شهدت الأيام الثلاث الماضية تصاعدًا ملحوظًا في الهجمات التي شنتها الولايات المتحدة على مواقع عسكرية تعود لفصائل مسلحة تابعة لإيران شرقي سوريا، أبرزها فصائل عراقية وأفغانية، هذه الهجمات جاءت بعد أمر رئاسي أصدره الرئيس الأمريكي جو بايدن بشن هجمات على مواقع عسكرية تحتوي على أسلحة وذخائر في مناطق الميادين وألبو كمال على الحدود العراقية السورية، التي هددت وجود القوات الأمريكية المتمركزة في قاعدة عسكرية قرب حقل العمر النفطي شرقي دير الزور، بعد هجوم صاروخي شنته هذه الفصائل، على القاعدة الأمريكية في التنف بسوريا بطائرتين دون طيار في 15 أغسطس/آب 2022، أوقعت إصابات طفيفة في صفوف القوات الأمريكية.
وعلى الرغم من أن الهجمات التي شنتها القوات الأمريكية، إلى جانب هجمات أخرى شهدتها منطقة مصياف في طرطوس غرب سوريا نفذها الطيران الإسرائيلي ليلة الجمعة، تعكس فجوة كبيرة بين الجانبين الأمريكي والإيراني اللذين يستعدان لتوقيع صفقة نووية جديدة، فإن الرفض الأمريكي لمسألة إخراج الحرس الثوري من لائحة المنظمات الإرهابية الأجنبية، قد دفع إيران للعودة مرة أخرى للمشاكسة الإقليمية عبر أذرعها المسلحة، من أجل إيصال رسالة واضحة للإدارة الأمريكية، بأن التعامل مع الحرس الثوري كمنظمة إرهابية قد يجعل الولايات المتحدة تتحمل تكلفة إستراتيجية كبيرة، ولا بد من إعادة النظر في رفضها.
فضلًا عن ذلك، تشير التحركات الإيرانية الأخيرة في سوريا، إلى أنها على ما يبدو تريد استباق الاستحقاق النووي، عبر تشكيل وضع جديد في سوريا يخدم نفوذها في المرحلة المقبلة، حيث إن سريان الاتفاق النووي بشروطه الحاليّة، سيجعل إيران تواجه واقعًا إقليميًا صعبًا للغاية، كما أن مسألة دعم حلفائها قد تجعلها تتحمل ضغوط أخرى، في ظل قبولها ببقاء الحرس الثوري كمنظمة إرهابية، هذا إلى جانب أنها لا تريد أن تترك الساحة السورية دون أن تمثل إزعاجًا واضحًا للجانب الإسرائيلي.
ولعل مسألة إعلانها الأخير عن تأجيل الجولة الجديدة من الحوار السعودي الإيراني في بغداد، حسبما أعلن ذلك سفير إيران لدى الكويت محمد إيراني، قد يندرج هو الآخر في سياق عدم تقديم أي التزام للجانب السعودي طالما لم يحسم الجدل بشأن الحرس الثوري.
إيران في حلقة مفرغة
إن الإشكال الرئيسي الذي تواجهه إيران، هو أن الولايات المتحدة على ما يبدو فهمت الدرس جيدًا، فهي لم تعد تحبذ مسألة تنفيذ هجمات في الداخل العراقي كما جرت العادة، وإنما بدأت تولي أهمية كبيرة للمناطق الرمادية، وتحديدًا على طول الحدود العراقية السورية، حيث تنعدم مظاهر السيادة والوجود الروسي، وهو ما يوفر للولايات المتحدة فرصة الانفراد بأذرع إيران دون تداعيات خطيرة.
كما أن إيران هي الأخرى ليست قادرة حتى اللحظة على الاعتراف أو حتى التنديد بالهجمات، وهو ما جاء تأكيده على لسان المتحدث باسم الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني، الذي أشار في المؤتمر الصحفي الأخير إلى أن إيران ليس لها علاقة بالمواقع التي يتم قصفها في سوريا، ووصف الضربات الأمريكية بالانتهاك للسيادة السورية وسلامة أراضيها.
الولايات المتحدة وافقت على جزء مهم من مطالب طهران بشأن إحياء الاتفاق النووي
إن التحركات العسكرية، وتحديدًا الإسرائيلية داخل سوريا، مؤشر مهم للغاية – لكنه ليس السبب الرئيسي – على شبح الصراع المسلح غير المباشر الذي بدأ يلوح في الأفق، وفي واقع الأمر، وبصرف النظر عن قرار الولايات المتحدة هذا الأسبوع، والخاص بالتصعيد ضد أذرع إيران، فإن التطورات الإقليمية والدولية الأخرى تشير إلى أن الظروف باتت ضد إيران، ولا بد أن نؤكد هنا، على أن إيران أصبحت أكثر إلحاحًا بتوقيع الاتفاق النووي، دون الاكتراث لما يتعرض له حلفاؤها في سوريا أو العراق، فالتطورات الخارجية والداخلية المتعلقة بإيران، توحي بأن إيران لم تعد مهتمة كثيرًا.
ومن جهة أخرى، فإن الشعب الإيراني لا يزال هو الآخر، ينتظر الوعود الاقتصادية والاجتماعية التي تعهدت بها الحكومة الإيرانية، التي لم ينفذ منها أي شيء حتى الآن، إلا المزيد من جرعات التخدير التي تبتغي امتصاص حالة الغضب الشعبي المتنامية في الشارع الإيراني، وعلى ما يبدو فإن هذا الشارع أضحى يتحين الفرصة المناسبة، للتفاعل مع أي جهد دولي يستهدف إضعاف النظام السياسي، فحالة الأزمة الاقتصادية وصلت اليوم، إلى أدنى مستوياتها، خاصة بعد الهبوط الحاد في قيمة العملة الإيرانية مقابل الدولار الأمريكي، التي قد تستمر لمدة أطول في ظل العديد من المؤشرات، أهمها الإصرار الإيراني على فرض اتفاق نووي يعكس طموحات النظام وليس الشارع الإيراني.
وفي إطار التطورات الأخيرة الخاصة بمستقبل الاتفاق النووي، نقلت شبكة “إيران إنترناشيونال” عن المساعد الحقوقي للرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي قوله، الجمعة، إن الولايات المتحدة وافقت على جزء مهم من مطالب طهران بشأن إحياء الاتفاق النووي، ولفت المساعد الحقوقي إلى أن الأوروبيين “يحاولون إنهاء المفاوضات المستمرة منذ 16 شهرًا”، في حين اعتبر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون أن “الكرة في ملعب الإيرانيين”، جاء ذلك بالتزامن مع تأكيدات وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان على هامش زيارته إلى زنجبار، أن بلاده بذلت “جهودًا كبيرة لرفع الحظر عن طهران ونمر بالمراحل النهائية من العمل”، لكنه أضاف “إذا ما تحلت واشنطن بالواقعية فيمكننا التوصل لحل لتحقيق الاتفاق النووي”.
إجمالًا إن التطورات في الساحة السورية ستنعكس بطريقة أو أخرى على مستقبل المحادثات النووية، خصوصًا إذا ما اتسعت ميادين الصراع الحاليّ، أو نجح حلفاء إيران في جر الولايات المتحدة إلى المناطق المفضلة لهم، وتحديدًا في الداخل العراقي، وهو ما يشير إلى أن الولايات المتحدة تريد حسم هذه التهديدات بأقرب وقت ممكن، وتحديدًا أن الجانب الإيراني غير متفاعل معها حتى الآن، وعلى هذا الأساس في مدى استمرار أو توقف هذه الهجمات، هو ما سيحدد مستقبل صراع الإرداة بين الولايات المتحدة وإيران في المرحلة المقبلة.