فصل جديد من التوتر تشهده الجارتان، تركيا واليونان، على خلفية التحرش الجوي والبحري بينهما، إثر إعلان أنقرة عن تحرش مقاتلات “إف 16” يونانية بمقاتلات “إف 16” تركية تقوم بمهام لحلف الشمال الأطلسي (الناتو) في شرق المتوسط، حيث فتحت الطائرات اليونانية راداراتها وتعقبت المقاتلتين التركيتين باعتبارهما أهدافًا معادية، بحسب ما نقلته وسائل إعلام عن وزارة الدفاع التركية، الخميس 25 أغسطس/آب الحاليّ.
وقبل ذلك بيومين، وفي 22 من الشهر الحاليّ، تعرضت طائرات تركية سابقة للتحرش من مقاتلات يونانية في أثناء أدائها مهمة شرق المتوسط، حسبما ذكرت وكالة “الأناضول” التركية الرسمية، فيما لم يصدر أي بيان عن الجانب اليوناني إزاء تلك المناوشات التي تنذر بمزيد من التصعيد بين الجانبين.
تأتي تلك التحرشات اليونانية بعد أيام قليلة من إرسال أنقرة سفينة “عبد الحميد خان” للتنقيب عن الغاز في شرق المتوسط، وهو ما أثار حفيظة أثينا رغم إعلان الجانب التركي إرساله للسفينة التي تعد واحدة من أكبر خمس سفن تنقيب في العالم، في مناطق غير خلافية وبعيدة عن مسارات التوتر بين البلدين.
لم تكن حادثتا التحرش بين البلدين الوحيدتين، إذ شهدت الأشهر الماضية تبادل الاتهامات بشأن انتهاكات ومناوشات عدة في المجال الجوي والمياه الإقليمية، هذا بجانب التحرشات التقليدية التي تتم بشكل دوري في بحر إيجه، الأمر الذي تتصاعد معه المخاوف من نشوب مواجهات عسكرية بين الدولتين رغم جهود الاحتواء والوساطة المبذولة لتبريد الأجواء المتوترة.. فما خيارات تركيا للرد على تلك المناوشات؟
صمت يوناني يثير حفيظة أنقرة
انتظرت أنقرة، لقرابة 24 ساعة، الرد اليوناني على الاتهامات الموجهة إليها بالتحرش بمقاتلاتها، وهو ما لم يحدث، ما أجبر وزير الدفاع التركي خلوصي آكار، للخروج ببيان رسمي، الجمعة 26 أغسطس/آب 2022، لكشف تفاصيل العمليتين الأخيرتين وفضح الانتهاكات اليونانية المستمرة.
استهل آكار بيانه بتبرير مشاركة مقاتلات بلاده في مهمة الناتو، قائلًا: “في 2 يوليو/تموز الماضي، طلبت الولايات المتحدة من تركيا المشاركة في حماية قوات الناتو ضمن مناورات تجري في المنطقة، عبر مشاركة 4 مقاتلات إف 16 ومروحية وطائرة تزويد بالوقود، وتم ذلك وفق أصول العمل ضمن الناتو وإبلاغ دول الحلف عبر مركز عمليات الأخير في إسبانيا”.
ثم انطلق للحديث عن واقعة التحرش الجوي من المقاتلات اليونانية، موضحًا أنها “جرت في 22 أغسطس/آب الحاليّ، إذ غيّرت اليونان في آخر لحظة مسار المقاتلات المحدد سابقًا، راغبة بأن تمر فوق الجزر ببحر إيجة التي يجب ألا تكون مسلحة، من أجل دخول الناتو هذه المنطقة، في خرق لاتفاقية لوزان (معاهدة دولية تم توقيعها في 24 يوليو/تموز 1923، وجرى بموجبها ترسيم الحدود الفاصلة للأراضي التركية عن اليونان)، فجرى تغيير المسار وحصلت حادثة التحرش”.
يمثل النزاع التركي اليوناني صداعًا للاتحاد الأوروبي والناتو بوجه عام، إذ ليس هناك إجماع موحد داخل التحالف بشأن ملف شرق المتوسط، فهناك انقسام تعززه عدة توجهات سياسية لبعض الدول
واستنكر وزير الدفاع التركي مبررات أثينا باستهداف المقاتلات التركية بأن الأخيرة لم تُبلغهم بطلعاتها، فجرى تقييمها على أنها طائرات مجهولة مستهدفة، منوهًا أنه “في ذلك التاريخ، كانت لنا مهام مرافقة الطائرات الأمريكية، وفي الأيام المقبلة للطائرات اليونانية نفس المهام، فمن المستحيل ألا تعرف اليونان بالمهام الموكلة للمقاتلات التركية”.
أما الواقعة الثانية فكانت في 24 من الشهر الحاليّ، أي بعد يومين فقط من الواقعة الأولى، “عندما كانت هناك مهام للمقاتلات التركية ضمن تدريبات نيكسوس إس للناتو، وهنا أيضًا من غير الممكن ألا يُعرف بأن المقاتلات التركية لديها مهام ضمن الناتو، إذ تُنشر المهام قبل أشهر، وهناك ضوابط مكتوبة”، لافتًا إلى أنه “عند حصول الحادثة الأولى في 22 أغسطس/آب، التقى وزير الخارجية مولود جاووش أوغلو مع سفيري أمريكا جيفري فليك واليونان هريستودولوس لازاريس لدى أنقرة”.
جهود لاحتواء الموقف
يبذل حلف الناتو في الآونة الأخيرة جهودًا دبلوماسية حثيثة لاحتواء الوضع بين الدولتين الجارتين العضوين بالتحالف، في محاولة لعدم تصاعد التوتر بينهما، في ظل موقعهما الإستراتيجي المهم والمهام الموكلة لهما لدعم أجندات الحلف في الشرق الأوسط، بما يهدد مصالحه حال نشوب أي صدام حدودي.
وكانت آخر تلك الجهود المبذولة الزيارة التي قامت بها وزيرة الخارجية الألمانية أنالينا بيربوك، أواخر يوليو/تموز 2022 إلى كل من أنقرة واليونان، وأكدت خلالها على أنه “يجب حل أي مشاكل من خلال المباحثات، وليس من خلال تصعيد أوجه التوتر”، محبذة الدبلوماسية كطريق وحيد لحلحلة الأزمة.
ومن قبلها دعا أمين عام حلف شمال الأطلسي (الناتو)، ينس ستولتنبرغ، إلى تغليب الحوار كخيار أساسي لخفض التوتر القائم شرقي البحر الأبيض المتوسط، مضيفًا في تصريحات أن “تركيا واليونان حليفان مهمان في الناتو منذ سنوات، علينا أن نجد طريقة لحل الوضع شرقي المتوسط على أساس روح التحالف والقانون الدولي”، مؤكدًا على إجراء الحلف اتصالات مستمرة مع البلدين للتوصل إلى حلول مرضية”.
ويمثل النزاع التركي اليوناني صداعًا للاتحاد الأوروبي والناتو بوجه عام، فليس هناك إجماع موحد داخل التحالف بشأن ملف شرق المتوسط، فهناك انقسام تعززه عدة توجهات سياسية لبعض الدول، ففي الوقت الذي تميل فيه باريس ناحية الكفة اليونانية، هناك بعض العواصم تتجنب الولوج في فخ الاستقطاب، مطالبة بالدبلوماسية والحوار السياسي كأرضية لتخفيف التوتر بين حلفين مهمين للناتو.
هل ترد أنقرة؟
تقف أنقرة في موقف حرج بين الرد على التحرشات اليونانية والتزام الصمت، إذ تعلم جيدًا أن ما يحدث ضمن خطة يونانية لاستفزازها بما يخرجها عن مسار الدبلوماسية التي تنتهجه مؤخرًا، ما يمكن توظيفه لاحقًا لخدمة الأجندة اليونانية التي تستهدف تضييق الخناق على تركيا وتشويه صورتها لدى الاتحاد الأوروبي.
أي رد عسكري تركي إزاء تلك المناوشات سيعزز الموقف اليوناني الرافض لصفقة المقاتلات الأمريكية “F16” ويرجح صحة ادعاءاتها بتهديد أنقرة لها، ما يجبر الغرب على إعادة النظر في صفقات التسليح المبرمة مع الجانب التركي التي كانت مثار جدل خلال الآونة الأخيرة وساهمت في تفاقم التوتر بين الدولة التركية وأوروبا وأمريكا بوجه عام.
وفي السياق ذاته تتجنب أنقرة فتح أي ملفات توتر جديدة في الوقت الحاليّ، في ظل ما تتبناه من سياسة “تصفير الأزمات وتجميدها” مؤخرًا كإحدى الإستراتيجيات الجديدة التي لجأت إليها الحكومة التركية والرئيس رجب طيب أردوغان، إعدادًا للانتخابات القادمة، وفي محاولة لوقف النزيف الاقتصادي وعدم منح المعارضة أي فرص إضافية لتحقيق مكاسب سياسة على حساب الحزب الحاكم “العدالة والتنمية”.
تستند أثينا في تصعيدها الحاليّ مع جارتها إلى قناعتها بعدم لجوء الناتو إلى التصعيد في الوقت الحاليّ في ظل رغبته الملحة بتجنب أي شقاق في جدرانه
كما يمكن للحكومة التركية توظيف التطورات الأخيرة في بحر إيجة وشرق المتوسط في تبني خطاب سياسي موجه من نوع خاص، تغازل به الداخل والخارج على حد سواء، يهدف إلى تبرئة ساحة أنقرة أمام المجتمع الدولي بشأن الاتهامات اليونانية المستمرة بانتهاك أنقرة لأمنها القومي، والتأكيد على ميلها للخيار الدبلوماسي وهو ما يضع أثينا في مأزق دولي، وعلى الجانب الآخر تعزيز شعبية الحزب الحاكم من خلال تصديره كـ”حامي الحمى” في مواجهة التهديدات التي تواجه البلاد وتقوض مواردها المائية ومصادر الطاقة لديها.
وبجانب الدوافع التركية في التزام الدبلوماسية مرحليًا، تستند أثينا في تصعيدها الحاليّ مع جارتها إلى قناعتها بعدم لجوء الناتو إلى التصعيد في ظل رغبته الملحة بتجنب أي شقاق في جدرانه يقوض جهوده لا سيما في الوقت الحاليّ، حيث المهام الإضافية التي فرضها النزاع مع المعسكر الشرقي بقيادة روسيا في أعقاب الحرب الأوكرانية الأخيرة، التي تتطلب تماسك التحالف وترميم أي شقاقات داخلية، على الأقل خلال تلك الفترة وحتى إشعار آخر.
في ضوء ما سبق، بات من الواضح أن وقائع التحرش الحاليّة بين تركيا واليونان كما أنها لم تكن الأولى فإنها لن تتوقف، في ظل النزاع المتصاعد بينهما بشأن أحقية كل منهما في مياه وموارد شرق المتوسط وحدود السيادة وحجم التسليح في جزر بحر إيجة، لكنه التحرش المحكوم بخطوط حمراء تجنبًا لأي تجاوز يقود إلى صدام مسلح، وهو ما لن يكون في صالح الطرفين.