شهدت العاصمة الليبية طرابلس على مدار الساعات الأربع والعشرين الماضية، منذ فجر الجمعة 26 أغسطس/آب الحاليّ وحتى عصر اليوم التالي، اشتباكات عنيفة بين الفصائل التابعة لحكومة الوحدة الوطنية بقيادة عبد الحميد الدبيبة، وأخرى موالية لرئيس الحكومة المعين فتحي باشاغا، المدعوم من برلمان الشرق، أسفرت عن مقتل 23 شخصًا بينهم 17 مدنيًا، إضافة إلى إصابة 87 آخرين، بحسب بيان وزارة الصحة الليبية.
الاشتباكات هي الأسوأ خلال العامين الماضيين، فقد شهدت العودة مرة أخرى إلى حرب المدن والشوارع التي توقفت منذ فترة نتيجة المواءمات والتوافقات السياسية بين القوى المتناحرة، وسط مخاوف من اندلاع حرب شاملة يدفع ثمنها الجميع، لتعيد الأوضاع إلى مرحلة الصفر مرة أخرى.
وتعكس تلك التطورات حالة الفوضى والانقسام التي يحياها المشهد الليبي رغم الجهود المبذولة لتبريد الأجواء ومحاولة التوصل إلى صيغة توافقية بين المعسكرين الشرقي والغربي، الأمر الذي يضع كل مسارات التفاوض في مهب الريح، ويضرب بمخرجاتها عرض الحائط.
اشتباكات عنيفة
البداية كانت مساء الجمعة، حين حاولت قوات تابعة لباشاغا (قوات هيثم التاجوري “777” وأسامة الجويلي) الاستيلاء على أراضٍ في طرابلس من عدة اتجاهات، لتصطدم بقوات دعم الاستقرار المساندة لحكومة الوحدة الوطنية، حيث نشبت مواجهات عنيفة باستخدام الأسلحة الخفيفة والرشاشات الثقيلة وقذائف الهاون، وذلك بحسب “رويترز“.
واستمر القتال سجالًا بين الطرفين حتى صباح السبت، حين اشتدت حدته بصورة غير مسبوقة منذ عامين، لترتفع أعمدة الدخان الأسود عبر أفق طرابلس، فيما ترددت أصداء إطلاق نار وانفجارات عدة وفق شهود عيان، ومع حلول الظهيرة بدأت القوات المتحالفة مع باشاغا في الهجوم على طرابلس من 3 اتجاهات، من الشمال الغربي حيث جنزور، ومن الجنوب في منطقة أبو سليم، والشمال الشرقي على طول الطريق الساحلي.
وأفاد شهود عيان بانطلاق قافلة مؤلفة من 300 سيارة تابعة لباشاغا باتجاه طرابلس، حيث دارت مواجهات واشتباكات عنيفة، فيما نشر دبيبة في وقت لاحق مقطع فيديو على الإنترنت يظهره وهو يزور مقاتلين في المدينة بعد توقف الاشتباكات، وسط حالة ذعر بين المواطنين.
تمثل طرابلس حجر العثرة الأبرز أمام المعسكر الشرقي بصفة عامة، فعلى صخورها تحطمت من قبل أحلام الجنرال المتقاعد خليفة حفتر حين فشل في هجومه الذي شنه عليها 2019/2020، وهو الفشل الذي أعاد رسم خريطة التوازنات السياسية في ليبيا
وقد نقلت “رويترز” عن شهود عيان حالة القلق التي خيمت على الأجواء جراء تلك المواجهات، فقال عبد المنعم سالم، من سكان وسط طرابلس: “كان الصوت مرتفعًا جدًا ومخيفًا للغاية، إنه شعور فظيع”، وتابع “هذا مروع، لم أستطع النوم أنا وعائلتي بسبب الاشتباكات”، أما “علي” وهو طالب لم يتجاوز عمره 23 عامًا فأشار إلى فراره من شقته مع أسرته في أثناء الليل بعد أن أصاب الرصاص المبنى، وأضاف “لم نتمكن من البقاء أكثر من ذلك والبقاء على قيد الحياة”.
وكعادة الوضع الفوضوي في ليبيا، تبادلت حكومة الدبيبة وحكومة باشاغا الاتهامات بشأن مسؤولية كليهما عن تطور الأحداث وصولًا إلى هذه النقطة الحرجة، ففي بيان للأولى قالت إن باشاغا تراجع عن المسار التفاوضي لحل الأزمة واتهمته بالهجوم على طرابلس وعرقلة الحل السلمي، فيما أكدت الأخيرة أنها لم ترفض المحادثات وأن حكومة الوحدة الوطنية خرقت كل الاتفاقيات.
طرابلس.. قشة باشاغا الأخيرة
تمثل طرابلس حجر العثرة الأبرز أمام المعسكر الشرقي بصفة عامة، فعلى صخورها تحطمت من قبل أحلام الجنرال المتقاعد خليفة حفتر حين فشل في هجومه الذي شنه عليها 2019/2020، وهو الفشل الذي أعاد رسم خريطة التوازنات السياسية في ليبيا وفق معادلات وتموضعات جديدة لم يعد للجنرال وداعميه من الخارج الكلمة العليا كما كان في السابق.
وكان من مخرجات هذا الفشل عملية السلام التي قادتها الأمم المتحدة والهدنة المبرمة التي جاءت بحكومة وحدة وطنية برئاسة الدبيبة لحكم البلاد بالكامل، بجانب وضع جدول زمني لإجراء انتخابات عامة كان مقرر إقامتها في ديسمبر/كانون الثاني 2021 لولا الخلافات التي شابت المشهد بشأن التصويت وأدواته وهو ما أخرها حتى اليوم.
غير أن فشل الدبيبة هو الآخر في امتلاك زمام الأمور وسط رفض المعسكر الشرقي، أعاد الكرة مرة أخرى لملعب حفتر وفصائله، ليعين البرلمان الشرقي باشاغا رئيسًا للحكومة، وهو القرار الذي رفضه رئيس الحكومة الوطنية الذي قال إن البرلمان ليس له الحق في استبداله وإنه لن يتنحى إلا بعد الانتخابات.
حفتر كان يؤمل نفسه بفتح طرابلس عن طريق حليفه باشاغا بما يساعده على استعادة نفوذه المتراجع وتصحيح صورته المشوهة لدى حلفاء الخارج والقوى الداعمة له، وفي المقابل يعتبر باشاغا أن فتح طرابلس وإخضاعها لسلطته بمثابة أوراق اعتماده رسميًا للداخل والخارج
هنا وجد باشاغا نفسه في مأزق، فالرفض الغربي له سيضع مستقبله السياسي كرئيس للحكومة على المحك، لذا حاول دخول طرابلس في مايو/آيار الماضي، ما أدى إلى نشوب مواجهات وصدامات عنيفة وتبادل لإطلاق النار بين الفصائل التابعة له والأخرى المنضوية تحت لواء حكومة الدبيبة، ما أسفر في النهاية عن خروجه وانسحابه من العاصمة في شكل مهين.
معلوم أن باشاغا لا يمكنه اقتحام طرابلس دون الحصول على ضوء أخضر من حفتر، كونه الجنرال الذي يهيمن على المؤسسة العسكرية وبعض الفصائل في الشرق، هذا بجانب الدعم السياسي المقدم من البرلمان ورئيسه عقيلة صالح، ومن ثم فإن فشله في تحقيق هدفه هو فشل ضمني لحلفائه الذين كانوا يراهنون عليه في تحقيق ما فشلوا هم في تحقيقه قبل عامين.
حفتر كان يؤمل نفسه بفتح طرابلس عن طريق حليفه باشاغا بما يساعده على استعادة نفوذه المتراجع وتصحيح صورته المشوهة لدى حلفاء الخارج والقوى الداعمة له، وفي المقابل يعتبر باشاغا أن فتح طرابلس وإخضاعها لسلطته بمثابة أوراق اعتماده رسميًا للداخل والخارج كرئيس حكومة قادر على حكم البلاد في تلك المرحلة الحرجة، وعليه كانت العاصمة قشته الأخيرة لإنقاذ مستقبله السياسي الذي بات على وشك الانهيار بعد فشل دخول طرابلس أكثر من مرة.
حفتر الرابح الأكبر
منذ غيابه عن دوائر الاهتمام من داعميه الخارجيين، إثر خسائره السياسية المتتالية على أيدي حكومة الغرب، وما نجم عن ذلك من الاستعانة بأسماء بديلة، يحاول حفتر إيجاد موطئ قدم له في المشهد السياسي بأي وسيلة كانت، مستعينًا في ذلك بسيناريوهين متناقضين، الأول دعم باشاغا ومساعدته في تثبيت أركانه كرئيس للحكومة، والثاني وهو السيناريو البديل، ويتعلق بإبرام اتفاق ضمني وتحالف مبدئي مع الدبيبة.
وفي حال نجاح السيناريو الأول وفرض باشاغا الهيمنة على المشهد سيكون لحفتر دوره الرئيسي بصفته الحاضنة العسكرية والتسليحية لرئيس الحكومة الجديد، أما إن فشل هذا السيناريو فعليه بالآخر وهو التحالف مع رئيس حكومة الوحدة الوطنية بحيث يكون له دور في أي سلطة مستقبلية كانت، حتى لو كان مركزها طرابلس.
ثمة توازنات يعقدها حفتر ومليشياته للبقاء في المشهد الليبي، بما يمتلكونه من نفوذ عسكري ونفطي، بعيدًا عن الشعارات الشعبوية التي كان يعزف عليها في السابق، فالجنرال ليس لديه أي مشكلة في التضحية بحليفيه، باشاغا وصالح، من أجل تعزيز نفوذه والبقاء كلاعب أساسي على الساحة الليبية.
لم يكن حفتر والدبيبة من جانب، وصالح وباشاغا من جانب آخر، القوتين الوحيدتين المتصارعتين على كعكة السلطة في ليبيا، فهناك فصائل وميليشيات مسلحة أخرى في الوسط والجنوب، فضلًا عن التشكيلات القبلية المعقدة، من المرجح أن يكون لها دورها في رسم المشهد مستقبلًا، وهو ما يعني أن الأمور لن تهدأ في القريب العاجل إذا ما تجاهل المفاوضون هذا اللاعب المحوري، وغردا معًا بمعزل عنه.
احتواء قبل الخروج عن السيطرة
حالة من القلق تخيم على الأجواء خشية تطور الوضع نحو حرب شاملة سيدفع ثمنها الجميع، في الداخل والخارج، وهو ما دفع نحو التحركات الدبلوماسية والسياسية لتبريد الوضع نسبيًا وتجنيبه مغبة الولوج في مستنقع جديد من الدماء، حيث أشار المتحدث باسم مجلس النواب الليبي في طبرق عبد الله بليحق أن رئيس البرلمان بحث مع عدد من أعضاء مجلس الدولة سبل التوصل إلى توافق ليبي – ليبي وإنهاء المرحلة الراهنة في محاولة لفرض حالة من الاستقرار حتى إجراء الانتخابات بشكل رسمي.
وعلى المستوى الدولي فدعت بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا إلى الوقف الفوري للأعمال العدائية، مذكرة كل الأطراف بالتزاماتهم بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان والقانون الإنساني الدولي لحماية المدنيين والمنشآت المدنية، كما شددت على ضرورة امتناع كل الأطراف عن استخدام أي شكل من أشكال خطاب الكراهية والتحريض على العنف.
أما الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، فدعا إلى وقف فوري للاشتباكات، داعيًا الأطراف الليبية المتناحرة إلى الانخراط في حوار حقيقي لمعالجة المأزق السياسي المستمر وعدم استخدام القوة لحل خلافاتهم، معربًا عن استعداد المؤسسة الأممية لتقديم المساعي الحميدة والوساطة لمساعدة الجهات الليبية على رسم طريقة للخروج من المأزق السياسي.
الوضع في ليبيا ليس مهيأ بالشكل الكامل للحوار السياسي الديمقراطي البناء، رغم الأجواء الممهدة نظريًا، فالنزاعات بين المعسكرين، الشرقي والغربي، وفي الوسط بينهما الجماعات المسلحة والقبلية، على أشدها حتى إن هدأت نسبيًا بين الحين والآخر كرد فعل طبيعي ومنطقي للمسار الدبلوماسي ومخرجات الحوار
وفي السياق ذاته دعت كل من واشنطن وأنقرة والدوحة إلى تغليب الحل السياسي وتسوية الخلافات عبر الحوار والوقف الفوري للمواجهات، مع التأكيد على ضرورة فتح ممرات آمنة لإخراج المواطنين من مناطق الاشتباكات، وأن تعمل الأطراف الليبية جميعها على ضمان حماية المدنيين واعتبار ذلك أولوية قصوى.
يبدو أن الوضع في ليبيا ليس مهيأ بالشكل الكامل للحوار السياسي الديمقراطي البناء، رغم الأجواء الممهدة نظريًا، فالنزاعات بين المعسكرين، الشرقي والغربي، وفي الوسط بينهما الجماعات المسلحة والقبلية، على أشدها حتى إن هدأت نسبيًا بين الحين والآخر كردة فعل طبيعية ومنطقية للمسار الدبلوماسي ومخرجات الحوار، ما يتطلب مزيدًا من الضغوط والجهود الدولية والإقليمية تجنبًا لنشوب حرب شاملة سيكون لها تداعياتها الخطيرة على العالم بصفة عامة والشرق الأوسط تحديدًا.