مرت أكثر من 5 سنوات على انتهاء العمليات العسكرية التي أفضت إلى استعادة القوات العراقية السيطرة على جميع المدن والأرضي التي احتلها تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” منذ يونيو/حزيران 2014 واستمر بالسيطرة عليها حتى نهاية عام 2017.
خلال هذه المدة الزمنية شهدت المدن العراقية مئات حالات الاختفاء القسري أو ما بات يعرف بـ”ملف المغيبين” الذي يعرفون على أنهم المدنيون العراقيون الذين تعرضوا للاعتقال من جهات مسلحة في السيطرات الأمنية ونقاط التفتيش دون أن يعرف ذووهم الجهة التي اعتقلتهم أو مصيرهم بعد سنوات على الحوادث التي وقعت في العديد من المناطق.
ملف التغييب القسري
لم يكن العراقيون يعرفون ملف التغييب القسري حتى عام 2006 أي بعد ثلاثة أعوام من الغزو الأمريكي للبلاد عام 2003، حيث ومع بداية الفتنة الطائفية في العاصمة بغداد وبقية المدن العراقية تعرض آلاف العراقيين للاختطاف أو التغييب القسري من مجموعات مسلحة تعرف عراقيًا بـ”الميليشيات” أو من قوات عسكرية ترتدي زي القوات الأمنية العراقية كالشرطة الاتحادية وغيرها.
يقول المحلل الأمني العراقي حسن العبيدي في حديثه لـ”نون بوست” إن الفترة الممتدة بين فبراير/شباط 2006 ونوفمبر/تشرين الثاني 2008 شهدت أعنف المراحل التي شهدها العراقيون قبل أزمة داعش، فقد قتل واختطف آلاف العراقيين دون أن يعلم ذووهم مصيرهم حتى الآن.
وعن الجهة التي كانت وراء هذه العمليات، أوضح العبيدي أن جيش المهدي وفيلق بدر كانا أبرز الجهات المسلحة التي قتلت واختطفت الآلاف من سكان بغداد والبصرة وأخفتهم أو أعدمتهم دون سبب يذكر سوى انتمائهم المذهبي، وهو ما يؤكد أن عمليات الإخفاء القسري تعد قضية قديمة ولم تبدأ مع عمليات تحرير المدن الشمالية والغربية من داعش.
لم تكن الحكومة العراقية ووزارة الداخلية على وجه التحديد حريصة في وقتها على تسجيل هذه الحوادث تحت بند الاختطاف، وإنما كانت تعدها حوادث جنائية
أما عن أعداد أولئك الذين قتلوا أو اختطفوا، فيشير العبيدي إلى أنه لا توجد إحصاءات دقيقة بهذا الصدد، وهو ما تؤكده مفوضية حقوق الإنسان التي أشار أحد مسؤوليها في حديثه لـ”نون بوست” إلى أنه لا توجد إحصاءات عن هذه الحوادث.
وأضاف المسؤول – اشترط عدم كشف هويته – أن الحكومة العراقية ووزارة الداخلية على وجه التحديد لم تكن حريصة في وقتها على تسجيل هذه الحوادث تحت بند الاختطاف، وإنما كانت تعدها حوادث جنائية، وبالتالي لا توجد أي إحصاءات عنها.
المغيبون بعد احتلال داعش
كانت سيطرة تنظيم داعش على ثلث مساحة الأراضي العراقية واقعة صادمة للمجتمع العراقي والمجتمع الدولي، ومع بدء عمليات تحرير المناطق العراقية من التنظيم بعد قرابة العامين على بدء احتلاله للبلاد، سجلت الوكالات المعنية بحقوق الإنسان آلاف حالات التغييب القسري.
يعرّف القانون الدولي الإخفاء القسري على أنه “توقيف شخص ما على يد مسؤولين في الدولة أو وكلاء للدولة، أو على يد أشخاص أو مجموعات تعمل بإذن من السلطات أو دعمها أو قبولها غير المعلن، وعدم الاعتراف بالتوقيف أو الإفصاح عن مكان الشخص أو حالته”.
وطالبت الأمم المتحدة العام الماضي بإجراء تحقيقات مستقلة وفعالة لتحديد مصير آلاف المغيبين والمخفيين، وتحديد الجهات التي تعتقلهم وأماكن احتجازهم، من الذين لا يعلم ذووهم عنهم شيئًا منذ سنوات.
وتقف السلطات الحكومية مكتوفة الأيدي تجاه هذا الملف، خاصة بعد أن أصدر رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي توجيهًا نهاية عام 2020 لوزارة الداخلية بالكشف عن مصير المغيبين والمختطفين.
تضارب في أعداد المغيبين قسريًا
بحسب اللجنة الدولية للصليب الأحمر فإن العراق يعد واحدًا من البلدان التي يوجد فيها أكبر عدد من الأشخاص المفقودين بالعالم، إذ تقدّر اللجنة الدولية للصليب الأحمر الدولي أن العدد قد يتراوح منذ عام 2016 إلى 2020 بين 250 ألفًا ومليون شخص.
أما المستشار القانوني في المرصد الدولي لتوثيق انتهاكات حقوق الإنسان فيصل الجابري فأكد من جانبه أن أعداد المغيبين قسريًا في مدينة الموصل وصل أكثر من 8 آلاف شخص منذ عام 2014 وأن العدد الأكبر منهم محتجز قسريًا لدى الحكومة والمليشيات، فيما أوضح أن عدد المغيبين في قضاء الدور بمحافظة صلاح الدين من المليشيات يبلغ أكثر من 15 ألف معظمهم في سجون سرية تابعة للمليشيات، وبالاتجاه إلى محافظة الأنبار فإن – بحسب الجابري – هناك ما لا يقل عن 3 آلاف مغيب، أما في ديالى فيبلغ عدد المغيبين زهاء ألفي شخص.
وفي حديثه لإحدى وسائل الإعلام يضيف الجابري أن هذه العمليات الإجرامية لم تتوقف بانتهاء النزاع المسلح مع تنظيم داعش، إذ ومع انطلاق التظاهرات في بغداد ومحافظات الجنوب نهاية عام 2019 حدثت عمليات تغييب للناشطين والصحفيين، فقد وثق المرصد أكثر من 75 حالة تغييب قسري لناشطين ومدنيين من ساحات التظاهر ولم يطلق سراحهم إلى الآن، فضلًا عن عدم معرفة مصيرهم.
ما الجهات التي تقف وراء الإخفاء القسري؟
بحسب منظمة هيومن رايتس ووتش وبحسب الشهادات التي وثقتها المنظمة من خلال لقاءات مع ذوي المغيبين، فإن المنظمة أوردت في تقريرها أن جهات كثيرة تقف خلف هذه العمليات منها وحدات في هيئة الحشد الشعبي والشرطة الاتحادية وأيضًا الجيش العراقي، فضلًا عن إخفاء قسري من إقليم كردستان في محافظة كركوك في عام 2017.
مجموعات من كتائب حزب الله وقوات من الجيش العراقي كانت المسؤولة المباشرة عن أعمال القتل والخطف وتفجير المحال التجارية والأسواق والمساجد
ولتحديد الجهات المسؤولة عن التغييب القسري في العراق، نشرت هيومن رايتس ووتش تقريرًا مفصلًا في 30 سبتمبر/ أيلول 2015 عقب استعادة القوات العراقية السيطرة على مدينة تكريت (مركز محافظة صلاح الدين) شمال بغداد، حيث اتهمت المنظمة ميليشيات مسلحة بأعمال القتل الوحشية التي وقعت في مدن محافظة صلاح الدين وهي كل من فيلق بدر ولواء علي الأكبر وعصائب أهل الحق وكتائب حزب الله وسرايا الخرساني وجند الإمام وجميعها تتبع الحشد الشعبي.
أما في مدينة الدور بمحافظة صلاح الدين، أكدت المنظمة أن مجموعات من كتائب حزب الله وقوات من الجيش العراقي كانت المسؤولة المباشرة عن أعمال القتل والخطف وتفجير المحال التجارية والأسواق والمساجد، وأن هذه الأعمال الوحشية – بحسب وصف المنظمة – لم يكن لها ما يبررها لا سيما أنها استمرت إلى ما بعد استعادة المنطقة من داعش.
وفي محافظة الأنبار فهناك ما يقرب من 715 شخصًا لا يزالون مغيبين بفعل اختطافهم من منطقة الرزازة وحدها، إذ يتحدث الناشط عمر آغا عن أكثر من 700 شخص غيبوا في هذه المنطقة فقط، مضيفًا “رغم أنهم هربوا من بطش عصابات داعش إلى العاصمة بغداد، فإن المعلومات المؤكدة تثبت تورط ميليشيات كتائب حزب الله في تغييبهم، وأن هذا الفصيل المسلح مسؤول عن اختطاف هؤلاء المدنيين من أهالي مدينة الفلوجة ومن ثم الرمادي وقضاء هيت”.
ويضيف آغا أن غالبية رجال ناحية الصقلاوية المختطفين تعرضوا للاختطاف والتغييب بعد دخول قوة تابعة للحشد الشعبي إلى الناحية في أثناء العمليات العسكرية لتحرير المنطقة من داعش، موضحًا أن في مدينة القائم الحدودية غربي محافظة الأنبار اختطفت قوة ترتدي زي داعش أكثر من ألفي شخص بعد تحرير المدينة بأشهر، ولا يزال ذووهم يطالبون السلطات بكشف ملابسات الحادثة، فأغلب المختطفين منتسبون للشرطة الاتحادية وعادوا إلى المدينة بعد سيطرة الفصائل المسلحة عليها وخروج داعش.
ملف شائك وصمت حكومي
بعد مرور أكثر من 5 سنوات على استعادة القوات العراقية السيطرة على جميع الأراضي العراقية، لا تزال الحكومات المتعاقبة في بغداد تقف عاجزة عن حل هذه المعضلة وسط عدم اعتراف من الأجهزة الحكومية بوجود مغيبين.
وفي هذا الصدد، يقول الباحث الأمني رياض العلي في حديثه لـ”نون بوست”: “مما لا شك فيه في العراق أن هناك آلاف حالات التغييب القسري التي بدأت الأيام تكشف عن مصيرهم”.
وأكد العلي أنه وقبل أشهر من الآن عثر مجموعة من العمال في مجال البناء على مقبرة جماعية تضم رفات أكثر من 110 ضحايا من بينهم نساء وأطفال صغار في موقع جنوب مدينة الفلوجة، مبينًا أن الموقع الذي اكتشفت فيه المقبرة لم تصل إليه قوات تنظيم داعش وأن أقرب منطقة سيطر عليها التنظيم كانت تبعد أكثر من 4 كيلومترات عن موقع المقبرة الجماعية.
ويستدل العلي من خلال هذه الحادثة على أن الإعدامات الجماعية للمغيبين قسريًا كانت بفعل القوات النظامية والميليشيات التي كانت تدخل للمناطق المحررة وتختطف منها المدنيين أو من خلال اعتقال المدنيين خلال محاولتهم الهروب من سيطرة تنظيم داعش لا سيما في منطقة سيطرة الصقور وسيطرة بزيبز سيئة الصيت.
لا يزال ملف المغيبين في العراق يراوح مكانه بعد أكثر من 5 سنوات على انتهاء العمليات العسكرية في العراق وعودة الأمن والاستقرار للمدن التي كانت خاضعة لتنظيم داعش
ويعتقد العلي أن أبرز الميليشيات التي شاركت في الاختطاف والتغييب القسري والإعدام لهؤلاء هي كل من كتائب حزب الله العراقية وميليشيا فيلق وبدر وميليشيا عصائب اهل الحق وكتائب الإمام علي وميليشيا سيد الشهداء وهذه جميعها شاركت في الدخول للمناطق المحررة وكانت موجودة في السيطرات الفاصلة بين المناطق التي كان يسيطر عليها تنظيم داعش وتلك المناطق التي تخضع للحكومة العراقية.
استغلال لقضية المغيبين
رغم أن العديد من المنظمات الدولية وثقت بالأدلة وجود آلاف المغيبين قسريًا في السجون التابعة للميليشيات أو الأجهزة الحكومية، فإن الحكومة العراقية لا تزال تصر على عدم وجود ملف للمغيبين، مما حدا بالبرلمان وبضغط من بعض النواب لتشريع قانون للمختفين والمفقودين، إذ عادة ما يثار ملف المغيبين من نواب ومسؤولي المناطق المحررة لأجل استغلال الملف في الحملات الانتخابية وذلك بحسب ما يؤكده المراقبون للشان العراقي.
ورغم البعد الإنساني لقضية المغيبين قسرًا، فإن المحلل السياسي علي البيدر لا يخفي استغلال البعض له لأغراض سياسية وانتخابية انطلاقًا من العزف السياسي على ملفات الصراع الطائفي والمذهبي والعرقي في البلاد المستمر منذ عام 2003.
ويصف البياتي المساعي الحكومية تجاه هذه القضية بالخجولة، موضحًا أن الحكومة قد تكون متواطئة في هذه الملفات، كونها تخص مكونًا معينًا في العراق يعدّ الأشد ضعفًا من بين المكونات الرئيسة الأخرى حاليًّا، وهو المكون السني، موضحًا أن السلوك الحكومي غير الجاد تجاه هذه القضية يكشف عن عدم تفاعل الأجهزة الحكومية مع حجم الكارثة وأعداد الضحايا الذين تصل أعدادهم للآلاف وهم ممن اختطفوا لدى وصولهم للحواجز الأمنية التي كانت تديرها الميليشيات على أبواب المدن بتهمة الانتماء لتنظيم داعش.
لا يزال ملف المغيبين في العراق يراوح مكانه بعد أكثر من 5 سنوات على انتهاء العمليات العسكرية في العراق وعودة الأمن والاستقرار للمدن التي كانت خاضعة لتنظيم داعش، ملف يبدو أن للسياسة دورًا كبيرًا فيه وسط غياب الإرادة الحكومية أو عجزها عن فتح هذا الملف واقتصار الإجراءات الحكومية على إصدار البيانات والتعهدات وتشكيل لجان للمتابعة دون أي نتائج تذكر.