ترجمة وتحرير: نون بوست
يبدو أن تركيا تلعب أوراقها في جميع الاتجاهات. وبينما بات الكرملين منبوذا من قبل المجتمع الدولي منذ غزو أوكرانيا الذي بدأ قبل ستة أشهر، اغتنمت تركيا الفرصة لتعزيز مكانتها على الصعيد الدولي. وبناء على ذلك، وصف بعض المراقبين الرئيس التركي بأنه الفائز الأكبر من الحرب في أوكرانيا بعد تحقيق فوائد دبلوماسية لا يمكن إنكارها خلال الأسابيع الأخيرة.
خلال فترة نشاط دولي مكثف، استطاع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان التباهي بتبادل مصافحة ثلاثية قبل أقل من أسبوع في أوكرانيا مع الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، بعد ظهوره قبل أسبوعين إلى جانب فلاديمير بوتين خلال اجتماع ثنائي في سوتشي.
بقيادة عملية موازنة شديدة الإتقان حتى الآن بين الغرب وموسكو منذ نهاية شباط/ فبراير، نصبت أنقرة نفسها وسيطًا أساسيًا في الملف الأوكراني. ومن منطلق قوة العلاقات الودية مع الطرفين، نجح الجانب التركي بشكل ملحوظ في ضمان استئناف صادرات الحبوب الأوكرانية التي توقفت في البحر الأسود بعد اتفاق أبرم برعاية الأمم المتحدة مع الطرفين المتصارعين في نهاية تموز/ يوليو.
حسب إليونورا تافورو أمبروسيتي، الباحثة في مركز روسيا والقوقاز وآسيا الوسطى التابع لمعهد الدراسات السياسية الدولية: “سمحت الحرب لأنقرة بتأكيد وتعزيز عنصر الاتصال ولعب دور الوسيط لتحسين وضع وصورة تركيا في العالم وضمان الحصول على مكانة أكبر في مواجهة روسيا”.
بعيدًا عن عزلتها في الشرق الأوسط وعن شركائها الغربيين وعن حالتها كدولة منبوذة دوليًا منذ بداية العقد وحتى نهاية 2020، تفتح تركيا الآن ذراعيها أمام عدد من القادة خاصة الغربيين منهم. ولمضاعفة جهود الوساطة، يسعى رجب طيب أردوغان الآن للتفاوض، إلى جانب الأمين العام للأمم المتحدة، لوقف إطلاق النار بين كييف وموسكو من أجل تجنب خطر وقوع كارثة نووية مرتبطة بالعمليات العسكرية حول محطة الطاقة زابوريزهيا، الواقعة جنوب شرق أوكرانيا.
أجندة خاصة
من الواضح أن هذه الرهانات حاسمة بالنسبة لتركيا، التي تطل على البحر الأسود مع خمس دول أخرى وتخشى تداعيات الصراع على أمن المنطقة، وكذلك النفوذ الروسي في هذا الامتداد الاستراتيجي للمياه الغنية باحتياطيات الغاز.
توضّح الباحثة إليونورا تافورو أمبروسيتي: “لقد فرضت الحرب ضغوطا شديدة على السياسة الخارجية لأنقرة بسبب المخاطر التي تواجهها تركيا في ظل الوضع الأمني الحالي في البحر الأسود، ولأنها تخشى العواقب الأوسع للحرب على الاستقرار في مناطق أخرى مثل ناغورنو كاراباخ والشرق الأوسط”.
إذا كان لدى أنقرة الكثير لتخسره من خلال اللعب بالأوراق الغربية والروسية معًا، من الواضح أنها تمكنت من الاستفادة من موقعها الجغرافي ووساطتها المتميزة لجعلها رافعة تحرك سياستها الخارجية. وقدّمت تركيا، العضو في حلف شمال الأطلسي، تعهدات للحلف بإغلاق مضيق البوسفور والدردنيل أمام الأسطول البحري الروسي في نهاية شباط/ فبراير، مع زيادة التجارة مع روسيا في ظل العقوبات الغربية.
إن تركيا تتبع أجندتها الخاصة وقد تمكنت بفضلها في نهاية شهر حزيران/ يونيو من تعزيز مصالحها الوطنية من خلال رفع حق النقض (الفيتو) عن ترشيح السويد وفنلندا لعضوية الناتو مقابل تنازلات مختلفة تتعلق على وجه الخصوص بحزب العمال الكردستاني، الذي تصنفه أنقرة على أنه إرهابي. ولا شك أن المفاوضات بشأن اقتناء تركيا لطائرات مقاتلة أمريكية من طراز إف-16 في تقدم.
وحسب الباحثة في المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية داريا إيساتشينكو، فإن “السبب وراء عملية الموازنة التركية هو أن أنقرة بحاجة إلى كل من أوكرانيا والغرب من جهة وروسيا من جهة أخرى. ولا يمكن أن تحل علاقات تركيا مع روسيا محل علاقاتها مع الغرب والعكس صحيح”.
الانتخابات
من وجهة نظر أنقرة، التي تعتبر علاقتها الثنائية مع موسكو مهمة للاقتصاد وخاصة للسياحة والطاقة، فإن الحوار مع الكرملين أمر حاسم بشكل خاص للحفاظ على نفوذها جنوب القوقاز وقبل كل شيء وزنها في الملف السوري.
تضيف الباحثة أنه “دون روسيا، الأب الروحي لدمشق، ستكون تركيا غير قادرة على خدمة مصالحها”. ورغبة منها في طرد المقاتلين الأكراد من عدة مناطق شمال سوريا على طول حدودها، أصدرت السلطات التركية مؤخرا تصريحات غير متوقعة تدعم المصالحة بين المتمردين، الذي تدعمهم أنقرة، ونظام الأسد.
تأتي هذه التصريحات، التي تمثل علامة على احتمال تطبيع العلاقات بين الخصمين القدامى، بعد الاجتماع الروسي التركي في سوتشي الذي دفع فلاديمير بوتين خلاله الزعيمين التركي والسوري للتحدث عبر الهاتف. ويتبع ذلك سلسلة انتكاسات في السياسة الخارجية التي يتبعها الرئيس التركي في الأشهر الأخيرة، قبل أقل من عام من الانتخابات العامة المقرر إجراؤها في حزيران/ يونيو 2023 التي يبدو فوزه فيها غير محتمل وسط الأزمة الاقتصادية غير المسبوقة.
إذا كان من المرجح أن يمارس شركاء تركيا الغربيون أي نوع من الضغط على البلاد، فإن الضغط الشديد قد يؤدي إلى المخاطرة باستغلال الدولة للمشاعر المعادية للغرب لأغراض محلية
يقول كمال كيريشي، المتخصص في السياسة الخارجية التركية في معهد بروكينغز: “بينما تُظهر استطلاعات الرأي التركية بوضوح شديد أن جزءا كبيرا من السكان يرغبون في عودة اللاجئين السوريين بأعداد كبيرة إلى منازلهم، أدرك أردوغان أن الطريقة الوحيدة للقيام بذلك هي التوصل إلى اتفاق مع الأسد. وفي الوقت الذي تتفاقم فيه الأزمة الاقتصادية، التي تميزت بمعدل تضخم مرتفع بشكل استثنائي وانخفاض قيمة الليرة من المهم جدًا أن يجلب أردوغان النقد الأجنبي إلى البلاد وأن يُظهر لناخبيه أنه يدير سياسة خارجية ناجحة”.
على هذا النحو، حقق الرئيس التركي تقاربا مع دول الخليج العربي دون تقويض علاقته بإيران، حيث سافر في 19 تموز/ يوليو لحضور قمة ثلاثية مع موسكو، ومع أرمينيا، ومؤخرا مع “إسرائيل”. وبعد إعلانها قبل أسبوع عن استئناف علاقاتها الدبلوماسية مع “إسرائيل” وعودة السفراء إلى البلدين، لعبت تركيا، كالعادة، ورقة الموازنة باستقبالها يوم الإثنين رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، لتجديد التزامه بالدفاع عن الفلسطينيين. وإذا كانت السياسة الواقعية التي تنتهجها أنقرة فعالة حتى الآن، فذلك لا ينفي احتمال مواجهة عقبات قريبا إذا استمرت الحرب في أوكرانيا.
تعتقد الباحثة داريا إيزاتشينكو أنه “يمكن أن تعتمد عواقب الموقف التركي على أمرين: أولا، احتمال وجود توترات داخل الغرب من شأنها أن تسمح لأنقرة بمتابعة سياسة الردع المزدوجة (المساعدة العسكرية لأوكرانيا) والحوار (الحفاظ على الشراكة مع روسيا). ثانيا، إذا كان من المرجح أن يمارس شركاء تركيا الغربيون أي نوع من الضغط على البلاد، فإن الضغط الشديد قد يؤدي إلى المخاطرة باستغلال الدولة للمشاعر المعادية للغرب لأغراض محلية”.
المصدر: لوريون لو جور