ترجمة وتحرير نون بوست
زارني مؤخرًا قائد عسكري برُتبة ميجور في إحدى الفصول التي أقوم بتدريسها لجنود الجيش الأمريكي، لمناقشة فترة عمله في ولاية نورستان الأفغانية النائية والمرتفعة في الهندوكوش، حيث تلتقي حروب اليوم بروايات تاريخ الأمس.
لقد أصبحنا نتطلع أخيرًا إلى إنهاء العمليات العسكرية في أفغانستان، فطبقًا لخطة الرئيس أوباما المُعلنة في مايو الماضي، سيتم خفض أعداد القوات الأمريكية هناك من 24000 إلى 9800 بحلول عام 2015، ليتم الانسحاب الكامل بنهاية 2016، هذه النهاية البطيئة لأطول حرب خاضتها الولايات المتحدة في تاريخها تمثل فرصة للنظر والتفكر في معنى وكيفية وماهية إيقاف الحرب، قد يبدو إيقاف الحرب أمرًا بديهيًا وعاديًا لكثيرين ولكنه ليس كذلك، وهو سؤال يستهويني كثيرًا وأنا أرى تلامذتي يذهبون ويجيئون من ساحات القتال منذ بدء الحرب.
هذا الخريف، قررت اغتنام تلك الفرصة لاكتشاف ثقافة الحروب الطويلة، وللنظر في صعوبة الاعتراف بنهايتها، وكان ذلك في إطار مادة الأدب العالمي التي أدرسها لتلامذتي بالأكاديمية العسكرية، والذين أبدوا اهتمامًا ربما أكثر مني لقراءة أساطير وحكايات الحروب الطويلة، قمنا بالتركيز بشكل خاص على مسار حروب “الإسكندر الأكبر”، وحملته العسكرية التي بدأت بمجرد جلوسه على العرش المقدوني، ولم تنته إلا بوفاته بعد 13 عامًا، وهو يبلغ من العمر 32 عامًا فقط، سرنا مع الإسكندر عبر اليونان وشمال أفريقيا وإلى أراضي الإمبراطورية الفارسية والهند، بل والصين أيضًا، حيث لم تطأ أقدام الإسكندر، ولكن كانت آثار فتوحاته بعيدة لدرجة جعلت الشاعر الفارسي المعروف، الفردوسي، يكتب عنها في رائعته “شاهنامه”، ويتخيّل فيها الإسكندر في بلاط الإمبراطور الصيني.
قرأت مع تلامذتي تلك الروايات حتى بدأوا في إدراك مدى الاختلاف بين المحارب القديم والجديد، إذ إنهم معتادون على التناوب في ساحات القتال طبقًا لجدول سنوي، ولم يعرفوا قبلاً عن جنود الماضي الذين وُضِعوا ربما للخدمة لعشر سنوات دفعة واحدة، وهو حال فرقة النخبة المقدونية العسكرية التي صاحبت الإسكندر وكانت الأكثر خبرة ووفاءً لقائدها، ولم تتوقف أبدًا عن القتال.
***
تُعَد القدرة على معرفة متى وكيف تتوقف الحرب، مشكلة قديمة قدم الحروب نفسها، إذ أن إدراك وتحديد حدود حملة عسكرية ما، ليس فقط تحدٍ عسكري، بل نفسي، للقائمين على الحرب والمشاركين فيها، فكلما طالت الحرب، كلما كان صعبًا تحديد نهايتها بدقة، كما تشي حروبنا في فيتنام والعراق وأفغانستان، بل أحيانًا ما يكون تحوّل أهداف القيادات سببًا في إطالة حرب قصيرة وانحرافها عن مسارها، كما جرى بين الرئيس ترومان والجنرال دوجلاس ماك آرثر من خلاف حول أهداف الحرب في كوريا؛ مما أدى إلى رفد الجنرال.
في عام 2003، عبّر وزير الدفاع الأمريكي آنذاك “دونالد رامسفيلد” عن تلك الأزمة في مذكرة قال فيها ببساطة: “إننا لا نمتلك اليوم معايير واضحة لمعرفة ما إذا كنا ننتصر أو نخسر حربنا على الإرهاب”، بعد أكثر من عشرة أعوام، لا يبدو أن الصورة ازدادت وضوحًا.
الأمريكيون لا يحبون الحروب المبهمة التي لا تبدو لها نهاية، ولكنهم في نفس الوقت متشككين حيال نطاق العمليات العسكرية التي حددها بوضوح قانون استخدام القوة العسكرية الذي وقعه الرئيس السابق “جورج بوش” إبان أحداث 11 سبتمبر، ويستهدف الإرهاب بشكل أساسي، فهناك إحساس بعدم الارتياح حيال تمدد نيران الإرهاب الذي يحاربه هذا القانون، والتي امتدت في غضون أعوام من أفغانستان إلى العراق، ثم أفغانستان مرة أخرى، ثم اليوم نجد الحديث عن ليبيا وسوريا وغيرها.
بعد نقاشات طويلة مع الطلاب حول المحاربين في الأزمنة السابقة، سنحت لنا الفرصة بزيارة الميجور “ستوني بورتيس” لسماع حكايات عن الحرب في زمننا هذا، بورتيس محارب قديم من العراق وأفغانستان، وهو أول من اكتشف أهمية التواصل عبر الثقافات أثناء الحروب، في عامي 2009 و2010، كانت مهمته تقع في ولايتي كونار ونورستان في شمالي شرقي أفغانستان، حيث حكى له السكان المحليون أساطير الإسكندر وجيشه الذي وصل لتلك المرتفعات في يوم من الأيام، وهم ينحدرون من يونانيي تلك الفترة كما قالوا، لم تكن تلك المرة الأولى التي تقاطعت فيها مسارات الميجور بورتيس مع الإسكندر، إذ يبدو أن أقدامه وطأت مكان الإسكندر مرة أخرى قبل ذلك حين كان يخدم في العراق قرب دجلة.
***
في العام العاشر لزحف المقدونيين، قال رفقاء الإسكندر بكل صراحة لقائدهم أنهم لن يمضوا أكثر من ذلك، فقد هزموا الفرس بعد ثلاث سنوات من القتال مع قوى عسكرية قبلية ومحلية في أفغانستان وإيران، وعبروا الهندوكوش، ووصلوا إلى أنهار البنجاب، وبدا لهم أن حملة الإسكندر العسكرية بدأت تفقد معناها وهدفها، فماذا بعد أن وطأ اليونانيون أراضٍ لم يسمع بها أحد في بلادهم إلا في الحكايات والأساطير؟
كان الهدف من الحرب، كما قال الإسكندر في بدايتها، الثأر من الفرس، وتوحيد الدول اليونانية، وإعادة الأراضي المفقودة في الحروب مع الفرس، وتحرير اليونانيين الذين وقعوا تحت حكمهم، بيد أنه بوصول جيشه إلى الهند، بدا أن الحرب تجاوزت هذا الهدف وأصبحت غير واضحة، يحكي لنا المؤرخ اليوناني “أريانوس” كيف تعب المقدونيون من زحف الإسكندر اللانهائي، وقرروا العودة إلى أوطانهم حين بدت لهم الحرب رحلة أزلية بلا عودة.
كانت لدى الإسكندر طموحات أخرى، وهو الدارس لجغرافيا أرسطو، إذ كان يطمح للوصول إلى المحيطات البعيدة التي لم يسمع بها أحد من قاطني العالم القديم، حاول الإسكندر إقناع رفاقه وبث الحماس فيهم، وقال لهم إن تحقيق الإنجازات العسكرية النبيلة هدف بحد ذاته، وأن الرجل عالي الهمة عليه أن يمضي في سبيل ذلك ما دام حيًا، ليترك خلفه إرثًا واسمًا لا يموتان.
رد عليه أحد رفاقه المقدونيين قائلاً: “إن كان ثمة شيء يجب على الرجل الناجح أن يعرفه دون سواه، فإنه معرفة متي يتوقف!”، بعد إثنائه عن استمرار الزحف، ظل الإسكندر يهيم بجيشه في صحاري الهند وإيران حتى وافته المنية إثر ارتفاع بدرجة الحرارة في بابل.
***
مثلت أفغانستان صعوبات كبيرة للإسكندر رغم جيشه الأسطوري، كما روى لنا الميجور بورتيس، إذ إن أراضيها شديدة الوعورة، لاسيما المساحات المحيطة بالهندوكوش؛ وهو ما جعل حروبها تبدو دومًا بلا نهاية، للإسكندر والإمبراطور الموغلاي بابور (الذي حكم الهند لاحقًا)، ومن بعدهما البريطانيين والسوفييت، ثم الأمريكيين اليوم، “لا يجد أحد نفسه في أفغانستان صدفة، ورغم ذلك فقد تعاقب عليها طابور طويل من الحملات الأجنبية لقرون، سعت لتركيعها وتطويع أهلها الذين يُعَدون في الحقيقة أشد بأسًا من الجبال المحيطة بهم، لا أعتقد أن الأمور كانت لتكون مختلفة بالنسبة لنا في القرن العشرين”، هكذا يقول بورتيس.
كانت القرى التي تحركت في وسطها وحدة بورتيس العسكرية معزولة بشدة حتى إن خمسة مترجمين صاحبوه في مهمته، وتكلّموا 9 لغات، لم يكونوا على دراية بلهجتها المحلية، في نهاية المطاف، ولحُسن الحظ، استطاع أحد المترجمين، والذي عَمِل كإمام مسجد في السابق، التواصل مع شيخ مُسِن دارس للشريعة بشكل مقبول عبر تبادل الآيات القرآنية التي يحفظانها، هذا التواصل الصعب، والذي لا يقل صعوبة عن التنقل بين جبال أفغانستان الوعرة، أتاح لبورتيس فهم دقائق وخبايا المكان الذي وضعه فيه التاريخ – أو رئيسه آنذاك لنكون أدق -.
أخذ بورتيس يشرح لنا تفاصيل الحملات الأفغانية، من الضحايا من الجنود وحتى مواجهة تمرد الميليشيات والقبائل، وقد توقف بين الحين الآخر لينبهّنا ما إذا كان يتحدث عن حرب اليوم، أم حروب الإسكندر بالأمس، إذ اختلط الأمر علينا كثيرًا – يبدو أن أفغانستان مثل جبالها الشامخة، لم تتغير أبدًا على مدى تاريخها -.
كان بورتيس مسئولاً عن فرقة من سلاح الفرسان نجت بالكاد من هجوم لطالبان في أكتوبر 2009، وقد كان ذلك الهجوم أحد أخطر الضربات التي تعرض لها الأمريكيون في أفغانستان، وأكثرها دموية، حيث خلّف 8 قتلى من الجنود و22 مصابًا، غير أنه لم يحك لنا عن تفاصيل نجاته أو عمله اليومي العسكري، بل عن معنى الحرب في مكان له باع طويل في دحر الغزاة، ويمتلك تلك الجغرافيا المعقدة.
لربما كان ذلك هو ما جعل بورتيس يأتي اليوم إلى أكاديمية ويست بوينت ليدرّس هنا، ويعرف من قراءة التاريخ ما لم يعرفه على الأرض، يقول بورتيس إن هناك الكثير من الأشياء كان يتمنى لو أنه عرفها قبل خدمته بأفغانستان، فلو قرأ عن الإسكندر وزحفه فوق المسارات الضيقة للهندوكوش، لأدرك مدى صعوبة العمل في هذه المناطق بشكل أكبر وأدق، خاصة في الشتاء، ولو تسنّى له أن يقرأ وصف الإمبراطور الموغلاي بابور في القرن السادس عشر للفضة واللازورد بأفغانستان في كتابه “بابورنامه”، لربما استطاع أن يفهم أزمة عاملي المناجم الأفغان الذين تجوّلوا لبيع أحجارهم في الطرقات حين ركد السوق تمامًا، ولو قرأ الشاهنامه بتمعّن، لكان قد استعد بشكل أفضل للتفاعل مع هذا الكمّ من الطقوس الدينية والثقافية في تلك المنطقة من العالم.
***
يبدو من أبيات الشاهنامه أن الإسكندر كان مدركًا لهباء زحفه العسكري، ولكنه كان عاجزًا عن التوقف والعودة إلى اليونان، “حينما كان المنهزمون أمامه يسألونه ماذا يريد من كل ذلك في نهاية المطاف، كان الإسكندر يجد صعوبة في الإجابة، لربما يُسلِط هذا الضوء على الجانب النفسي للحملات العسكرية الطويلة، والتي لا تنهك قوانا المادية فقط، بل وقدرتنا أيضًا على فهم ماهيتها ومعناها”.
***
بينما أخذ بروتيس يوزّع علينا الشاي الأخضر واللوز بعد النقاش، بالضبط كما فعل مستضيفوه من الأفغان في نورستان قبل خمس سنوات، سرحت بفكري حول الحروب مجددًا لأصل إلى سؤال آخر، بدايات الحروب سهلة، في حين سؤال متى نتوقف هو مهم كما رأينا، ولكن لعل السؤال الأهم هو ماهية أن نكون في وسط الحرب نفسها؟
المصدر: نيويورك تايمز