حاول الاحتلال منذ عام 1967 فرض نظام التعليم الإسرائيلي على مدارس القدس، لكنه فشل أمام تكاتف المقدسيين لرفضه، لكنه اليوم يسير بخطوات تدريجية متسارعة ضمن سياسة مدروسة وبعيدة المدى لأسرلة كل القطاعات في مدينة القدس.
يبلغ عدد طلبة القدس بالمراحل الثلاثة الابتدائية والإعدادية والثانوية قرابة 100 ألف طالب وطالبة، يتوجه نصفهم إلى 146 مدرسة تتبع لمظلة التعليم الفلسطينية، وتشمل مدارس الأوقاف والمدارس الخاصة ومدارس وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، بينما يتوجه البقية إلى المدارس التابعة لإدارة وزارة المعارف الإسرائيلية وبلدية القدس وفق مركز الإحصاء الفلسطيني.
ويدرس الطلبة في بعضها المنهاج الفلسطيني المحرف (الذي يحتوي على معلومات مغلوطة بشأن التاريخ الفلسطيني)، فيما تختص أخرى بتعليم المنهاج الإسرائيلي من الصف الأول حتى الـ12، بينما يسعى الاحتلال لفرضه على البقية إلزاميًا.
ومنذ يوليو/تموز الماضي، تشهد المدارس في القدس إجراءات عقابية بسبب رفض تدريس المنهاج الإسرائيلي، حيث ألغت وزارة التربية والتعليم الإسرائيلية تراخيص ست مدارس بحجة “التحريض ضد دولة “إسرائيل” وجيشها”.
وشملت المدارس التي ألغي ترخيصها، الكلية الإبراهيمية التي تأسست عام 1931، ومدارس الإيمان بفروعها الخمس التي تأسست عام 1984، وتصنف المدارس على أنها خاصة أهلية وتضم أكثر من ألفي طالب وتتمتع بمعايير الجودة العالمية.
واقع المدارس الفلسطينية في القدس
مع بداية العام الدراسي 2018/2017، أعلنت بلدية الاحتلال في القدس أن عدد الطلاب الفلسطينيين الذين يدرسون المنهاج الإسرائيلي وصل حد 5800 طالب، يتوزعون على 12 مدرسة، وهو ارتفاع بنسبة 14% عن العام الذي سبقه.
أما في العام 2012، فقد كان عددهم يقارب 1400 طالب فقط، أي أن ارتفاعًا بنحو أربعة أضعاف حصل خلال 6 سنوات، أما في العام الدراسي 2019/2018 فبلغ عدد المدارس التي تدرس المنهاج الإسرائيلي 41 مدرسة تضم في صفوفها 7300 طالب، وقفز هذا العدد إلى 8300 طالب فيما ارتفعت عدد المدارس إلى 50 مدرسة.
وتترافق حالة الزيادة الحاصلة حاليًّا مع منع السلطة الفلسطينية من العمل في القدس وإغلاق مكتب التربية والتعليم الفلسطيني في القدس في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، وتخصيص الاحتلال لموازنات بملايين الشواكل عبر الخطة الخمسية التي أعدها لتهويد قطاع التعليم في المدينة.
خصص الاحتلال ميزانية تبلغ مليارين و100 مليون شيكل لتهويد القطاعات المختلفة في المدينة خلال خمس سنوات (2018 – 2022)، ويأتي على رأس الاستهداف تهويد وأسرلة النظام التعليمي في القدس بشكل كامل.
وفي قراءة لواقع التعليم في القدس التي أعدها المنتدى التربوي المقدسي، يتبين أن الميزانيات التي خصصها الاحتلال للسيطرة على قطاع التعليم في القدس بهدف أسرلته مرتفعة، فالمدارس العربية الفلسطينية، التي تبلغ 85 مدرسة و125 روضة أطفال، تمول بأكثر من 400 مليون دولار سنويًا حسب بعض التقديرات، أما المدارس الأهلية والخاصة وحدها تمول بما يقارب 40 مليون دولار.
وهذا التمويل يأتي من الضرائب التي يدفعها أهل القدس الفلسطينيون وتبلغ 30% من قيمة الضرائب المجباة من شقي المدينة، وهي ليست منة من الاحتلال، ومن المعروف إحصائيًا أنه يتم صرف 25% من الضرائب التي تجبى من القدس الشرقية على التعليم والصحة والبنى التحتية والباقي يعتبر ربحًا لدولة الاحتلال، رغم أن القانون الدولي يمنع جباية الضرائب ويجبر المحتل على تحمل مصاريف هذه القطاعات.
وتتضمن الخطة الجديدة تخصيص 120 مليون دولار بشكل سنوي، ما يعني 600 مليون دولار إضافية في الخمس سنوات القادمة، وقُسّمت الميزانية إلى: 700 مليون شيكل بشكل مباشر لقطاع التعليم الذي أفرد 87 مليون شيكل إضافية للمرافق التعليمية والفعاليات الداعمة والبرامج الخاصة، بالإضافة إلى توظيف 10 مفتشين جدد للمدارس العربية و30 عاملة وعامل اجتماعي.
بالإضافة إلى تخصيص 206 ملايين شيكل للتعليم اللامنهجي بعد الدوام، حيث سيتم تحويل المدارس نفسها إلى مراكز مجتمعية بعد الدوام لفرض أنشطة مدروسة في بيئة ليست غريبة على الطالب، وتخصيص 30 مليون شيكل للعمل على الطلاب المميزين وفتح صفوف خاصة بهدف استقطابهم ودمجهم بمؤسسات التعليم العالي الإسرائيلي.
بالإضافة إلى 2000 منحة جامعية للطلاب الفلسطينيين في الجامعات الاسرائيلية وتسهيل دخولهم إلى الجامعة، وإفراد ميزانيات لتعليم اللغة العبرية ومدارس مهنية للطالبات، وذلك بهدف دمجهم في المجتمع الإسرائيلي وإقناعهم بأن الحصول على تعليم جامعي يضمن لهم وظائف محترمة في المستقبل، فهذه الأدوات والميزانيات هي بمجموعها وسائل للسيطرة على الطلاب الفلسطينيين وذويهم وعلى المؤسسات التعليمية في مدينة القدس.
الثقافة والوطنية والدين في مرمى الاستهداف
اضطرت السيدة نادية عمرو إلى الانتقال وعائلتها من مدينة القدس إلى مدينة اللد في الداخل المحتل، بسبب معاناة أبنائها داخل المدارس المقدسية.
تقول لـ”نون بوست”: “محاولة للحفاظ على ما تبقى من هويتنا والمنهاج التعليمي الذي يتعرض لهجمة بفعل السياسة العنصرية منذ 2018، قررنا الانتقال إلى مكان آمن بعيدًا عن خرق الهوية الفلسطينية من الاحتلال الإسرائيلي وما يحاول فرضه على المنهاج الفلسطيني وتحريف التاريخ والمصطلحات الوطنية”.
وأضافت “انتقل أبنائي الثلاث إلى مدارس مسيحية خاصة رغم أنها مكلفة ماديًا، لأنني أبحث عن جودة التعليم بعيدًا عن الصراعات في المنهاج وكذلك ملاحقات جنود الاحتلال للطلبة واعتراض طريقهم في أثناء ذهابهم أو خروجهم من المدرسة”.
وأكدت أن العبء زاد على الأهالي بسبب محاولات الاحتلال أسرلة التعليم الفلسطيني، فالحمل زاد على الأهل أكثر في تعزيز الهوية الفلسطينية وترسيخها في عقول أبنائهم الطلبة أمام المغريات التي يقدمها الاحتلال.
أما المحامية والباحثة في شؤون التعليم في القدس المحتلة ولاء أبو عصب فقد أفادت أن اتجاه المدارس خلال السنوات الأخيرة للتعليم بالمنهاج الإسرائيلي أضر كثيرًا بالطلبة الفلسطينيين وهو ما يتضح على الطلبة بشكل واضح.
وتقول أبو عصب لـ”نون بوست” إنها وعبر مراقبتها للطلبة فإن التحريف والتغيير في المنهاج أدى إلى خلل واضح في أبسط المعلومات على الصعيد المتعلق بالتربية الإسلامية الذي يتضمن سيرة النبي محمد عليه الصلاة والسلام وأهل بيته، إلى جانب بعض القضايا الوطنية.
لكن بحسب الباحثة في شؤون القدس فإنه ورغم المنهاج التعليمي الذي يتضمن تحريفًا واضحًا، فإن الشباب في طليعة أي هبة جماهيرية أو حدث كبير تشهده المدينة، رغم المحاولات الإسرائيلية للتجهيل.
وتشير إلى أن الاحتلال يركز في استهدافه للتعليم الفلسطيني على أي شيء متعلق بالقضايا الوطنية ويسعى لمحو قضايا النكسة أو النكبة أو المذابح التي تعرضت لها القرى المهجرة عام 1948، وفرض ما يسمى بـ”البيغروت” الإسرائيلي الذي ينفي أي وجود فلسطيني ويتحدث بلهجة يهودية بحتة.
ووفق أبو عصب فإن التعليم في القدس ينقسم إلى 5 أقسام وهي:
– المدارس الخاصة: تعتبر الشريحة الكبرى ويلجأ لها معظم المقدسيين للهروب من البيغروت ومن أجل الحفاظ على وطنية أبنائهم وهويتهم التاريخية في المدينة، إلا أن هذه المدارس تعاني حاليًّا ماديًا وسياسيًا ومعنويًا.
– المدارس الإسرائيلية.
– الحضانات ورياض الأطفال التي هي أقل من التعليم الأساسي.
– المدارس التابعة للسلطة وهي بمباني أوقاف أردنية وعددها محدود.
– مدارس الأونروا وتتلاشى منذ عام 2019 بعد قرار بتقليص وجودها في المدينة.
السلطة خارج الصورة
منذ أن أغلق مكتب التعليم بقرار إسرائيلي في القدس المحتلة، تبدو السلطة الفلسطينية خارج الصورة باستثناء تصريحات إعلامية تصدر عن حكومتها برئاسة محمد أشتية، تحت ذريعة أنها غير قادرة على العمل في القدس.
ولم يصدر عن السلطة أي قرارات من شأنها دعم المدارس الخاصة ماليًا لمواجهة أي مخاطر بفرض التعليم الإسرائيلي على الطلبة، أو اتخاذ إجراءات دولية من شأنها عدم فرض المنهاج على الطلبة الفلسطينيين في المدينة.
وتكتفي السلطة بالدور المراقب مع بعض الإدانات الرسمية والشعبية التي تصدر عن مؤسساتها هي ومؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية، فيما يعمل الاحتلال الإسرائيلي على فرض واقع جديد على الصعيد التعليمي في المدينة.
إذًا، يبدو أن الفلسطينيين في القدس المحتلة يواجهون خطة إسرائيلية للسيطرة على المنظومة التعليمية بالكامل، مستغلين حالة الغياب والصمت الرسمي والدولي وهو الأمر الذي يشكل خطورة حقيقية على الأجيال الناشئة، ولا يبدو أن ثمة متغيرات حقيقية ستكون مطروحة خلال الفترة المقبلة للتصدي للخطط الإسرائيلية على صعيد المؤسسات الرسمية، وستنحصر الأمور في تعامل شعبي أو خاص من أصحاب المدارس الخاصة في القدس المحتلة.