذا العالم الذي نال إعجاب وتقدير علماء الجبر والفلك الثقات في الغرب والشرق على حد سواء، واستحق أن يكون علمًا تُسلَّط عليه الأضواء لما قدّمه لتلك العلوم من إنجازات وإسهامات عظيمة، فماذا نعرف عن هذه القلعة الإسلامية الشامخة؟
علوم الدين والدنيا
كان شائعًا في مراكش في القرنَين الثالث والرابع عشر الميلادي تعليم الشباب والفتيات القرآن وعلوم الحديث والفقه وغيرها من علوم الدين، التي كانت القاعدة الأساسية لمعظم المجتمعات الإسلامية في ذلك الوقت، بجانب علوم اللغة من نحو وصرف وتمكين، وهو ما كان عليه أبو العباس في نعومة أظفاره.
وقبل أن يُكمل عقده الثاني، وبعد أن أتمَّ دراسة أمّهات العلوم كما كانت تُسمّى، انتقل الشاب الفقيه إلى مدينة فاس لتلقّي علوم الرياضيات والهندسة والجبر والفلك، حيث كانت تشتهر تلك المدينة بأنها قبلة العلماء ومقصد طلاب العلوم الدنيوية، وكانت البداية في جامع القرويين الذي تلقى بين جدرانه الكثير من العلوم.
تلقى تعليمه على أيدي فطاحل الرياضيات في المغرب، وكان من أبرزهم ابن مخلوف السجلماسي الفلكي، ابن حجلة الرياضي، علي بن مبشر المراكشي، قاضي الجماعة محمد بن علي بن يحيى الشريف، إبراهيم بن عبد السلام العطار الصنهاجي ويوسف بن أحمد بن حكم التجيبي المكناسي.
كما لفت ذكاؤه علماء وملوك وأمراء مراكش وفاس على حد سواء، وذاع صيته بين المدن القريبة، حتى أن الفيلسوف الشهير ابن رشد قال في حقه في كتابه “نيل الابتهاج”: “لم أرَ بالمغرب من العلماء إلا رجلَين: ابن البنّاء العددي المراكشي في مراكش وابن الشاطر في سبتة”، أما مؤرخ الأندلس، المقري التلمساني، فعنه قال: “كان ابن البنّاء شيخ شيوخ العلماء في عصره”.
إسهاماته في الرياضيات
كان مؤلفه “تلخيص أعمال الحساب” بوابته للشهرة العالمية، حيث قدّم خلاله بحوثًا مستفيضة عن الكسور الجبرية وقواعد جميع مربعات الأعداد ومكعّباتها، بجانب بعض القواعد الحسابية وأبرزها قاعدة الخطأين لحلّ المعادلات من الدرجة الأولى، كما أدخل بعض التعديلات على النظريات المتواجدة وقتها، والتي كانت تعتمد على الطرق الأحادية في حل المسائل الحسابية.
ونظرًا إلى ما يحتله هذا الكتاب من مكانة، وما يقدّمه من إسهامات في علوم الرياضيات والحساب بوجه عام، ظلَّ هو الأكثر شهرة في المغرب العربي حتى نهاية القرن السادس عشر الميلادي، كما تصدّر قائمة المراجع الهامة لعلماء القرن التاسع عشر والعشرين.
أثار الكتاب إعجاب الكثير من المؤرخين والفلاسفة والعلماء ممّن اعتبروه كنزًا علميًّا في مكتبات الرياضيات بوجه عام، فعنه قال ابن خلدون: “ولابن البنّاء المراكشي فيه تلخيص ضابط لقوانين أعماله مفيد، ثم شرحه بكتاب سمَّاه (رفع الحجاب)، وهو مستغلق على المبتدئ بما فيه من البراهين الوثيقة المباني، وهو كتاب جليل القدر، أدركنا المشيخة تعظمه، وهو كتاب جدير بذلك، وإنما جاءه الاستغلاق من طريق البرهان ببيان علوم التعاليم؛ لأن مسائلها وأعمالها واضحة كلها، وإذا قصد شرحها فإنما هو إعطاء العلل في تلك الأعمال، وفي ذلك من العسر على الفهم ما لا يوجد في أعمال المسائل فتأمَّلْه، والله يهدي بنوره من يشاء، وهو القوي المتين”.
وبشأنه قال العالم الأمريكي جورج سارتون (1911-1984) في كتابه “المدخل إلى تاريخ العلوم”: “إن كتاب “تلخيص أعمال الحساب” لابن البنّاء المراكشي يحتوي على نظريات حسابية وجبرية مفيدة، إذ أوضح العويص منها إيضاحًا لم يسبقه إليه أحد”.
أما الرياضي العالمي فرانسيس كاجوري، فقال عنه في كتابه “المقدمة في الرياضيات”: “قدّم ابن البناء خدمة عظيمة بإيجاده الطرق الرياضية البحتة، لإيجاد القيم التقريبية لجذور الأعداد الصم”.
في علوم النجوم والكواكب
أثرى ابن البنّاء مكتبة علوم الأفلاك والأجرام بالعديد من المؤلفات التي لا تزال حاضرة حتى اليوم، أبرزها تلك التي تناول فيها أنواع الاسطرلاب، “الصحيفة الزرقالية” و”الشكازية”، هذا بجانب كتابه المعنوَن بـ”منهاج الطالب في تعديل الكواكب”، وهي المؤلفات التي تعدّ امتدادًا للطريقة الأندلسية في قراءة النجوم والظواهر الفلكية، التي كان يمثلها في ذلك الوقت الفلكي أبو إسحاق إبراهيم بن يحيى الزرقالي (1029-1100).
ومن أبرز الإسهامات التي تضمّنتها تلك المؤلفات، هو احتواؤها على تعديلات على جداول ابن إسحاق لجعل عمليات الحساب أكثر سهولة، بجانب التجارب التي قام بها العالم المسلم في إزاحته للمعادلات الشمسية والمعادلات الكوكبية، وهي التقنية التي اُستخدمت للمرة الأولى في المغرب، والتي بمقتضاها تمَّ إضافة بعد الطرق للبناء القياسي لجداول معادلات شذوذ المريخ وزهرة وعطارد، فضلًا عن تغيير المعادلات بالكامل بالنسبة إلى كوكبَي المشتري والمريخ، وقام بحسابها بنفس طريقة حساب معادلة القمر.
كما تضمّن كتابه “منهاج الطالب في تعديل الكواكب” على فصل عنون له بـ”اليسارة في تقويم الكواكب السيارة”، كان بمثابة المرجع لكثير من المهتمين بعلوم التنجيم، حيث بسّط الجداول العددية القليلة بقدر الإمكان، وساعد في حساب خطوط الطول الكوكبية.
ولابن البنّاء إسهاماته الجليلة في التقويم العربي قبل الإسلام، وفيه تنبؤات بالأرصاد الجوية تعتمد على الشروق والغروب النجمي، هذا بخلاف ضبطه لمواقيت الصلاة، وذلك من خلال كتابه “قانون في معرفة الأوقات بالحساب”، والذي ساعد في تحديد أوقات الصلاة وتحديد بداية الشهور القمرية بالنسبة إلى العاملين في مجال الأذان وأئمة المساجد.
استحق ابن البنّاء على ما قدمه من إسهامات عظيمة في علم الرياضيات أن يكون حديث إعجاب وتقدير المؤسسات العلمية في الشرق والغرب، بجانب الشهادات الموثَّقة من المستشرقين ممّن اعترفوا بفضله.
أما فيما يتعلق بخدماته في مجال التنجيم، فقد اختلفَ المؤرخون بشأن إيمانه بالمطلق في هذا العلم، ففي بداية حياته ألّفَ ابن البنّاء العديد من الأبحاث والمؤلفات التي تطرّقت لعلم التنجيم، وأدلى فيها بدلوه القيّم، لكن بعد ذلك تغيّر الوضع حين انتهى من كتابه “الرد على أحكام النجومية”، والذي يعتبره البعض ردة على إيمانه بالتنجيم، ويرجَّح أن يكون كتبه قرب نهاية حياته.
وبجانب ما سبق، هناك العديد من المؤلفات الأخرى التي لا تقلّ أهمية عما تمَّ ذكره، منها كتاب “الأصول والمقدمات في الجبر والمقابلة”، كتاب “الجبر والمقابلة”، كتاب “تحديد القبلة”، كتاب “الإسطرلاب واستعماله”، كتاب “أحكام النجم”، كتاب “رسالة في التناسب”، كتاب “رسالة في الجذور الصمّ جمعها وطرحها”، كتاب “تنبيه الألباب”، كتاب “التمهيد والتيسير في قواعد التكسير”، كتاب “المقالات في الحساب”، كتاب “مسائل في العدد التام والناقص”، كتاب “رسالة في كروية الأرض” وكتاب “مقدمة في إقليدس”.
واستحق ابن البنّاء على ما قدّمه من إسهامات عظيمة في علم الرياضيات أن يكون حديث إعجاب وتقدير المؤسسات العلمية في الشرق والغرب، بجانب الشهادات الموثَّقة من المستشرقين ممّن اعترفوا بفضله، في الوقت الذي غاب فيه عن دوائر الضوء في المجتمع المسلم.